الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد...
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين في باب وجوب النفقة على العيال:
عن أم سلمة ـ رضي الله تعالى عنها ـ زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنها قالت: يَا رَسُول الله، هَلْ لِي أجرٌ فِي بَنِي أَبي سَلَمَة، أنْ أُنْفِقَ عَلَيْهِمْ، وَلَسْتُ بِتَارِكتهمْ هكَذَا وَهكَذَا إنَّمَا هُمْ بَنِيّ ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، لَكِ أجْرُ مَا أنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ»مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. البخاري (5369)، ومسلم (1001)
وأم سلمة كانت إحدى زوجات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد تزوجت قبله أبو سلمة ومات في الحبشة، وكان له منها ابن وابنة، فسألت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله هل لي أجر في بني أبي سلمة, فسؤالها ـ رضي الله تعالى عنها ـ عن إنفاقها على أولادها من أبي سلمة، وهي قد بينت أنها بحكم العاطفة والأمومة لن تتركهم يطلبون من الناس أو يتكففون الناس ما يحتاجونه، وهي قادرة على الإنفاق عليهم، ولذلك قالت: ولست بتاركتهم هكذا وهكذا أنما هم بني، يعني لست تاركتهم هكذا وهكذا يطلبون من الناس إنما هي بني يعني بمقتضى الأمومة انفق عليهم، وهذا بيان أن الدافع على الإنفاق قد يكون فطريًا، والدافع على الإحسان قد يكون فطريًا بمقتضى الولادة أو بمقتضى القرابة، أو غير ذلك من المقتضيات الفطرية التي تحمل الإنسان على الإنفاق، ولو لم يكن ثمة أجر أو ولو لم يعلم بأن هناك أجرًا على الإنفاق.
فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "نعم لكِ أجر ما أنفقتِ عليهم"، فأثبت الأجر لها في الإنفاق عليهم، وهذا الحديث يفيد أن كل ما ينفقه الإنسان على ولده فإنه مأجور عليه، ولو كان الحامل على هذا الإنفاق مقتضاه الطبيعة، والجبلة، والفطرة، والعادة من أن الإنسان ينفق على بنيه، وأنه لا يتركهم.
ولم يبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأجر؛ لأنها لم تسأل عن حجم الأجر أو قدر الأجر الذي تناله إنما سألت عن أصل الأجر، هل لها أجر في الإنفاق عليهم أم لا؟ أما قدر الأجر فلا يعلمه إلا الله عز وجل وهو متفاوت بتفاوت ما يكون في قلوب الناس من المقاصد والنيات. مسألة أخيرة في حديث أم سلمة وهو هل تجب نفقة الأولاد على أمهم إذا كان الأب غائبًا بالموت أو غير قادر على الإنفاق؟
استدل بهذا الحديث بعض أهل العلم على وجوب نفقة الأولاد على أمهم إذا كانت قادرة؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل: ليس عليكِ نفقة، وإنما أثبت لها الأجر بما تنفق عليهم، وعلى هذا فإن الأم إذا كان الأب غير قادر على الإنفاق بأن يكون فقيرًا وهي غنية، أو كان ميتًا، فإنه يجب عليها الإنفاق؛ لعموم قول الله ـ تعالى ـ: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾[البقرة:233].
في حديث سعد بن أبي وقاص وقد نقله المؤلف ـ رحمه الله ـ حيث قال: وعن سعد بن أَبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ في حديثه الطويل قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وإنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إلاَّ أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ في فيِّ امرأتِك»متفق عليهصحيح البخاري (56), وصحيح مسلم (1628)، فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث بين أن الأجر عام لكل ما ينفقه الإنسان ولو كان شيئًا يسيرًا ما دام أنه يبتغي بذلك وجه الله، حيث قال: "أنك لن تنفق نفقة" في أي باب من أبواب الخير، وفي أي جهة من الجهات، وسواء أن كان ذلك على وجه اللزوم والوجوب، أو كان ذلك على وجه التصدق بالمال، أو بالإنفاق تطوعًا وتقربًا إلى الله ـ عز وجل ـ في غير الواجب «وإنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ» أشار إلى حسن القصدوهو أن يكون الحامل على الإنفاق طلب ما عند الله ـ عز وجل ـ "فإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها"، إلا ثبت لك الأجر بها.
هذا الحديث بعض أهل العلم قال: هو مقيد لعموم ما جاء من أجر الإنسان فيما ينفقه على ولده، فقالوا: إن إنفاق الإنسان على ولده، وزوجه يؤجر عليه إذا أحسن القصد، ونوى بذلك الثواب عند الله، وابتغاء وجه الله ـ عز وجل ـ أما إذا أنفق بمقتضى الوجوب دون أن يكون هناك نية إحسان وتقرب إلى الله ـ تعالى ـ بتلك النفقة، فإنه يسقط عنه الواجب لكن لا يؤجر، وهذا محل تأمل ونظر والصواب أنه مأجور على كل نفقة، لكن الأجر متفاوت، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجاب أم سلمة على سؤالها مع أنها بينت أن الحامل لها الرحمة لهم، وأنهم بنوها، وأنها لا تملك إلا أن تنفق عليهم.
فقال لها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "نعم لكِ أجر ما أنفقتِ عليهم"، ولم يقيد ذلك بابتغاء وجه الله ـ عز وجل ـ فدل هذا على أن كل إنفاق ينفقه الناس أو الإنسان على من تجب النفقة عليه فهو مأجور عليه لكن يعظم الأجر ويتضاعف بحسن القصد والنية، وهذا موجود في كل عمل يتعدى إلى الآخرين، كل عمل يفعله الإنسان نفعه يتعدى إلى غيره هو مأجور عليه، ولو لم ينوي التقرب إلى الله بذلك بمعنى أنه ما استحضر نية ابتغاء وجه الله ـ عز وجل ـ فيما فعل، لكنه إذا استحضر هذه النية كان ذلك أعظم لأجره كما قال ـ تعالى ـ: ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾[النساء:114].
فأثبت الخير في هذه الأمور الثلاثة إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[النساء:114]فأثبت الأجر العظيم بابتغاء وجه الله، ولذلك ينبغي للإنسان أن يحسن النية في كل ما يبذله من خير لغيره حتى فيما يبذله جبلة، أو طبيعة، أو بحكم العادة، أو فرضًا فإنه ينبغي له أن يستحضر النية الصالحة، ليعظم أجره ويتضاعف ﴿لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[النساء:114].
فينبغي للإنسان أن يستحضر هذا المعنى، وهذا ظاهر في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حتَّى ما تَجْعَلُ في فَمِ امْرَأَتِكَ»يعني في فم امرأتك، اللقمة يؤجر عليها الإنسان، ومع أن الإنفاق على الزوجة فيه مصلحة للإنسان تعود إليه، فإنه إذا انفق على زوجته حسنت عشرتها له، وقامت بحقه، وحسن ما بينهما فعاد النفع إليه، فكيف إذا كان ينفق على من لا يرجو منه نفعًا، أو ما يكون الإنفاق عليه ثقيلًا، ويصعب عليه في العادة أن يخرج المال له، لا شك أن الأجر في ذلك مضاعف.
وفي الحديث الأخير الذي نقله حديث أبي مسعود البدري ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ»زوجة أو غير زوجة من ولد أو والد، «نَفَقَةً يَحْتَسِبُهَا فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ»وهذا بمعنى ما في حديث سعد بن أبي وقاص حيث قال: «أنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ»وهذا هو معنى يحتسبها أي أنه يطلب ثوابها وأجرها من الله عز وجل.
هذه الأحاديث فيها جملة من الفوائد:
من فوائدها: عظيم الأجر المترتب على الإنفاق، من فوائدها أن الأجر يتضاعف بحسن القصد والنية.
ومن فوائدها: أن الإنسان يؤجر على ما ينفقه ولو كان دقيقًا وقليلًا بقدر اللقمة، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه[7]وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾[الزلزلة:7-8]ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره.
وفيه أيضًا من الفوائد: أن إنفاق الإنسان في كل باب من أبواب البر وأبواب الخير هو مما ندبت إليه الشريعة، وأنه يؤجر على ذلك بقدر ما يكون قي قلبه من قصد ونية.
ثمة فوائد أخرى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.