الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد...
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين في باب وجوب نفقة العيال:
عن عبد الله بن عمر بن العاص ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «كَفَى بِالمَرْءِ إثْمَاً أنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»،وهو حديث صحيح رواه أَبُو داود وغيره أبو داود (1692)، والنسائي في «الكبرى» (9176)، وقد جاء في رواية مسلم: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «كَفَى بِالمَرْءِ إثْمَاً أنْ يحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ». مسلم (996)
وهذا الحديث بروايتين دال على عظيم حق من يقوتهم الإنسان، وهم من تجب نفقتهم عليه، من الزوجات، والأولاد، وذوي القرابات، والرقيق والمماليك بل والحيوان أيضًا. قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كفى بالمرء إثمًا» أي يكفيه من الإثم ويوقعه في المؤاخذة أن يضيع من يقوت، أي أن يضيع من يكون قوته عليه، وذكر القوت هنا لأنه أهم حوائج الإنسان؛ فإن القوت به قوام البدن، فلا تقوم الأبدان إلا بما يحفظها من القوت، وهو الطعام الذي يحفظ قوة البدن وحياته.
والحديث الآخر أو اللفظ الآخر قال: «كَفَى بِالمَرْءِ إثْمَاً أنْ يحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ»، وهذا اللفظ له قصة، وهو أن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كان قد أقام رجلًا على ملك له، فلما جاء إليه وهو يسمى الكهرمان، لما جاء إليه قال: أطعمت المماليك أو الرقيق؟ قال: لا، قال: قم فأطعمهم، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كَفَى بِالمَرْءِ إثْمَاً أنْ يحْبِسَ» أي يمنع، «عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ» أي الرقيق والمماليك قوته، ويلحق به كل من كان عليه نفقته ممن يلزمه الإنفاق عليه.
والحديث فيه جملة من الفوائد:
من فوائده: أن الرجل يجب عليه أن يحفظ من تحت يده ممن يقوتهم، ومن يقوم عليهم، وهذا دلت عليه أدلة كثيرة، ومنها ما تقدم في حديث ابن عمر وهو قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته» في حديث: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»صحيح البخاري (893)وصحيح مسلم (1829)، وفيه أنه يجب على الرجل أن يكتسب، وأن يعمل ليسد حاجة من تحت يده ممن تجب نفقتهم عليه من زوجة، وولد، وغير ذلك.
وهذا حسب طاقته أو حسب استطاعته، فلا يجوز لأحد أن يقعد عن العمل ويترك من يقوتهم بلا قوت، وفيه من الفوائد أيضًا: أن الإنسان ينبغي له أن يبدأ في الإنفاق على من يقوت، على من تجب نفقتهم عليه، ولا يقدم عليهم غيرهم سواء أن كان ذلك في الصدقات أو التطوعات أو غير ذلك مما ينفق فيه المال. وفي هذا قصة أن رجلًا كان عنده رقيق فأعتقه عن دبر، يعني قال: إذا مت فهو حر, فدعاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: «ألك مال غيره؟» قال: لا، فباع ذلك الرقيق ب800 درهم، فأخذ ـ صلى الله عليه وسلم ـ المال ودفعه إلى الرجل وقال له: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فما فضل فتصدق به على زوجك على أهله، فما فضل فتصدق به على ذوي قراباتك، فإن فضل شيء فهكذا وهكذا"صحيح مسلم (997)، يعني تصدق به كيفما شئت بعد ذلك، فرتب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مراتب الإنفاق، فلا يحل لأحد أن يخل بهذا الترتيب، فيبدأ بما هو أبعد ويترك الأقرب.
فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «كَفَى بِالمَرْءِ إثْمَاً أنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»، وقد جاء في الصحيح أنه قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وابدأ بمن تعول»البخاري (1426), ومسلم (1034) في الإنفاق فــ"ابدأ بمن تعول" يعني بمن ينتظر منك الإنفاق عليه.
وفيه من الفوائد: أن الإنسان يجب عليه السعي في حفظ من يقوتهم من كل وجه، فلا يغيب عنهم غيبة تفضي إلى ضياعهم، أو إلى تشتتهم أو إلى افتقارهم إلى غيره، وكل هذه المعاني مما يفيدها قوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «كَفَى بِالمَرْءِ إثْمَاً أنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ».
وفيه من الفوائد: أن الإنسان ينبغي له أن لا يستصغر الإثم، فقد يكون الإثم في عين الإنسان صغيرًا أو لا قيمة له وهو كاف في إلحاق العقوبة به وإنزال سخط رب العالمين به. وفيه عظيم عناية الشريعة بالحقوق وأن الشريعة جاءت بأداء الأمانات كما قال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا﴾[النساء:58] فجعل الإخلال بذلك موجبًا للإثم أعاذنا الله وإياكم من الإثم دقيقه وجليله، ورزقنا وإياكم البراءة من ظاهره وباطنه، وأعاننا على التوبة من كل قصور وتقصير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.