الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:-
فنقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين في باب الوصية بالنساء:
عن أَبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أكْمَلُ المُؤمِنِينَ إيمَاناً أحْسَنُهُمْ خُلُقاً، وخِيَارُكُمْ خياركم لِنِسَائِهِمْ» رواه الترمذي ، وَقالَ : ((حديث حسن صحيح)).أبو داود (4682)، والترمذي (1162)
هذا الحديث الشريف فيه بيان عظيم منزلة حسن الخُلُق حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أكْمَلُ المُؤمِنِينَ إيمَاناً أحْسَنُهُمْ خُلُقاً» أي أكملهم في تحقيق خصال الإيمان وصفاته فالإيمان شُعب وخصال أعلى من يحقق ذلك هم من فازوا بحسن الخلق وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الأخلاق من خصال الإيمان في ما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ»صحيح مسلم (35) وهذا يدل على أن الإيمان منه ما يكون قولاً ومنه ما يكون عملًا ومنه ما يكون باطنًا في القلب.
فالحياء خصلة في قلب الإنسان في الأصل تنعكس على عمله، وكذلك إماطة الأذى هو من حسن الخُلُق، فذكر ـ صلى الله عليه وسلم ـ من شعب الإيمان المتعلقة بمحاسن الأخلاق وفضائلها خصلتين الحياء، وفيه خيرٌ عظيم فهو يحمل على كل فضيلة ويكف الإنسان عن كل قبيحة، وذكر أيضًا حسن الخلق بإماطة الأذى عن الطريق، فإن من أماط الأذى عن الطريق وهو نفعٌ عام لا يقصد به معينًا لن يؤذي أحدًا بعينه، بل سيكف أذاه عن الناس.
فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أكْمَلُ المُؤمِنِينَ إيمَاناً أحْسَنُهُمْ خُلُقاً» يعني أعلاهم مرتبةً وأرفعهم منزلةً في تحقيق خصال الإيمان أحسنهم خُلُقًا، ولا عجب، فإن الدين خُلُق فكلما كمُل خُلُق الإنسان وحسُن كمُل دينه، ولذلك قال ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ»مسند الإمام أحمد (8952) فكمال خُلُق الإنسان وحسن خصاله وطيب معشره وكريم سجاياه هي من خصال الإيمان التي ينبغي أن يسابق إليه الإنسان.
وحُسن الخُلُق يدور على معنيين في الأصل: أن يكف شره عن الناس وأن يسعى في إيصال الخير إليهم، ولذلك قيل في محاسن الأخلاق بذل الندى يعني بذل الخير والفضل والإحسان وكف الأذى يعني الإمساك عن أذية الناس أو إيصال شرٍ إليهم.
فهذان أصلان يتحقق بهما حسن الخُلُق، فليس حَسن الخُلُق من يؤذي غيره قريبًا كان أو بعيدًا، وليس حَسن الخُلُق من لا يشهد الناس منه فضلًا وإحسانًا في قوله وعمله وباطنه، فإن طيب الباطن هو من حُسن الخُلُق لكن «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»البخاري (13)، ومسلم (45) سلامة القلب على أهل الإيمان هو من محاسن الأخلاق، و كلما كمل الإنسان طيب أخلاقه في قلبه وفي قوله وفي عمله كمُل إيمانه، ولهذا كان أقرب الناس إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحاسنهم أخلاقًا، فإن حُسن الخُلُق موجب للقرب من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الآخرة؛ لأنه قُرُبٌ منه في الدنيا، فإنه من اقترب منه في الدنيا بسلوك سبيله ولزوم هديه والعمل بسنته كان ثمرة ذلك أن يكون قريبًا منه يوم القيامة.
وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إنَّ مِن خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلَاقًا»، وفي رواية «إنَّ أحَبَّكم إليَّ أحاسِنُكم أخلاقًا»، فقوله صلى الله عليه وسلم: «أكْمَلُ المُؤمِنِينَ إيمَاناً أحْسَنُهُمْ خُلُقاً» يدور على هذا المعنى الذي بينه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أحاديث أُخر وأحق الناس بحسن الخلق هم أقربهم منك، ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث بعد هذا العموم قال: «وخِيَارُكُمْ خياركم لِنِسَائِهِمْ» خياركم أي أسبقكم في الخيرية وحُسن الخلق وطيب المعشر أسبقكم إلى الإحسان إلى نسائهم.
وقوله: «لِنِسَائِهِمْ» أي كل من لك بهم صلة من هذا الجنس وهم النساء سواء كانت زوجًا أو كانت أمًا أو أختًا أو بنتًا أو كانت ذات رحم بل من العلماء من قال: إنه يشمل الجنس على وجه العموم، ولكن الذي يظهر ـ والله تعالى اعلم ـ أن أحقَّ أولئك هم الأقرب، والإحسان إلى عموم الخلق مطلوب، لكن الأقرب هم الأحق بالخيرية، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرجل لما سأله من أبر؟ قال: «أمَّكَ وأباكَ، فأختَكَ وأخاكَ، ثمَّ أدناكَ أدناكَ»سنن النسائي (2532).
وفي رواية الصحيح قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جواب من سأله مَن أَحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قالَ: «أُمُّكَ» ثم كررها في جواب السائل، قالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ» فينبغي للإنسان أن يُدرك هذا المعنى.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:
من فوائده: أن الإيمان يتفاضل وليس على مرتبة واحدة، فالناس فيه متفاوتون وهذا محسوسٌ مشاهد، فإن يقينك بما أخبر به الله ورسوله، يتفاوت في نفسك أنت في أحوال إيمانك قوةً وضعفًا، فكيف بأحوال الناس، الناس متفاوتون في الإيمان، فكلما زاد يقين الإنسان وإقراره وقبوله وعمله بما جاءت به الشريعة زاد إيمانه، وإذا نقص نَقُص إيمانه، ولهذا ينقص الإيمان بالمعصية ويزيد بالطاعة.
وفيه: أن محاسن الأخلاق من أعلى ما يزيد الخُلُق، فينبغي للإنسان أن يحرص على حُسن خُلُقه، وفيه أن أحق الناس بحسن الخُلُق هم النساء، ثم بعد ذلك هم في ذلك درجات الأدنى فالأدنى، ثم بعد ذلك عموم الخلق من سائر جنس بني آدم وغيرهم فإن الله ـ تعالى ـ قال: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة:83]، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، زينا بزينة الإيمان، واهدنا إلى أحسن الأخلاق واصرف عنا سييئها، لا يهدي إلى أحسنها إلا أنت، ولا يصرف سييئها إلا أنت، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.