المقدم:بسم الله الرحمن الرحيم مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نحييكم تحية طيبة عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة في هذه الحلقة المتجددة لبرنامج "الدين والحياة" والتي نستمر معكم فيها على مدى ساعة كاملة بمشيئة الله تعالى.
في بداية هذه الحلقة مستمعينا الكرام تقبلوا تحياتي محدثكم وائل حمدان الصبحي، ومن الإخراج ماهر ناضرة، ومن استديو الهواء لؤي حلبي.
باسمكم جميعًا مستمعينا الكرام أرحب بضيفنا الكريم، ضيف برنامج" الدين والحياة" فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم حياك الله يا شيخ خالد أهلا وسهلا.
الشيخ:-مرحبا بك، حياك الله وحيا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مستمعينا الكرام في برنامج "الدين والحياة"، دائمًا ما نناقش موضوعات تعنى بحياة المسلم في هذه الدنيا، نناقشها ونبين أصلها وقربها من ديننا الإسلامي، ونبين أيضًا وجهة نظر ديننا الإسلامي فيها، وكيف يسعد فيها المسلم في دينه ودنياه بمشيئة الله تعالى.
في هذه الحلقة نتحدث تحت عنوان "الدنيا متاع" نتحدث عن هذا المعنى الذي ورد في كتاب الله –عز وجل- وفي سنة المصطفي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، سنتحدث عن سياقات ذكر هذا الوصف أيضًا في كتاب الله –تبارك وتعالى- وفي سنة المصطفي عليه الصلاة والسلام، سنتحدث إجمالًا عن هذا المعنى في هذه الحلقة.
فضيلة الشيخ حديثنا عن الدنيا وأنها متاع، في بداية حديثنا نريد أن نتعرف على هذا المعني ومعنى كون الدنيا متاع.
الشيخ:- الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فالحياة الدنيا هي الدار التي خلق الله تعالى فيها الجن والإنس ليبتليهم ويختبرهم في تحقيق العبودية له، كما قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾[الملك: 2] الموت والحياة وفي هذه الحياة الدنيا ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك: 2]، فما بعد هذه الحياة ليس ثمة إلا الجزاء الذي يكون بعد البعث والنشور، وبعدها خلود فلا موت لأهل الجنة، وكذلك لأهل النار.
فالحياة الدنيا هي المدة الزمنية التي ابتلى الله تعالى فيها الإنسان بما ابتلاه به من الشرائع التي جعلها الله تعالى طريقًا للفوز بالآخرة، ولذلك هذه الحياة الدنيا هي الحياة القريبة، ولذلك سميت دنيا كقوله تعالى: ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾[الحاقة: 23] أي قريبة، والدنو هو القرب، فالدنيا مأخوذة من الدنو وهو القرب، وكذلك تطلق الحياة الدنيا على الحياة التي نزلت في قَدْرها ومكانتها فهي من الدنو وهو الضيق والنزول والنقص الذي وصفت به هذه الدنيا؛ لما فيها من الأوصاف الموجبة أو لما فيها من الأحوال الموجبة لهذا الوصف.
وبالتالي الحياة الدنيا حياة ناقصة، الحياة الدنيا هي حياة قريبة وهي ما يعيشه الناس، وهي مما امتن الله تعالى به على الناس ليبتليهم ويختبرهم.
القرآن الكريم عندما تكلم عن الحياة الدنيا ذكر الحياة الدنيا وذكر ما يقابلها وهو الحياة الآخرة أو الدار الآخرة، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾[العنكبوت: 64]، يعني الحياة الكاملة التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
الدنيا إذا تأمل الناظر فيما ذكره الله تعالى من شأنها في القرآن الكريم وجد أن الله تعالى ذكر في الدنيا أوصافًا تبين حقيقتها، وتكشف ما يمكن أن يكون غائبًا عن كثير من المفتونين بها، قال الله تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾[العنكبوت: 64]، وقال تعالى بعد ذلك: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[العنكبوت: 64] وهذا إشارة إلى أن كثيرًا من الناس تخفى عنهم هذه الحقيقة، وهي أن الحياة الدنيا لهوٌ بالقلوب ولعب بالأبدان، وأن هذا اللهو وهذا اللعب هو السمة الغالبة على أحوال هذه الدنيا وعلى شؤونها، وبالتالي العاقل البصير هو الذي يستثمر هذه الدنيا فيما يقربه إلى ربه -جل في علاه- فيما يدنيه إلى مولاه، ويدرك أنها دار عبور يعبر منها إلى الدار الآخرة التي هي الحياة الحقيقية وهي المستقر.
ولذلك قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾[العنكبوت: 64]، وكما قال تعالى في قصة وخبر الرجل الصالح من آل فرعون عندما قال: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾[غافر: 39]، فأخبر أن الآخرة هي الدار المستقرة التي يبقى فيها الناس، ويمتد عيشهم ولا ينقضي بل هو خلود فلا موت ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾[غافر: 39]، هذا التوصيف القرآني للحياة الدنيا بأنها لهو ولعب، وأنها متاع وأنها زينة هو بيان لحقيقتها التي يغفل عنها كثير من الناس ويبين أيضًا الجوانب التي تشغل الناس عن استثمار هذه الحياة بما يرضي به الله تعالى عن الإنسان.
الحياة الدنيا كما ذكر الله تعالى في كتابه الحكيم متاع، والمتاع اسم يطلق على ما كان من الأمور منقطع غير دائم، فالمتاع الذي لا يدوم، المتاع هو الشيء الذي لا يستمر، المتاع هو الشيء الذي يمتد مدة من الزمن ثم يزول ويتحول ويرتحل وينتقل، فلذلك سمِّيت الحياة الدنيا بهذا الاسم؛ لأنها لا تدوم، ولأنها لا تستمر بل سرعان ما تنقضي وتتحول وتزول.
وهذه الحقيقة إذا أدركها الإنسان عرف أن الدنيا بما فيها وبما جعله الله تعالى من أحوالها إنما هي وسيلة وطريق يصلون به إلى ما يؤملون من عطاء الله –عز وجل- والفوز برضوانه جل في علاه، ولهذا ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- هذا الوصف للدنيا في قوله –صلى الله عليه وسلم- فيما جاء في الصحيح من حديث عمر «الدُّنيا مَتاعٌ، وخَيرُ مَتاعِ الدُّنيا المرأةُ الصَّالحةُ»[صحيح مسلم:ح1467/64] ثم ذكر المرأة الصالحة وأنها خير ما يكون مما يمن الله تعالى به على الإنسان في هذه الدنيا لماذا؟ لأن المرأة الصالحة تعينه على كل خير، وتقربه من كل برٍّ وتكون عونًا له من كل وجه على خير دينه ودنياه.
إذًا الدنيا متاع ينتفع منه الإنسان بُرهة من الزمن، ثم ينقطع ويفنى، ولذلك ما عيبت الدنيا بشيء أوضح وأبلغ في ذكر حالها من كونها متاع، فمعيبة الدنيا من ذكر فنائها، وتقلب أحوالها، وعدم دوامها وهو أدل دليل على انقضائها وزوالها، فتتبدل صحتها بالسقم، ووجودها بالعدم، وشبيبتها بالهرم، ونعيمها بالبؤس، وحياتها بالموت، فتفارق الأجسام النفوس، ويزول عامرها ويحول إلى خراب، وكل اجتماع فيها إلى فرقة وكل ما فوق التراب تراب.
هذه حقيقة الدنيا فهي منقطعة لا تدوم، ولذلك سميت متاع؛ لأن المتاع هو الشيء الذي ينتفع منه الإنسان مدة من الزمن، ثم ينقطع ويفنى ويتحول ويزول، فهي لا تصفو لأحد، الدنيا لا تصفو لأحد ولو صفت لصفت لسادات الدنيا، وقد ذكر الله تعالى من قصص الأمم السابقة وأحوال من تقدم فيهم عبرة، فهذا سليمان -عليه السلام- الذي أعطاه الله تعالى ما لم يعطه أحدًا من العالمين، من التحكيم والملك والتسخير ومع ذلك زال ذلك كله، وارتحل عن هذه الدنيا.
وهذا يوسف -عليه السلام- جعله الله تعالى عزيزًا في مصر وكبيرًا فيها، وآتاه ما آتاه من العطايا والهبات ومكَّنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء، ثم بعد ذلك ارتحل وزال كأن لم يكن في الدنيا، من هو مذكور بهذا الاسم أو مر بهذا الوصف، وهذا إنما ذكرت هذين المثالين وهم من أنبياء الله –عز وجل- والرسل الكرام لأجل أن يتبين أنه إذا كان هذا حال الرسل وهم أكرم الناس على الله –عز وجل- لم يبق مما أعطاهم من الدنيا شيء، بل ارتحلت عنهم وتحولت، فغيرهم من باب أولى.
ولهذا ينبغي أن يعتبر الإنسان بهذا المعنى وهذا التوصيف الإلهي لهذه الدنيا بما وصفها به حتى يدرك ما ينبغي أن يكون عليه حاله فيه، فإن الدنيا لا تدوم ولا تستمر، بل هي أنواع من المتع وأنواع من اللذات سرعان ما تتحول وتزول، وقد ذكر الله تعالى من أنواع متع الدنيا وصنوف عطاياه فيها ما يبين تنوعَ هذه المتع، وأنه يمكن أن تكون هذه المتع جميعها طريقًا لطاعة الله –عز وجل-، طريقًا للفوز برضوانه، فإن كان الأمر كذلك حسنت الدنيا وحسنت الآخرة.
يعني وصف الدنيا بأنها متاع ليس ذمًّا على وجه الإطلاق، بل هو وصف لحقيقة ينبغي أن يدركها الإنسان ليعي كيف يتصرف؟ وكيف يعمل؟ وكيف يدرك من هذا المتاع ما يقربه إلى ربه –جل وعلا-، ما يكون سببًا له إلى ما يؤمل من الثواب والأجر والخير والعطاء والهبات والكرم.
ولهذا قال –صلى الله عليه وسلم-: «وخَيرُ مَتاعِ الدُّنيا المرأةُ الصَّالحةُ»[تقدم]، أي خير متاعها المقارن الصالح بالنسبة للرجل المرأة الصالحة، وبالنسبة للمرأة الرجل الصالح، فخير قرين للإنسان هو من يقربه إلى ربه جل في علاه، الدنيا مليئة بالملذات، مليئة بالشهوات، مليئة بالمستحبات، لكنها لا تخلص من كدر وأذى يرافقها، قال الله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[آل عمران: 14]، هذا المذكور من أنواع المشتهيات والمحبوبات والملذات هو متاع الحياة الدنيا، فهل هذا هو نهاية المطاف؟ وهل هذا هو نهاية الأمل؟ الجواب: لا، ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾[آل عمران: 14]، أي حسن المرجع لمن استثمر هذه الشهوات وهذه الملذات وهذه العطايا فيما يقربه إلى ربه –جل وعلا-.
ولهذا ليست الدنيا مذمومة على كل حال وعلى كل وجه، إنما المذموم هو تصرف الإنسان في هذه الدنيا، وتصرفه فيما يكون في شأنها من فتن واختبارات وابتلاءات، ولهذا ذكر الله تعالى في شأن الدنيا أنها تغرُّ، قال: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[آل عمران: 185]، وهذا بالنظر إلى حال بعض الناس أنه قد يغتر بما يكون في هذه الدنيا من مشتهيات فينهمك فيها، وينغمس في طلبها وتحصيلها والاستكثار منها على نحو يصيبه بغفلة، كما قال تعالى: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾[التكاثر: 1- 2]، فيستكثر من النساء، ويستكثر من البنين، ويستكثر من الأموال بشتى صنوفها، ويستكثر من الجاه، ويستكثر من سائر المحبوبات والمشتهيات والمستلذات التي تطيب بها الدنيا ويستلذ بها الناس ويتلذذون، فيغفل عن الدار الآخرة ولا يفيق إلا عندما لا تنفع الإفاقة عندما يزور المقابر، عندما يبصر الحق الذي أخبرت به الرسل من الموت الذي يفجع الإنسان فينقله إلى الدار الآخرة.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يكون على وعي أن ما في النصوص من شأن الدنيا ليس ذمًّا مطلقًا، بل هو توصيف لحال الإنسان وما ينبغي أن يكون عليه من عبرة وعظة وفطنة وترك للغفلة التي إذا أطبقت على القلب لم ينتفع بدنياه، بل كانت دنياه على نحو من الفساد والخراب الذي يفوِّت عليه خير الدنيا والآخرة.
ولهذا ينبغي أن يتعظ الإنسان وأن يدرك حقيقة الدنيا، وألا يطمئن بها بل أن يستثمرها، ولهذا جاء التحذير من التعلق بالدنيا والإقبال عليها وأن تكون هي هم الإنسان، قال: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾[الروم: 7]، وهذا يدل على أن الدنيا قد استوعبت قلوبهم على نحو غفلوا به عن الآخرة وغفلوا به عن أن يدركوا ما ينبغي أن يكون عليه في الدنيا، يقول الله تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ﴾[مريم: 39]، ويقول تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾[الأنبياء: 1]، ويقول في الآية الأخرى: ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾[الأنبياء: 97].
كانوا في غفلة من هذا يعني من هذا الذي أبصروه في الآخرة من صدق وعد الله –عز وجل-، وقد قال الله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[ق: 21- 22] ولهذا الإشكالية في متع الدنيا وزينتها أنها قد تصيب فئة من الناس بالغفلة عن الآخرة فتغرهم وتتعلق قلوبهم بها، ويركنون إليها على وجه يقعون في المحذور من الغفلة عن الآخرة، ومن غفل عن الآخرة أسرف على نفسه بأنواع من الفساد بمخالفة الله –عز وجل-، ولهذا نهى الله تعالى في كتابه عن الاغترار بالدنيا، وقد أخبر أنها متاع الغرور، كما قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[آل عمران: 185]، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾[فاطر: 5].
ولهذا ينبغي أن يُدرك هذا المعنى في وصف النبي –صلى الله عليه وسلم- للدنيا بأنها متاع، وأن المقصود من هذا الوصف ليس الذم المطلق، بل هو التنبيه إلى ضرورة اغتنام هذه الحياة الدنيا بما يقرب إلى الله تعالى، وإلا فإن الله تعالى ذمَّ الرضا بالدنيا الذي يحمل الإنسان على الانقطاع عن الآخرة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾[يونس: 7]، يعني لا يطمعون، ولا يرغبون، تحمل المعنيين: لا يخافون لقاء الله، أو لا يطمعون في لقائه بأن يكذبوا بالآخرة ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾[يونس: 7] رضوا بحيث اكتفوا بها عن أن يشتغلوا للآخرة، بل رضوا بمتعها وملذَّاتها واطمأنوا بها، أي ركنوا إليها ركونا كأنها لا تزول ولا تحول ولا تتحول، بل هي باقية دائمة لهم قال: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾[يونس: 7].
هذا هو ثمرة ما تقدم من أوصاف، ثمرة عدم خوف لقاء الله وعدم رجاء لقائه، ثمرة الرضا بالحياة الدنيا والاطمئنان بها الغفلة عن الآخرة، ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[يونس: 7- 8] هذا هو مآلهم وهذا هو مصيرهم، وقد عجب الله –سبحانه وتعالى- لمن رضي من المؤمنين فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ﴾[التوبة: 38] يعني هل رضيتم بالحياة الدنيا فمنعكم ذلك من القيام بما أمركم الله تعالى به من الذبِّ عن دينه والجهاد في سبيله؟ قال: ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾[التوبة: 38]، فهذا الذي تعلقتم به وركنتم إليه شيء قليل سرعان ما يزول ويحول ويتحول، هو قليل قدرًا وقليل زمانًا، فما أسرع انقضاء الدنيا وتحولها! وهو قليل بالنظر إلى ما أعده الله تعالى لعباده الصالحين من النعيم المقيم الذي قال فيه النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول الله تعالى: «أعدَدتُ لعباديَ الصالحين ما لا عين رأَتْ، ولا أُذن سَمِعت، ولا خَطَر على قلب بَشَر».[صحيح البخاري:ح3244]
ومن تعلق قلبه بالدنيا على نحو يغفله عن الآخرة، لابد أن يثمر ذلك نقصًا في درجاته، لابد أن يثمر ذلك نقصًا في منزلته عند الله –عز وجل-، ولهذا قال ابن عمر:"لا يصيب عبد من الدنيا شيئًا إلا نقص من درجاته عند الله وإن كان عليه كريمًا"[مصنف ابن أبي شيبة:ح34628، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح3220 ] يعني وإن كان عليه رفيع المنزلة وله مكانة.
المقدم:- ما المقصود فضيلة الشيخ بإصابة شيء من الدنيا؟
الشيخ:- يعني لا يصيب العبد من الدنيا شيئًا أي ينال منها شيئًا إلا كان ذلك نقصًا له فيما يتعلق بمتاع الآخرة، والنقص هنا المقصود به النقص الذي ينتج عن الاشتغال بالدنيا عن الآخرة، ولهذا قال تعالى: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾[الأحقاف: 20]، وليس المقصود هنا أن الإنسان يعني يقتِّر على نفسه، أو أنه يترك ما أحل الله تعالى من زينة الحياة الدنيا ويحرم ذلك على نفسه؛ لأن هذا ليس مقصودًا، بل قد ذمه الله تعالى في قوله: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾[الأعراف: 32]، لكن المقصود فيما يظهر من كلام ابن عمر وكلام أهل العلم هو أنه ينقص من درجاته في الآخرة بانهماكه وانشغاله بملاذ الدنيا عن العمل بالآخرة، ولو كان هذا في المباحات، يعني لو كان استكثر من المباحات على وجه قلَّ به عمله في الآخرة وتعلق بالدنيا بنوع تعلق ينقصه ذلك في درجات الآخرة ومراتبها ومنازلها.
ولهذا روي عن الفضيل بن عياض أنه قال: "إن شئت استَقِلَّ من الدنيا وإن شئت استكثر منها فإنما تأخذ من كيسك"[جامع العلوم لابن رجب:2/189] يعني تأخذ من حظك في الآخرة وذلك أنه إذا أقبل على الدنيا وانشغل بها لكان ذلك نقصًا عليهم في آخرته ولهذا يقول الله تعالى فيما يتعلق بفضول الدنيا وشهواتها: ﴿وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ*وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ *وَزُخْرُفًا﴾[الزخرف: 33- 35] ثم بعد أن ذكر ذلك من النعيم والمنازل ﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[الزخرف: 35]، هو في النهاية كله متاع حياة الدنيا سرعان ما يزول ويتحول ﴿وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾[الزخرف: 35].
ولهذا جعل الله تعالى عقوبة من أسرف على نفسه بملذات محرمة في الدنيا أنه يحرمها في الآخرة، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- على سبيل المثال: «مَن لَبِسَ الحَريرَ في الدُّنيا لم يَلْبَسْه في الآخرةِ»[صحيح البخاري:ح5833] لأنه تعجل ذلك في دنياه، فعوقب بحرمانه في آخرته، ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، فمن تعجل شيئا مما يكون في الآخرة على وجه لا نقص فيه لا غول فيها ولا تأثيم، عوقب بذلك في الآخرة فحرم هذا النعيم.
إذًا تمتع الإنسان بملذات الدنيا وإسرافه على نفسه فيها، كما أنه قد يصيبه بالغفلة وقد يفضي به إلى الاغترار بالدنيا هو أيضًا مما تنقص به حاله في الآخرة، ولا يدرك به ما يؤمل من الخير والسبق عند رب العالمين.
المقدم:- جميل، اسمح لي فضيلة الشيخ أن نذهب إلى فاصل بعده -بمشيئة الله تعالى- نريد أن تذكر لنا لو تكرمت سياقات ذكر الدنيا أيضًا من خلال سنة المصطفي -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-؛ لأنه حقيقة في أحاديث كثيرة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- متعلقة بهذا الموضوع، ولعلنا بعد الفاصل -بمشيئة الله تعالى- نستفتح بحديث من أحاديث النبي -عليه الصلاة والسلام- ما رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «من كانتِ الآخِرةُ هَمَّه، جعَلَ اللهُ غناه في قَلْبِه، وجمَعَ له شَمْلَه، وأتَتْه الدُّنيا وهي راغمةٌ، ومن كانت الدُّنيا همَّه، جعل اللهُ فَقْرَه بين عَينَيه، وفرَّق عليه شَملَه، ولم يأتِه مِن الدُّنيا إلَّا ما قُدِّرَ له»[سنن الترمذي:ح2465، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح1369].
نريد أن نبدأ الحديث فضيلة الشيخ في هذا الجزء بهذا الحديث، وسياقات أيضًا ذكر الدنيا في أحاديث النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
الشيخ:- هذا الحديث الشريف حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- فيه بيان حال الإنسان وانقسام الناس بهمومهم إلى قسمين:
القسم الأول: من جعل الآخرة همه، والقسم الثاني: من جعل الدنيا همه.
وأكثر الناس هم من القسم الثاني وهم الذين جعلوا الدنيا همَّهم؛ لأن الإنسان ميَّال بطبعه إلى تحصيل العاجل من المنافع والفوائد؛ ولهذا يميل كثير من الناس إلى إيثار الدنيا على الآخرة لأجل ما يدركونه، ولهذا يقول الله تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾[الأعلى: 16- 17]، فإيثار الدنيا على الآخرة تقديمها، وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث حال الإنسان فيما إذا ملأ قلبه تعلقًا بالآخرة، وذكر حاله فيما إذا ملأ قلبه تعلقًا بالدنيا.
قال –صلى الله عليه وسلم-: «من كانت الآخرة همَّه»يعني هي التي يهم بها، وهي التي تشغل فكره، وهي التي يسعى لإصلاحها ويكترث بعمارتها، فإنه يدرك بهذا الهم فضائل عظيمة«جعل الله غناه في قلبه»اغتنى قلبه، والغنى غنى النفس، ومن اغتنى قلبه اكتفَّ نظره عن شيء كثير مما في متع الدنيا مما لا طريق إلى تحصيله، أو مما يصعب تحصيله، بل حتى لو حصله لم يكن ذلك مشغلًا له عن الآخرة.
يقول: «وجمع له شملَه»وجمع الشمل معناه انتظام الحال، وهدوء البال، وقرة العين، واندفاع المخاوف، وحصول المحبوبات «وأتته الدنيا وهي راغمة»يعني جاءته الدنيا وهي راغمة، أي جاءته كما قسمها الله تعالى له، فإن الله يسوق له من الكسب والرزق ما ليس له على بال وخاطر، وذاك أن الله تعالى ما قسم له منها وييسر له تحصيل ما يؤمله من دنياه لا يعني أن تكتمل كل مآربه في الدنيا، لكن يأتيه ما قسمه الله تعالى من أرزاق هذه الدنيا راغمة، وذلك لامتلاء قلبه بالرضا بما قسم الله تعالى، فما جاءه رضي به، بخلاف ذاك الذي جعل الدنيا همه فإن فقره بين عينيه، وهذا مقابل غني القلب، يعني يرى فقره في كل أمر من الأمور، وبالتالي مهما كان في يديه من أسباب الغنى والملك والمتع والملذَّات وأنواع الأموال إلا أنه فقد ذلك؛ لأن فقره بين عينيه لا يفارق نظره، فهو يخشى الفقر ويفرُّ منه، ويتحرز منه، ولا يراه إلا عند بابه وبين عينيه «وفرق عليه شمله»، وهذا دليل على تفرق الذهن وتشتت الفكر، وفساد الحال لكونه فرق الشمل «ولم يأتيه من الدنيا»بعد هذا ما الذي يدركه؟ بعد هذا الذي سكن قلبه ونزل به في حاله «لم يأتيه من الدنيا إلا ما قدر له»يعني كل هذا التعب وهذا العناء وهذا الكرب لم ينل منها شيئًا إلا ما كتبه الله تعالى له، ومن أبلغ العذاب في الدنيا تشتيت الشمل، وتفرق القلب، وكون الفقر نصب عيني العبد لا يفارقه، هذا من أشد العقوبات في الدنيا؛ لأنه ينغص المعاش.
وفيما يتعلق بسعة الحاضر لا يتنعم الإنسان بمكاسب، ولا يتنعم بملذات، بل هو في غاية الخوف من سلبها وذهابها، هذا بالنسبة لما في يده، وبالنسبة لما لم يحصله في غاية التحقق لتحصيله واكتسابه وبالتالي هو في نكد مستمر، نكد فيما يتعلق بالمال الذي في يده، ونكد فيما يتعلق بالمال الذي لم يحصله، ولهذا كان من أبلغ وأشد عذاب الدنيا هو هذا الحال التي ذكرها النبي –صلى الله عليه وسلم-:«من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأتيه من الدنيا إلا ما كتب له»، فهو لا يزال يشكو ويتألم ويصرخ منها ويلهث في تحصيلها.
وفي الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي –صلى الله عليه وسلم-: «يقولُ اللَّهُ تعالى: يا ابنَ آدمَ ، تفرَّغ لعبادتي أملأْ صدرَكَ غنًى وأسدَّ فقرَكَ وإن لم تفعَل ملأتُ صدرَكَ شُغلًا، ولم أسدَّ فقرَكَ»[سنن الترمذي:ح2466، وحسنه] يعني يركض في هذه الدنيا ولكنه لا يشعر بالغنى، ولا يتنعم به ،لماذا؟ لأن الغنى غنى النفس، فمهما كثر ما في يديه فهو فقير بالنظر إلى ما في قلبه من فاقة وفقر، واشتغال القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا ومحاربة أهلها ومقاساة معاناتها من أشد ما يكون من المنغصات التي تنغص عليه الدنيا.
ولهذا قال بعض السلف: من أحب الدنيا وتعلق بها، فليوطن نفسه على تحمل المصائب، فمحب الدنيا لا ينفك من هم لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي، وذلك أن محبها لا ينال منها شيئًا إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه، يعني ما يحصل شيئا إلا يبتغي شيئا فوقه، يبتغي أكثر، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «لو كان لابنِ آدَمَ واديانِ مِن ذهبٍ لابتغى إليهما الثَّالثَ».[صحيح البخاري:ح6436]
من المهم أن نعرف أن الزهد في الدنيا وهو مفتاح السعادة فيها من أسباب السلامة من الاغترار بمتاعها وملذاتها، والزهد في الدنيا ليس معناه أن يترك الإنسان العمل، وليس معناه أن يكون عالة على غيره، هذا ليس هو المقصود، فالله تعالى ذكر اشتغال الناس بطلب الدنيا بعد العبادة، قال تعالى في صلاة الجمعة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾[الجمعة: 9]، يعني الذي يشغلكم عن طاعة الله –عز وجل- في وقت صلاة الجمعة ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ﴾[الجمعة: 9- 10] ما المطلوب؟ ﴿فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾[الجمعة: 10] يعني من أنواع التكسبات والتجارات التي يحصل بها مكاسب لكم، ومع هذا ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الجمعة: 10]، لا يغفلكم سعيكم في الدنيا واكتسابكم من أموالها وتجارتها عما ينبغي أن تكونوا عليه من ذكر الله –عز وجل-.
الزهد في الدنيا يعين عليه ثلاثة أمور، أو يعين عليه عدة أمور:
الأمر الأول: علم الإنسان أن الدنيا ظلٌّ زائل وخيال زائل، كما قال الله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾[الحديد: 20] دليل على الزوال والارتحال، قال تعالى: ﴿وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[الحديد: 20].
فمما يعين الإنسان على الزهد في الدنيا أن يعرف أنها لا تدوم، وأنها تتحول، وأنها تزول.
مما يعين الإنسان على الزهد في الدنيا: أن يدرك قلتها، وأنها مهما كانت كثيرة فهي قليلة في مدتها وزمانها، قال الله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ *ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ *مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾[الشعراء: 205- 207] ما الذي استفادوه؟ وما الذي جنوه مما كانوا يتمتعون فيه لما نزل بهم ما نزل من أمر الله –عز وجل- إما بالمصائب أو بالعقوبات أو بالموت الذي لا يسلم منه بشر ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾[يونس: 45].
أيضًا مما يعين الإنسان على الزهد في الدنيا وعدم الاغترار في متاعها: أن يدرك أن ربه –جل وعلا- نهاه عن الاغترار بها، وهذا النهي قال فيه تعالى: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾[لقمان: 33]، وقد أخبر الله تعالى عن سوء عاقبة المغترِّين، وحذرنا مصارِعَهم، وبيَّن خطورة الاغترار بالدنيا على مسيرة الإنسان.
ومما يعين الإنسان على الزهد في الدنيا، أن يعرف أنها لا تطيب لساكنها، بل سرعان ما تمضي، والإنسان فيها كراكب نزل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها، وهذا المثل الذي ذكره النبي –صلى الله عليه وسلم- في حاله مع الدنيا، هو حقيقة شأن الدنيا لكل أحد يقول –صلى الله عليه وسلم-: «مالي وللدنيا؟»يعني ما الذي يجعلني أتعلق بها وأركن إليها أو اغتر بها، «إنما أنا كراكب»راكب الذي يسير في طريق سفر«قال في ظل شجرة»يعني نزل في وقت القيلولة في ظل شجرة، وهذا نوم يسير قليل«ثم راح وتركها»[سنن الترمذي:ح2377، وقال:«هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»] أي مشى وتحول عنها إلى غيرها.
فينبغي للإنسان أن يعلم أن الدنيا لا تمتد، وأن ما فيها من نعيم لا يقارن بما في الآخرة، وأنها سرعان ما تزول أيضًا.
مما يعينه على الزهد في الدنيا: أن يقرأ ما ذكره الله تعالى من أحوال أهل الآخرة نعيمًا وعقوبة حتى يكون ذلك عونًا له على الاستعداد والتهيؤ، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «واللهِ ما الدُّنيا في الآخرةِ إلَّا كما يجعَلُ أحدُكم إِصبَعَه في اليمِّ فلْينظُرْ بمَ ترجِعُ».[سنن الترمذي:ح2323، وقال:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ]
يعني ما الذي يدركه من هذا الذي أدخله، يعني أدخلت إصبعك في ماء بحر أو نهر أو مجمع ماء ما الذي يخرج في يديك من مجموع الماء الموجود لا يذكر، هكذا هي الدنيا في الآخرة، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «مَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وما عَلَيْهَا».[صحيح البخاري:ح2892]
مما يعني الإنسان على الزهد في الدنيا أيضًا أن يعرف أن زهده في الدنيا ليس سببًا لخسارتها فما قسمه الله تعالى له من الدنيا لابد أن يأتيه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فزهدك في الدنيا هو أن تخرجها من قلبك وألا تتعلق بها وعدم سكنها في قلبك وعدم تعلقك بها لن يمنع أن يأتيك ما قسمه الله لك منها وبالتالي ينبغي للإنسان أن يستحضر هذه المعاني وأن يستكثر من كل ما يقربه إلى الله، كل شيء يقربك إلى ربك جل في علاه من ذكر من طاعة من صحبة من إقامة من سفر احرص على ما يقربك إلى الله وفر من كل ما يبعدك عنه ولهذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»[سبق]؛ لأن المرأة الصالحة تقربك من الله –عز وجل- وتبعدك عن السوء والشر، وله حتى في متع الدنيا وملذاتها أجر، ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «وفي بُضْعِ أحَدِكم صَدَقةٌ».[صحيح مسلم:ح1006/53]
معنى هذا أن الإنسان إذا أدرك حقيقة الدنيا وأطاع الله تعالى فيها كانت الملذات التي فيها وسيلة لإدراك الثواب والنعيم في الآخرة.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن رُزق البصيرة فرأى حقيقة الدنيا، وعمل للآخرة، وفاز بحسنة الدنيا وحسنة الآخرة ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
المقدم:-اللهم آمين، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ، شكر الله لك وكتب الله أجرك، شكرًا جزيلًا لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، شكرًا كنت ضيفنا في هذه الحلقة.
الشيخ:-بارك الله فيكم، وأسأل الله لي ولكم القبول، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء وشر، وأن يوفق خادم الحرمين الشريفين ووليَّ عهده إلى ما يحب ويرضى، وأن يرزقنا ما تصلح به أحوالنا وتستقيم به دنيانا وآخرتنا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.