الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد:
نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب الوصية بالنساء:
عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (( لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ )) ، أَوْ قَالَ : ((غَيْرَهُ ))رواه الإمام مسلم في صحيحه. مسلم (1469)
هذا الحديث الشريف فيه توجيهٌ نبويٌ كريم تستقيم به أهم العلاقات بين الناس، وهي علاقة الرجل بامرأته، العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبه إلى ضرورة العناية بهذه العلاقة وتوطيدها بإبعاد كل ما يكون من أسباب البغضاء والشحناء والكره؛ حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً» لا يكره، لا يفرك لا يكره لا يبغضن «مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً» أي ممن يكون بينهم عقد الزوجية، وقد أمر الله ـ تعالى ـ في هذه الصلة بين الرجل وامرأته بما تستقيم به الحال قولاً وفعلاً، فقال:﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[النساء:19]، وعاشروهن بالمعروف والمعاشرة تشمل كل أوجه المخالطة والمعايشة سواء كانت قولية أو فعلية.
فأمر الله ـ تعالى ـ الرجل أن يعاشر المرأة بالمعروف، ولما كانت الطبيعة الإنسانية تتأثر بالمعاملة كرهًا وحبًا، قربًا وبعدًا نبَّه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ضرورة أن يبعد الإنسان عن أن يستولي عليه شعورٌ من موقف أو من خلق أو خصلة فقال:«لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً» ودله على الطريق الذي يحصل به هذا الامتثال لهذا النهي بعدم الوقوع فيه، حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً» أي خصلة من الخصال التي تُنفر وتوجب البغضاء سواء كانت خَلقية او خُلقية، «رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» يعني لا بد أن يجد منها خلقًا آخرإما في موقفٍ من مواقف معاشرته أو في مسلك من مسالكها يرتضيه، فقد تكون المرأة بذيئة اللسان أو سليطة أو كثيرة المطالب لكن ثمة في سلوكها ما يرضى عنه من حسن العشرة وحسن التبعل أو الخدمة أو موقف من مواقف عشرتها يشفع لها فيحمل هذا على هذا.
ولذلك قال: «إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَر»، «غَيْرَهُ» رضي غير هذا الخلق الذي كرهه، وقد نبَّه الله ـ تعالى ـ إلى ضرورة استبعاد المكروه أو البغضاء والكراهية في العلاقة الزوجية فقال ـ تعالى ـ:﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ [النساء:19] ما قال فطلقوهن، ﴿فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾[النساء:19].
فالكره وما يمكن أن يكون من البغض سواء كان ذلك عن موقف أو كان ذلك عن خلق أو خصلة لا يوجب أن يستعجل الإنسان في المباعدة والمفارقة، بل إن صبر وامتثل ما وجه إليه الله ـ عز وجل ـ ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث كانت عاقبة ذلك حميدة عليه في نفسه في الحال والمآل وفي أسرته في الحال والمآل.
وهذا الحديث فيه جملة من الفوائد:
من فوائده: النهي عن تعاطي أسباب البغضاء سواء كان ذلك من الرجل أو من المرأة، فينبغي أن يبعد كل أحد عن ما يبغضه للآخرين.
الثاني من الفوائد: أنه ينبغي للإنسان أن لا يكون قاصر النظر على خصلة في الشخص أو موقف وقع منه فيعامله من خلال ذلك الموقف أو من خلال تلك الخصلة، بل ينبغي أن يوسع النظر إلى بقية الخصال والأخلاق وسائر المواقف اتي تكون منه ليعينه ذلك على طيب المعاشرة وحسن المعاملة.
وفيه: أنه لا تخلو العلاقة الإنسانية مهما كانت وثيقة من معكرات تكون بالجبلة والطبيعة وما يكون عليه مقتضى حال البشرية من الخطأ والتجاوز والقصور والتقصير، فينبغي للإنسان أن لا يطلب الكمال في الناس، فإن طلب الكمال في الناس عسير، بل لا يوجد إذ كل أحد منا فيه ما يحمد.
وفيه: ما يذم فينبغي أن يغلب ما فيه من خير على ما يمكن أن يكون فيه من قصور أو تقصير.
وفيه: أن العدل في المعاملة من أعظم ما يحقق السعادة في العلاقات الإنسانية، وفي علاقة الرجل بامرأته، فإن الإنسان إذا عدل ووازن بين الحسنات والسيئات كان ذلك موجبًا لئلا يظلم و لئلا يجور وأن لا ينسى الفضل الذي بينه وبين غيره كما قال الله ـ تعالى ـ:﴿وَلا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾[البقرة:237] حتى في حال المفارقة والطلاق.
وفيه أيضًا من الفوائد: أنه ما من أحدٍ من أهل الإسلام إلا وفيه خصلة مرضية، فإن الإيمان يحمل الإنسان على الفضائل، فما دام أنه مؤمن لا بد أن يجد فيه ما يرضيه من الخصال ولذلك قال: «لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»، أَوْ قَالَ : «غَيْرَهُ».
وفيه: أنه ينبغي أن يحافظ الإنسان على الأسرة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فلا يبادر إلى الطلاق ولا يبادر إلى الشقاق ولا يبادر إلى المباعدة.
وفيه: أنه إذا وجد خصلة لا يمكن أن يتجاوزها الإنسان بمعنى أنها خصلة عالجها بالهجر عالجها بغير ذلك من وسائل المعالجة ولم يتمكن من التخلص منها، فإنه إن استطاع أن ينظر إلى ما يرضيه من شأن المرأة فينبغي أن يكون ذلك هو المسلك لا أن يفارقها، فإن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، كما جاء به الحديث حديث ابن عمر، وإن كان الحديث في إسناده مقال، لكن المعنى صحيح.
ولذلك الشريعة ضيقت أسباب الفرقة، وندبت إلى كل ما يكون من أسباب الوئام والالتئام والمحافظة على الأسرة ما أمكن ذلك.
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا, وارزقنا العدل في القول والعمل وجملنا بالفضائل وكريم الخصال، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.