الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:-
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب الوصية للنساء في رياض الصالحين:
عن عمرو بن الأحوص الجشمي ـ رضي الله تعالى عنه ـ وفيه وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنساء حيث قال: «ألا وَاسْتَوصُوا بالنِّساءِ خَيْراً».
وقد ختم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الوصية ببيان الحق الذي للرجل والحق الذي للمرأة فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ألاَ إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا» ابن ماجه (1851)، والترمذي (1163)
فأثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقًا للرجال على النساء وحقًا للنساء على الرجال، والله ـ تعالى ـ قد بين ذلك في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾[البقرة:228] فأخبر الله ـ تعالى ـ بحق النساء وبحق الرجال وأنه للمرأة من الحقوق مثل ما للرجل من الحقوق، وللرجال على النساء درجة.
وقد بين ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ هذه الحقوق من حيث الأصل فقال: «ألاَ إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَحَقُّكُمْ عَلَيهِنَّ» حق الرجال على النساء، حق الأزواج على زوجاتهن، «أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلا يَأْذَنَّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ» وهذا جامع لحقوق الرجل على المرأة فيما يتعلق بهذا الجانب وهو أن المرأة لا تدخل بيت زوجها أحدًا يكرهه، ولا تُجلسه على فرشه وساءً كان فراشًا خاصًا أو فراشًا في غير الأماكن الخاصة أحدًا إلا بإذنه، وهذا معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:«فَحَقُّكُمْ عَلَيهِنَّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلا يَأْذَنَّ» يعني بالدخول «في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ».
ولا فرق في ذلك بين رجلٍ وامرأة قريب أو بعيد، محرم أو أجنبي، فإن الحديث عامٌ فكل من كره الرجل دخوله إلى بيته، وكل من كره الرجل أن يجلس على فرشه، فإنه ليس للمرأة أن تأذن له، بل يجب عليها أن تمتنع من ذلك، فإن في الإذن له في ذلك اعتداءٌ، فإن في الإذن في ذلك اعتداءً على حق الرجل، ولهذا ينبغي للمرأة أن تلاحظ هذا المعنى.
والإذن نوعان:- إذن عرفي وإذن لفظي، فالإذن اللفظي أن تقول: سيأتينا اليوم كذا وكذا فيقول: حيَّاهم الله، والإذن العرفي هو كل من جرى العرف بالإذن له في الدخول، فإنه لا تمنعه إلا أن تعلم أنه يكره دخوله أو أن يتلفظ بذلك فيقول: لا أسمح بأن يدخل فلان أو لا أسمح بأن تأذني لفلان أو تدعي فلانًا أو فلانة أو ما أشبه ذلك، ولكن ينبغي للرجل أن يُعاشر المرأة بالمعروف فيما يأذن وفيما يمنع حتى لا يقع الشقاق والنفرة بين الرجل والمرأة.
ثم بعد أن بين ذلك ـ صلى الله عليه وسلم ـ حق المرأة على الرجل فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ:«ألاَ وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ في كِسْوَتِهنَّ وَطَعَامِهنَّ» وهذا بيان لحق المرأة على الرجل وهو أن يُحسن إليها في مطعمها وكسوتها، «أنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ في كِسْوَتِهنَّ» يعني فيما يكون من كسائهن سواءً كان الكساء البيتي أو الكساء للزينة أو ما إلى ذلك فهو شامل لكل ما تلبسه المرأة.
«وَطَعَامِهنَّ» فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الرجل بالإحسان إلى المرأة في ما ينفق عليها ولا خلاف بين أهل العلم في أن من حقوق المرأة على الرجل أن ينفق عليها في مطعمها وفي مشربها وفي مسكنها وفي كسوتها.
وقد جاء بيان هذا فيما رواه أبو داودسنن أبي داود (2142) وقد نقله المصنف ـ رحمه الله ـ من حديث معاوية بن حيدة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ : قُلْتُ : (يَا رَسُول الله ، مَا حق زَوجَةِ أَحَدِنَا عَلَيهِ) وهذا تفصيل للحق السابق وتأكيد له الذي تضمنه حديث عمرو بن الأحوص الجشمي رضي الله تعالى عنه.
قال: مَا حق زَوجَةِ أَحَدِنَا عَلَيهِ ؟ قَالَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طعِمْتَ» وهذا بيان للإحسان المأمور به في قوله صلى الله عليه وسلم: «ألاَ وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ في كِسْوَتِهنَّ وَطَعَامِهنَّ» فمن الإحسان في الطعام أن تستوي معها في الطعام فتطعمها مما طعمت، «وَتَكْسُوهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ» يعني أن تلبسها إذا لبست، فتلبسها على نفس المستوى الذي تلبسه ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَلاَ تَضْرِبِ الوَجْهَ» وهذا منعٌ لضرب الوجه لما في ذلك من الأذية وسوء العشرة حتى فيما رُخِّص فيه من الضرب لا يجوز ضرب الوجه.
قال: «وَلا تُقَبِّحْ» يعني ولا تقل لها قولًا قبيحًا سواء قبحك الله أو ما أقبحك، سواء تقبيح خِلقَة أو خُلُق وسواءً كان ذلك في جدٍ أو هزل فإن الله ـ تعالى ـ قال: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [الإسراء:53]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة:83]، فينبغي أن يُجافي الإنسان وأن يُبعِد عن كل قولٍ قبيح.
قال: «وَلا تَهْجُرْ إلاَّ في البَيْتِ» وهذا بيان أن الهجر الذي أُذِن به ليس مطلقًا بل بما يصلح به الإصلاح قال: «وَلا تَهْجُرْ إلاَّ في البَيْتِ» يعني ولا تفارقها بترك مساكنتها، فإن الهجر الذي أُمِر به قيده الله ـ تعالى ـ في قوله: ﴿واَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾[النساء:34]، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «فإنْ فعَلْنَ فاهجُروهنَّ في المضاجِعِ» فالهجر في المضجع ولا يستلزم ذلك أن يترك البيت، لكن هل يؤذن فيما إذا كان ترك البيت يحصل به الإصلاح أن يهجر بترك البيت، هذا مقيد بتحقيق المصلحة، ولذلك هجر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أزواجه شهرًا لما غلظنَّ عليه في طلب ما لا يملك ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يكون من النفقة وأراد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تقويمهن فهجرهن شهرًا وكان في مشربة.
وقد أخذ منه جماعة من أهل العلم جواز الهجر في غير البيت، لكن هذا من غير إضاعة الحقوق، فالنفقة وسائر ما يكون من الحقوق التي للمرأة ينبغي أن تُراعى، والأصل أن لا يكون الهجر إلا في البيت إلا إذا اقتضته مصلحة، فقد يكون الهجر في المضجع فقط، وقد يكون بأن ينتقل إلى فراش آخر أو إلى غرفة أخرى.
وقد تستلزم الحال للإصلاح أن يهجر حتى البيت كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقوله: «وَلا تَهْجُرْ إلاَّ في البَيْتِ» بيان أن الأصل في الهجر أن لا يكون إلا في البيت، وقد ورد الإذن بالهجر خارج البيت إذا اقتضت ذلك مصلحة.
والمقصود أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيَّن في هذا الحديث ما يكون من حق المرأة على الرجل في طعامها وفي كسوتها، وأنه في سياق التأديب ينبغي أن لا يُفرِط وأن يكون على نحوٍ من الرفق والرحمة يتحقق به المقصود، فلا يضرب الوجه ولا يُقبِح، وهذا منعٌ للأذى الحسي والأذى اللفظي والأذى المعنوي في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَلا تَهْجُرْ إلاَّ في البَيْتِ».
والحديثان فيهما فوائد عديدة:
من أبرزها: وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنساء، وقد كثُر هذا على وجه بينٍ واضح.
وفيه: أن المرأة بطبيعتها وجبلتها تستدعي الرحمة واللطف والإحسان.
وفيه: أنه ليس للإنسان أن يخرج عن الأصل في معاملة النساء إلا بما دلَّ عليه الدليل، وذلك مقيد بقيود وليس وفق هوى ورغبة وما يشتهي الإنسان، وفيه بيان حق الرجل على المرأة وحق المرأة على الرجل، وفيه أن المرأة لا يجوز لها أن تتصرف في بيت زوجها وملكه بما لا يرضى.
وفيه: أن الرجل ينبغي له أن يُوفي المرأة حقها في طعامها وشرابها على وجه الإحسان دون منة ولا أذى، بل يجب عليه أن يكون في ذلك على وجهٍ كريمٍ محسن بعيد عن المن والأذى.
وفيه أيضًا: بيان حرص الصحابة على معرفة الحقوق وأن معرفة الحقوق مما يعين على أدائها.
وفيه أيضًا: أنه في مقام التأديب يجب أن يُراعي الإنسان الضوابط الشرعية وأن لا يطلق لنفسه الهوى.
هذه جملة من الفوائد في هذين الحديثين، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.