الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد..
فقد نقل الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في باب حق الزوج على المرأة:
عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ عن النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: ((مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّساء)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. البخاري (5096)، ومسلم (2740)
هذا الحديث الشريف فيه التحذير والتنبيه إلى خطورة هذه الفتنة التي يتورط فيها كثير من الناس، وهي الفتنة بالنساء، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾[آل عمران: 14] فذكر الله ـ تعالى ـ في أول ما ذكر من الشهوات المزينة للناس النساء.
وفي هذا الحديث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ما تركت فتنة بعدي هي أضر على الرجال من النساء" والفتنة هي الاختبار والامتحان والابتلاء، والفتنة بالنساء لا تأخذ وجهًا واحدًا؛ بل هي مختلفة باختلاف طبيعة صلة الرجل بالمرأة، فمن النساء من تكون أجنبية فتكون الفتنة فيها بالنظر إليها النظر المحرم، أو ما يتبع ذلك من أوجه الاستمتاع الذي حرمه الله ـ تعالى ـ على الرجل وهذا نوع من فتنة الرجال بالنساء.
وطريق السلامة منه حفظ الفرج وقطع طريق الوصول إلى المحرم بالنظر أو بالقول، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا﴾[الإسراء: 32] وقال ـ تعالى ـ: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾[النور: 30].
وأما إن كانت المرأة زوجة، فإن الفتنة بها متنوعة، فمن الفتنة بالنساء فيما إذا كن زوجات التقصير في حقهن، كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾[البقرة: 228] وكما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾[النساء: 4] وكما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[النساء: 19] فكل هذه فتن والاختبارات التي يختبر فيها الرجال في حق النساء في أداء حقوقهن إن كن زوجات، وكذلك من الفتنة بهن إن كن زوجات طاعتهن فيما لا يحل، فإن الله ـ تعالى ـ ذكر في مجمل ما ذكر من أوجه فتنة الرجال بالنساء أمرهن بما يكون مقعدًا للرجال عن الطاعة، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾[التغابن: 14] والعداوة هنا ليست عداوة القتال، أو عداوة السلاح، إنما هي عداوة التزهيد في الطاعة، وما يجب على الرجال من الواجبات التي فرضها الله ـ تعالى ـ عليهم خوفًا على نسائهم أزواجًا وخوفًا على أولادهم، فهذا أيضًا من صور الفتنة بالنساء الذي ذكره ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في قوله: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء".
وقد حذر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الفتنة بالنساء في ذكره للدنيا، فقال: «إنَّ الدُّنيا حُلوةٌ خَضِرةٌ وإنَّ اللهَ مُستَخلِفُكم فيها، فيَنظُرُ كيف تَعمَلونَ؛ فاتَّقوا الدُّنيا، واتَّقوا النِّساءَ».صحيح مسلم (2742)
وذكر النساء بعد الدنيا؛ لأنه مما يحصل به الفتنة على وجه واسع، وهو من أعظم ما يفتن به كثير من الناس، ولهذا قدمها في ذكر الشهوات ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ﴾[آل عمران: 14] ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «واتَّقوا النِّساءَ؛ فإنَّ أوَّلَ فِتنةِ بني إسرائيلَ كانت في النِّساءِ» صحيح مسلم (2742) فهي فتنة قديمة وليست جديدة، فتنة في البشر منذ سالف الزمان.
والفتنة بهن كما ذكرت على أوجه، الحديث يفيد عدة فوائد من فوائده:
حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أمته والتحذير من كل ما يخافه عليهم.
وفيه: التحذير للرجال من الافتتان في شأن النساء.
وفيه: أن الفتنة بالنساء لا تأخذ وجهًا واحدًا؛ بل هي متنوعة كما تقدم ففتنة الرجل بامرأته تختلف عن فتنته بالأجنبية منه.
وفيه: أن أعظم ما يخشى على الناس من الفتن فتنة النساء، وذلك لما جبل الله ـ تعالى ـ النفوس عليه من الشح فيما يتعلق بالحقوق، ولما جبل الله ـ تعالى ـ عليه النفوس إلى الشهوة التي قد تقودهم إلى ما يكون سببًا للشر، وإضافة لما في الطبائع من هذه الخصال الشيطان المزين للشهوات, كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾[النساء: 27- 28].
فإضافة إلى ضعف الطبيعة والجبلة، ثمة ما يؤذ الإنسان إلى الخطأ وإلى الفشل في هذه الفتن من المزينين للشهوات وعلى رأسهم الشيطان وقرناء السوء، وما إلى ذلك مما يدعو الإنسان إلى الشر والفساد ومنه النفس الإمارة بالسوء، فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يعيننا وإياكم على وقاية أنفسنا من كل سوء وشر، وأنبه إلى أن أمثال هذه الأحاديث بعض الناس يذكرها على وجه التنقص للنساء، وهذا ليس بصحيح، ولم يورده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد قال: "واستوصوا بالنساء خيرًا"صحيح البخاري (5186)،وصحيح مسلم (1468) وقد أكد حق النساء في أحاديث كثيرة، ولكن المقصود هو التحذير من الشر الذي يمكن أن يقع بسبب هذه الفتنة، فهو خطاب للرجال أن يحذروا هذه الفتن، وأن يتقوا الله ـ تعالى ـ في أنفسهم بطلب السلامة من هذه الامتحانات، وهذه الاختبارات وليس لأجل تنقص جنس أو التعييب له.
فينبغي ألا توضع هذه النصوص في غير موضعها، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.