الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب الوصية بالنساء:
وعن عبد الله بن زَمْعَةَ ـ رضي الله عنه ـ: أنَّهُ سَمِعَ النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَخْطُبُ، وَذَكَرَ النَّاقَةَ وَالَّذِي عَقَرَهَا، فَقَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «{إِذ انْبَعَثَ أشْقَاهَا} انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزيزٌ، عَارِمٌ مَنيعٌ في رَهْطِهِ»، ثُمَّ ذَكَرَ النِّسَاءَ، فَوعَظَ فِيهنَّ فَقَالَ: «يَعْمِدُ أحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأتَهُ جَلْدَ العَبْدِ فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَومِهِ» ثُمَّ وَعَظَهُمْ في ضَحِكِهمْ مِنَ الضَّرْطَةِ، وَقالَ: «لِمَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَفْعَلُ؟!». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.البخاري (4942)، ومسلم (2855)
"عن عبد الله بن زَمْعَةَ ـ رضي الله عنه ـ: أنَّهُ سَمِعَ النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَخْطُبُ ثُمَّ ذَكَرَ النِّسَاءَ ، فَوعَظَ فِيهنَّ" يعني ذكَّر بحق النساء سواءً كنَّ أزواجًا أو غيرهن، وغالب ما جاء من الوصية بالأزواج لدوام الصلة وكثرة الاتصال والمعاشرة، والوصية بالنساء تشمل الأزواج وغيرهن، فوعظ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النساء وذكَّر الرجال بحق النساء ووجوب صيانتهن وحفظهن وعدم ظلمهن ثم نبه إلى ما يتعلق بالتأديب فقال صلى الله عليه وسلم : «يَعْمِدُ أحَدُكُمْ فَيَجْلِدُ امْرَأتَهُ جَلْدَ العَبْدِ» يعمد أحدكم يقصد أحدكم في تأديب امرأته فيستعمل الضرب، ويكون ضربًا على نحوٍ شديد، فمثله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بضرب العبد، وفي رواية «الفحل» يعني البعير، وفي رواية «بضرب الأمة».
والمقصود أنه يضرب ضربًا شديدًا خارجًا عن تحقيق أي غرض أو مقصود، بل هو موجب للنفرة والتباعد والفرقة وعدم الوئام، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فَلَعَلَّهُ يُضَاجِعُهَا مِنْ آخِرِ يَومِهِ» فلعله يضاجعها من آخر يومه، إشارة إلى أن صلة الرجل بالمرأة صلة وثيقة ومثل هذا يفسد هذه الصلة، فكيف يجلدها هذا الجلد وهذا الضرب العنيف الشديد ثم يكون منه طلب لها ومعاشرة لها في آخر اليوم، فهذا لا يلتئم، فإن المضروب تنفر نفسه من الضارب ولا يلتئم معه على حالٍ من الأحوال.
فهذا الحديث فيه نهي النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كما جاء في رواية مصرحًا «لاَ يَجْلِدُ أَحَدُكُمُ امْرَأَتَهُ جَلْدَ العَبْدِ»، وقوله: «يَعْمِدُ» على وجه الإنكار على هذا الفعل، وهو الضرب الشديد الذي يحصل به المنافرة والمشاقة والمباعدة، وهو لا يحقق المقصود الذي جاءت الرخصة في الضرب فيه وهو التقويم والتأديب، وإزالة ما يمكن أن يكون من عثرة في علاقة الرجل بامرأته.
والضرب جاء النهي عنه مطلقًا في حديث إياس بن عبد الله أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لا تَضْربُوا إِمَاءَ اللَّهِ» فنهى عن الضرب ثم رخص فيه على نحوٍ يتحقق به المقصود فتعدى بعض الناس.
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لقد أطاف بآلِ محمدٍ الليلةَ سبعونَ امرأةً كلُّهن يشتكين الضربَ وايمُ اللهِ لا تجدون أولئك خيارَكم»سنن ابن ماجة (1985) فبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن استعمال هذه الوسيلة في التأديب ليس هو مسلك الخيار، بل مسلك الخيار النصح والوعظ والصبر والأناة في المعالجة وليس بالضرب، وإن كان قد رخص فيه لكنه لم يفعله صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ وهي زوجه وهي أصغرهن، ومعلوم أن الصغيرة يحل منها من المشاقة والخروج عن الاستقامة في معاملة الزوج ما يخرج، تقول: "ما ضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده شيئًا قط، لا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله"صحيح مسلم (2328) فلم يكن من مسلكه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التأديب والمعالجة الضرب، ولهذا ينبغي تجنبه لا سيما في هذا الوقت الذي يتجاوز فيه كثير من الرجال حدود الشريعة في الضرب ولا يلتزمون ما جاءت به الرخصة، وإنما يتجاوزون ذلك في صفة الضرب وأيضًا في استعماله حيث يضربون في موضع لا يجوز لهم فيه الضرب وليعلم أن كل من ضرب أحدًا امرأةً أو صغيرًا أو كبيرًا أو خادمًا بغير حق، فإن الله ـ تعالى ـ سيقتص منه يوم القيامة.
ولذلك لما ذكر الله ـ تعالى ـ المعالجة بالضرب في الآية قال: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾[النساء:34] تحذير وتنبيه إلى أن التجاوزفي الرخص لا يغيب عن الله ـ عز وجل ـ وأن الله ـ تعالى ـ يؤاخذ المتجاوز بما تجاوز فيه، وقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾[الأحزاب:58] وهذا يشمل الضارب والاعتداء بالضرب ولو كان ذلك من الزوج لزوجته، ولو كان من الوالد لولده ولو كان من صاحب العمل للعامل كل ذلك داخلٌ في هذه الآية أن أذى المؤمنين والمؤمنات بغير حق يوجب هذا الوصف الذي ذكره الله ـ تعالى ـ ﴿فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا﴾أي إثم البهتان، ﴿فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾.
فيجب على المؤمن أن يعرف حدود الشريعة، وأما من يضع الشريعة في غير موضعها، ثم يستدل بالنصوص على جوره وظلمه فهذا جمع سيئتين:
أولاً نزل النصوص في غير موضعها.
وثانيًا: تجاوزه حدود الله ـ عز وجل ـ في ما أذن فيه وفي ما رخص فيه.
وليذكر أن خير الأمة هم خيرهم لأهلهم، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنسائهم»سنن الترمذي (1162) وفي رواية: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»سنن الترمذي (3895) ومسلك الخيار لا يكون فيه ضربٌ و لا اعتداء، بل فيه رفقٌ وما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه ولا نزع من شيءٍ إلا شانه.
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وصلى الله وسلم على نبينا محمد.