الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد..
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب حق الزوج على المرأة :
عن أَبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امرَأتَهُ إِلَى فرَاشِهِ فَلَمْ تَأتِهِ، فَبَاتَ غَضْبَانَ عَلَيْهَا، لَعَنَتْهَا المَلائِكَةُ حَتَّى تُصْبحَ)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.البخاري (5193)، ومسلم (1436)
وفي رواية في الصحيحين: ((إِذَا بَاتَت المَرأةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا المَلاَئِكَةُ حَتَّى تُصْبحَ))وفي رواية قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((والَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأتَهُ إِلَى فِرَاشهِ فَتَأبَى عَلَيهِ إلاَّ كَانَ الَّذِي في السَّمَاء سَاخطاً عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنها)).
هذا الحديث برواياته ذكر فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حق من حقوق الرجل على امرأته، وهو من أخص الحقوق التي لا يستوفيها الرجل إلا من امرأته أو مما ملكت يمينه، فإن الله ـ تعالى ـ قد قال: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾[المؤمنون: 5- 6] ولهذا جاء التغليظ الشديد في الامتناع من هذا الحق لخصوصيته، فإنه لا يستوفيه الرجل إلا من امرأته، وهو أيضًا من مقاصد النكاح؛ لأنه يحصل به الإعفاف الذي هو من أجل ما يدرك بالنكاح.
ومن أهم ما يدرك بالنكاح، وهو باب من أبواب الأجر والخير للرجل والمرأة، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»صحيح مسلم (1006).
يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا دعا الرجل" يعني الزوج "امرأته إلى فراشه" يعني إلى مكان نومه سواء كان ذلك لتنام معه، أو ليستوفي حقه منها فيما يتعلق بالاستمتاع والجماع، "فلم تأته" يعني أبت أن تأتي إليه "فبات غضبان عليها" فأثر ذلك غضبًا في نفسه عليها لكونها ممتنعة منه "لعنتها الملائكة حتى تصبح" أي كانت العقوبة التي وردت في شأنها أن الملائكة تلعنها.
والملائكة المذكورون هنا إما أن يكونوا ملائكة ممن أوكل إليهم هذا الأمر، أو يكون المقصود جنس الملائكة فقولهـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لعنتها الملائكة" الألف واللام هنا يصلح أن تكون للجنس أي جنس الملائكة تلعنها أو فئة منهم فيكون هنا للعهد، وإن كان لم يذكر لكن هو في بعض الملائكة فيكون للعهد المعروف من أن من الملائكة من يخص بعمل من الأعمال "حتى تصبح" أي يستمر لعنها حتى الصباح، وهو وقت انتهاء خلود الرجل إلى الفراش، ولا يعني هذا أنه يزول عنها الإثم بعد ذلك، بل الإثم باق مادامت مصرة على الامتناع، لكن هذه العقوبة موقتة بوقت وهي لعن الملائكة موقت بوقت وهو حتى تصبح.
وفي الرواية الأخرى يدل على أن المقصود "حتى تصبح" أي حتى يزول غضبه، لأنه في الغالب يزول غضبه بمثل هذا الوقت؛ لكن لو امتد غضبه عليها لامتناعها واستمر امتناعها، فإن العقوبة مستمرة.
ولذلك جاء في الرواية الأخرى قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «والَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأتَهُ إِلَى فِرَاشهِ فَتَأبَى عَلَيهِ إلاَّ كَانَ الَّذِي في السَّمَاء سَاخطاً عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنها».
فاستمرت العقوبة وهي سخط الله ـ أعوذ بالله من ذلك ـ حتى يرضي، وهذه الرواية أغلظ من الرواية السابقة؛ لأن فيها إثبات سخط الله ـ تعالى ـ على الممتنعة، وهو أعظم من اللعن؛ لأنه من موجبات اللعن أو من موجبات اللعن ومن آثاره أن يحصل السخط من الله ـ عز وجل ـ على من خالف أمره جل في علاه.
فقوله: "حتى تصبح" أو حتى ترضى كلاهما يدل على امتداد هذا اللعن إلى أن يزول سببه وهو امتناع المرأة من فراش زوجها، والامتناع قد بينته الرواية الأخرى، وأنه بغير حق حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إِذَا بَاتَت المَرأةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا المَلاَئِكَةُ حَتَّى تُصْبحَ».
أي تاركة فراش زوجها على وجه المباعدة والمنافرة من غير حق، فإن الملائكة تلعنها حتى تصبح لعنتها الملائكة حتى تصبح.
وفي هذا الحديث جملة من الفوائد، من فوائد هذا الحديث:
بيان عظيم حق الرجل على المرأة وقد دلت على ذلك أدلة كثيرة وسيأتي بعضها.
وفيه أيضًا: أن من أخص حقوق الرجل على المرأة ما يتعلق بالفراش وقد قال الله ـ تعالى ـ في شأن علاقة الرجل بالمرأة: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾[البقرة: 187] فالمرأة فراش الرجل ومقصود ذلك، أي أنها موضع استمتاعه وموضع إدراك حاجته الفطرية الطبيعية التي لا تقضى إلا على هذا النحو المباح المأذون فيه.
من فوائد هذا الحديث: أن غضب الرجل على المرأة موجب للعقوبة؛ حيث إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رتب لعن الملائكة على أمرين:
الأول: على مهاجرة المرأة متاركة المرأة إباء المرأة المجيء إلى فراش زوجها.
الثاني: وأن يبيت غضبان عليها، فلو أنه لم يغضبه ذلك لم تلعنها الملائكة، فدل ذلك على أن مجموع الأمرين يحصل به العقوبة المذكورة.
وفيه من الفوائد: أن امتناع المرأة عن فراش زوجها من كبائر الذنوب؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر فيه بعقوبتين في رواية بأن الملائكة تلعنها حتى تصبح، واللعن لا يكون إلا على كبيرة من كبائر الذنوب، وفي رواية سخط الله ـ عز وجل ـ إلا الذي كان في السماء ساخطًا عليها حتى يرضى.
وفيه من الفوائد: أن الملائكة كما أنهم يدعون لأهل الإيمان ويستغفرون لهم، فإنهم يدعون على أهل العصيان ويلعنونهم كما ذكر الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾[البقرة: 159] ومن الملائكة ﴿أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾[البقرة: 161].
فممن يلعن الملائكة يلعنون العصاة كما أنهم يستغفرون لأهل الإيمان.
وفيه من الفوائد: أن الله ـ جل في علاه ـ في السماء حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا كان الذي في السماء ساخطًا عليها، وهذا أدلته كثيرة وكونه في السماء أي عال على السماء ـ جل وعلا ـ فهو العلي الأعلى ـ جل في علاه ـ هو العلي العظيم ـ سبحانه وبحمده ـ وقد ذكر الله ـ تعالى ـ ذلك في كتابه فقال: ﴿أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾[الملك: 16].
ولما سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجارية أين الله؟ قالت: في السماء وليس معنى هذا أن السماء تحويه فهو الكبير المتعال المحيط بكل شيء، إنما المقصود أنه عال على السماء جل في علاه سبحانه وبحمده.
وفيه من الفوائد: جواز القسم بالوصف الدال على الله، وإن لم يكن من أسمائه، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "والذي نفسي بيده" يقصد بذلك الله جل في علاه.
وفيه من الفوائد: أن رضا الرجل عن المرأة موجب لرفع سخط الله ـ تعالى ـ عنها ولذا قال: "حتى يرضي" فإذا رضي زال سخط الله تعالى عن المرأة.
وفيه من الفوائد أيضًا: أن حق الرجل على المرأة يثبت بأصل العقد وإيفاء الرجل الحقوق التي عليه، فإن قصر فإنه يكون بذلك أثما وللمرأة أن تقصر بقدر تقصير الرجل، فإن الله ـ تعالى ـ قال: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾[البقرة: 228].
وفيه أنه لا يجوز للرجل أن يمتنع عن فراش امرأته إلا بحق، ودليل ذلك قول الله ـ تعالى ـ: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾[النساء: 34] فدل هذا على أن الرجل لا يجوز له أن يهجر فراش امرأته إذا كانت طائعة له، وإن كان لم ينفي هذه العقوبة المذكورة في هذا الحديث، لكنه لا يجوز فإن الله ـ تعالى ـ قد قال: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾[النساء: 34].
وكما أنه لا يجوز لها هجران فراش زوجها بغير حق فكذلك هو، لكن هذه العقوبة ذكرت في حق المرأة دون الرجل لأن المرأة هي المطلوبة غالبًا، ولأن المرأة قد تستغني عن الرجل في أحوال فلا يكون لها عليه سبيل، أما الرجل فإنه لا يستغني عن المرأة، والحديث دال على وجوب إجابة المرأة الرجل، ولو كان معها عذر لكن لا يجوز له أن يأتيها في الحرث وهي في زمن الحيض، كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾[البقرة: 222].
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وارزقنا السعي في مرضاتك والبعد عن مساخطك، والعمل بما تحب وترضى في السر والعلن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.