الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:-
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين في باب الوصية بالنساء:
وعن عمرو بن الأحوصِ الجُشَمي - رضي الله عنه: أنَّهُ سَمِعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَدَاعِ يَقُولُ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ الله تَعَالَى، وَأثْنَى عَلَيهِ وَذَكَّرَ وَوَعظَ، ثُمَّ قَالَ: «ألا وَاسْتَوصُوا بالنِّساءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذلِكَ إلاَّ أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ في المَضَاجِع، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَربًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فإنْ أطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيهنَّ سَبيلًا؛ ألاَ إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا؛ فَحَقُّكُمْ عَلَيهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلا يَأْذَنَّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ؛ ألاَ وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ في كِسْوَتِهنَّ وَطَعَامِهنَّ». رواه الترمذي، وَقالَ: «حديث حسن صحيح».ابن ماجه (1851)، والترمذي (1163)
عن عمرو بن الأحوصِ الجُشَمي - رضي الله تعالى عنه - : وأخبر أنَّهُ سَمِعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَدَاعِ (أي في خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهي فيما يظهر خطبته يوم عرفة سمعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ بَعْدَ أنْ حَمِدَ الله ـ تَعَالَى ـ وَأثْنَى عَلَيهِ وَذَكَّرَ وَوَعظَ ، ثُمَّ قَالَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ألا وَاسْتَوصُوا بالنِّساءِ خَيْراً» ألا كلمة لفت نظر وتنبيه، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:«وَاسْتَوصُوا بالنِّساءِ خَيْراً» بيان ما الذي يجب أن يكون عليه الإنسان في معاملته للنساء عمومًا وللزوجات على وجه الخصوص؛ لأن الحديث سيق في بيان حق المرأة على الرجل وحق الرجل على المرأة.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:«وَاسْتَوصُوا بالنِّساءِ خَيْراً» أي تواصوا فيما بينكم بالنساء خيرًا، ويوصي الإنسان نفسه بذلك، فالاستوصاء هو طلب الوصية، وقيل استوصوا أي اقبلوا وصيتي في النساء، وذلك أنه أوصى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنساء خيرًا أي أن يعاملن بالخير، فالخير اسمٌ جامع لكل أوجه الإحسان القولية والعملية، فقوله: «وَاسْتَوصُوا بالنِّساءِ خَيْراً» يعني اقبلوا وصيتي لكم في شأن النساء، وعهدي إليكم في شأن النساء بالإحسان إليهن من كل وجه قولاً وعملاً، فالخير جامع لكل إحسانٍ قولي أو عملي سواء كان واجبًا أو كان مستحبًا.
وقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ:«فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ» بيان لحال المرأة مع الرجل مع زوجها في ما يتعلق بتشبيه الصلة في كون المرأة محبوسة على زوجها لا تملك انفكاكًا منه إلا بما أجراه الله ـ تعالى ـ من أحكام الانفصال فهي تحت ولايته وفي عصمته وفي ذمته وعهده، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تشبيه صلة الرجل بالمرأة التي تقتضي الإحسان عليها والمحافظة على حقوقها وأداء الأمانة المتصلة بها قال: «فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ» أي أسيرات عندكم، فالعوان جمع عاني وهو الأسير، وهذا تشبيه لصلة الزوجة بزوجها، صلة الزوجة بزوجها، وأنها على هذا النحو من الصلة التي تستوجب الإحسان وتستوجب الرعاية وتستوجب الحفظ والصيانة.
ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تأكيد هذا المعنى في الصلة بين الرجل والمرأة: «لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئاً غَيْرَ ذلِكَ» ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك يعني ليس لكم أن تتعاملوا مع النساء خارج هذه الوصية، فالمشار إليه في قوله: «لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئاً غَيْرَ ذلِكَ» يعني غير ما أوصيتكم به من العهد والوصية بالخير للنساء في قوله: «وَاسْتَوصُوا بالنِّساءِ خَيْراً».
فالأصل في علاقة الرجل بامرأته هو هذا المعنى وهو الوصل والإحسان واللطف والعطف والرحمة، قال الله ـ تعالى ـ:﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾[الروم:21]، فهذا هو الأصل في علاقة الرجل بامرأته، وهو الذي ينبغي أن يحافظ عليه، ولا يخرج عنه إلا على وجه الاستثناء.
ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إلاَّ أنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» فهنا يكون قد خرج الأمر عنالأصل، وإلا فالأصل هو الوصية بالنساء خيرًا، والصبر على ما يمكن أن يكون من نقصٍ خَلْقي أو خُلُقي من قصور أو تقصير، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ»، وقد قال الله ـ تعالى ـ:﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾[النساء:19] .
فإذا حصل ما يقتضي الخروج عن الإحسان والخيرية والبر واللطف في معاملة المرأة فهو استثناء يقيد بقدره، يقيد بقدره وما تقتضيه المصلحة، وما يقتضيه الإصلاح للصلة بين الرجل والمرأة، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:«إلاَّ أنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ»أي بفاحشة ظاهرة، والمقصود بالفاحشة هنا هو كل قبيح من القول أو العمل ولذلك فسره جماعة من أهل العمل بما قبح من الذنوب والمعاصي، ولا يلزم من ذلك أن يكون هذا بالزنا، بل بالتأكيد أن ذلك ليس مقصودًا؛ لأن الزنا له حكمٌ يخصه وعقوبة منصوصة وليس ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من أوجه المعالجة والإصلاح، فقوله: «إلاَّ أنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» يعني يأتين بقبيحٍ من القول والعمل يخرجن به عما يجب عليهن في حق أزواجهن.
وقد جاء تفسير ذلك في القرآن الكريم في قوله ـ تعالى ـ:﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾[النساء:34] فجعل الفاحشة في الآية هي عدم طاعة المرأة زوجها فيما يجب عليها طاعته فيه، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال فيما يتعلق بالخروج عن الأصل في معاملة المرأة بالإحسان والخير قال: «إلاَّ أنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» فعند ذلك ينبغي المعالجة بما يصلح المسار ويقوم الصلة بين الرجل وامرأته.
«فَإنْ فَعَلْنَ» وقع منهن نشوزٌ وعصيانٌ فيما يجب عليهن، فعند ذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فَاهْجُرُوهُنَّ في المَضَاجِع» اهجروهن في المضاجع يعني تجنبوا معاشرتهن في مواضع الاضطجاع في الفرش يعني يترك الرجل فراش امرأته فيبيت في مكانٍ آخر أو في نفس الفراشأو يترك جماعها كما قال بعض أهل العلم أو يوليها ظهره أو لا يلين لها الحديثفي محادثتها في فراشها وما أشبه ذلك مما فسر به قوله: «فَاهْجُرُوهُنَّ في المَضَاجِع» فقد فسر بترك الجماع وفسر بترك المبيت في الفراش، وفسر بالإعراض بالنفس والبدن عنها بأن يوليها ظهره وفسر بأن يقول لها هجرًا من القول، وهو القول الغليظ المخالف للأصل في علاقة الرجل بامرأته.
وكل ذلك غرضه وغايته إقامة الجادة في الصلة بين الرجل والمرأة، فهو نوعٌ من الاستصلاح لا بد أن يكون بحق وأن يكون بعدل، وأن يكون بقدر ما تقتضيه الحاجة، فلا يزيد ولا يتجاوز، فإن الزيادة والتجاوز ظلمٌ ينهى عنه.
ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَاضْرِبُوهُنَّ» وهذا على وجه الرخصة وليس أمرًا بالفعل بلجاء حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذباب وفيه نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ضرب النساء، ولما رخص لهم في ذلك قال: «ليسَ أولئِكَ بخيارِكُم»وسيأتي إن شاء الله ـ تعالى ـ والمقصود أن الضرب هنا رخصة، ولكن لما كان الضرب في حياة الناس قد تجاوز فيه كثيرٌ من الناس الحدود الشرعية إما في سببه والباعث إليه، وإما في صفته وقدره فإنه ينبغي كفَّ اليد عن هذا والتوقف عنه لما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي تعود على الصلة بين الرجل وامرأته.
وقد غلَّظ فيه النبي صلى الله عليه وسلم وحذَّر وبيَّن أن ذلك لا يكون على وفق ما يشتهيه الإنسان فقد صلى الله عليه وسلم: «لَا يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الفحل» وفي رواية «الأمة» وفي رواية «الْعَبْدِ» «ثم يُضاجِعُها» أو «فلعَلَّه يُضاجِعُهافِي آخِرِ الْيَوْمِ»صحيح مسلم (2855)، وهذا يدل على تقبيح هذه الوسيلة من وسائل المعالجة، وينبغي كفَّ اليد عن هذا، فإنه لا يضرب الخيار، الخيار لا يضربون إنما لا يكون ذلك إلا في حال العجز ولا يستعمله خيار الناس، ولذلك كان هديه صلى الله عليه وسلم ترك الضرب قالت عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ: لم يضرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده شيئًا لا امرأة ولا عبدًا ولا دابةً، لا امرأةً ولا عبدًا إلا في سبيل الله، إلا أن يكون يجاهد في سبيل الله.
فينبغي أن يراعى هذا المعنى وأن يجتنب، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيَّد الضرب بوصفٍ يدل على أنه ليس للتشفي ولا لإطفاء الغائظة والغضب إنما للإصلاح قال: «ضَرباً غَيْرَ مُبَرِّحٍ» فإن حصل المقصود بالمعالجة بالوعظ أو بالهجر، فإنه ينبغي أن يكف الإنسان عن الاعتداء، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فإنْ أطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيهنَّ سَبيلاً» يعني إن حصل منهن الطاعة لكم «فَلا تَبْغُوا عَلَيهنَّ سَبيلاً» في شيءٍ من القول أو الفعل بل ينبغي العودة إلى الأصل الذي هو صدر وصيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: «وَاسْتَوصُوا بالنِّساءِ خَيْراً».
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.