المقدم:بسم الله الرحمن الرحيم مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نحييكم تحية طيبة في بداية هذه الحلقة لبرنامج "الدين والحياة" عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة. في بداية هذه الحلقة مستمعينا الكرام تقبلوا تحياتي محدثكم وائل حمدان الصبحي، ومن الإخراج ماهر ناضرة.
مستمعينا الكرام! ضيف برنامج "الدين والحياة" هو فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم.
فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياك الله معنا في بداية هذه الحلقة.
الشيخ:-وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبا بك أخي وائل، وأهلا وسهلا بالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، حياكم الله.
المقدم:- أهلا وسهلًا فضيلة الشيخ مستمعينا الكرام، برنامج "الدين والحياة" نستمر معكم فيه على مدى ساعة كاملة بمشيئة الله تعالى، نطرح موضوعات تهم المسلم في أمور دينه ودنياه، نسلط الضوء عليها مما جاء في كتاب الله –عز وجل- وفي سنة المصطفى -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-
في هذه الحلقة نتحدث مستمعينا الكرام حول نعمة ومِنَّةٍ عظيمة من الله –تبارك وتعالى- جل وعلا- ألا وهي نعمة الصحة والعافية، سنتحدث عنها من منظور كتاب الله –عز وجل- ومنزلتها أيضًا بين النعم التي حبانا الله –تبارك وتعالى- إياها.
فضيلة الشيخ ابتداء ونحن نتحدث عن هذه النعمة العظيمة والمنة الجزيلة من الله –تبارك وتعالى- في كتاب الله –عز وجل- الآية الكريمة ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾[النحل: 53] نريد أن نتحدث عن مضامين هذه الآية، وكيف أن الصحة والعافية هي من أكبر النعم التي حبانا الله –تبارك وتعالى- إياها.
الشيخ:- الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسأل الله تعالى أن يرزقنا الصواب في المقال والعمل، وأن يوفقنا إلى شكر نعمه.
الله تعالى في كتابه الحكيم ذكر وذكَّر العباد بجزيل إنعامه عليهم، فهو –جل وعلا- المتفضل عليهم بألوان وصنوف النعم المتنوعة، فكل ما في الإنسان من نعمة وخير وإحسان وسعادة وبرٍّ ومتعة وسائر ما يسر به في نفسه، أو في أهله، أو في ماله، أو في ولده أو غير ذلك مما يسر به الإنسان فإنما هو من فضل الكريم المنان –جل وعلا-.
فهو المتفضل به –جل وعلا- على عباده، وهو الذي ساق ذلك، فلولا فضله وإنعامه ما أدرك الإنسان تلك النعم، ولا حصَّل تلك العطايا وتلك المنح، ولذلك الله تعالى يذكر عباده فيقول: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾[النحل: 53]، وهذا التذكير الإلهي للعباد إنما هو لتنبيههم إلى عظيم ما مَنَّ الله تعالى به عليهم ليشكروه ويقوموا بحقه ويعرفوا قدرَ إحسان ربهم إليهم –جل وعلا-.
والآية أجملت النعم ليشمل كل ما يكون من إحسان الله تعالى لعباده سواء أدركوه أو لم يدركوه؛ لأن نعمًا كثيرة تصل إلى الإنسان من الرب الكريم -جل في علاه- وهو عنها غافل، ولنا في أنفسنا عبرة؛ نحن كنا في بطون أمهاتنا نطفًا، ثم علقًا، ثم مضغًا مخلقة وغير مخلقة، ثم بعد ذلك أنشأَنا طورًا بعد طور -جل في علاه- ساق لنا ما تكمل به قوانا وقدراتنا، أخرجنا لا نعلم من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا فدَرَجْنا بمنِّه وفضله وكرمه وما سخر لنا من الأسباب حتى أصبحنا على قدرة ومعرفة وعلم وقوة وسير وانتقال وسائر ما يكون من أحوال الإنسان، كل هذا بنعمته جل في علاه.
نحن الآن نتكلم، أنا أتحدث وأنتم تسمعون، من يستشعر هذه النعمة، نعمة البيان؟ الله تعالى هو الرحمن، خلق الإنسان، علمه البيان، وأنتم تسمعون هذا الكلام وتعقلونه وتفهمون ما فيه من مدلولات، وذاك بفضل الله –عز وجل-، هذه كلها نِعم تحيط بنا من كل جانب، ونحن عنها في غفلة، هذا من جهة إيصاله –جل وعلا- الإنعام والكرم والفضل والإحسان إلى عباده.
وثمة وجه آخر لنعم الله تعالى التي ينعم بها على عباده، وهي نعمه –جل وعلا- بصرف الشر عنهم وكفايتهم ما يكون من الضرر الذي يصل إليهم، فكل هذا بإنعامه، فنعم الله دائرة بين إحسان واصل وبين شرٍّ مندفعٍ ومكشوف ومدفوع، قال الله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾[النحل: 53]، فنعم الله تعالى كثيرة وفيرة ومتنوعة، وحقه –جل وعلا- فيها أن يشكر.
من نعم الله تعالى التي نغفل عنها كثيرًا وهي مندرجة في قوله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾[النحل: 53]: نعمة الصحة في الجسم والعافية في الأبدان، فهي نعمة كبيرة أنعم الله تعالى بها على عباده، فصح لنا الأسماع والأبصار والعقول والأبدان والقوى والقدرات، فتمكنا بذلك من السعي في الأرض، ونيل ما فيها من خيرات وعماراتها بأنواع من العمارة التي يدرك بها الناس مصالحهم ومعاشهم وسعتهم وراحتهم في هذه الدنيا، كل ذلك بفضله –جل وعلا-، كل ذلك من إنعامه فهل نحن مستشعرون لهذه النعمة العظيمة التي أنعم بها علينا –جل وعلا- في أبداننا؟
ولا يعرف قدر هذه النعمة حق قدرها إلا من فتح الله بصيرته فأدرك نعمة الله تعالى عليه في جسمه بعافيته في بدنه بقوته في سمعه، بما يدركه من المبصرات في بصره، وفي سمعه بما يدركه من المسموعات، وفي عقله بما يدركه من الفكر الذي يدرك به الأمور، ويميز به بين الخير والشر، والهدى والضلال، والنافع والضار، ويدرك به مصالحه في دينه ودنياه، كل ذلك من نعم الله تعالى على عباده في هذه النعمة العظيمة التي أكثرنا عنها غافل، ولا يستشعر إحسان الله تعالى إليه بهذه النعمة التي تطيب بها حياته ويزين بها معاشه ويدرك بها مصالح دنياه.
ولهذا فسر بعض أهل العلم قول الله تعالى فيما ذكره من دعاء الداعين: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[البقرة: 201].
فسَّر بعض أهل العلم حسنة الدنيا بالصحة والعافية، قال السُّدِّي: "الحسنة في الدنيا الصحة والعافية"[التحرير والتنوير:23/354] وجاء نظيره عن عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه-، وعن غيرهم[قاله أيضا قتادة.تفسير الطبري:4/203]، ويبين هذا ويشهد له ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه-«أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، عَادَ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ قدْ خَفَتَ فَصَارَ مِثْلَ الفَرْخِ، فَقالَ له رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: هلْ كُنْتَ تَدْعُو بشيءٍ، أَوْ تَسْأَلُهُ إيَّاهُ؟ قالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ ما كُنْتَ مُعَاقِبِي به في الآخِرَةِ، فَعَجِّلْهُ لي في الدُّنْيَا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: سُبْحَانَ اللهِ لا تُطِيقُهُ، أَوْ لا تَسْتَطِيعُهُ، أَفلا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ قالَ: فَدَعَا اللَّهَ له، فَشَفَاهُ». [صحيح مسلم:ح2688/23]
فوجهه النبي –صلى الله عليه وسلم- إلى ما يزيل عنه البلاء، وما يحصل له به الإنعام من الله –عز وجل- فقال: «اللهم آتنا في الدنيا حسنة»، ومنها صحة البدن وعافيته«وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»قال أنس: "فدعا له النبي –صلى الله عليه وسلم- فشفاه الله".
فالمقصود أن هذه النعمة التي نتنعَّم بها ويتنعم بها كثير من الناس، ويتذوقون منافعها، ويدركون مصالحها في معاشهم، وفي أحوالهم، وفي نهارهم ومسائهم، وفي يقظتهم وفي منامهم يغفل عنها كثير من الناس، ولا يستشعرها أكثر الناس ويظنون أنها لا تستوجب شكرًا؛ لأنهم غافلون عن أن هذه نعمة، لما تنام ولا تجد ألمًا، ولا تجد عِرقًا يقلقك، ولا ألمًا يزعجك وتستيقظ وأنت في غاية القوة والعافية والكفاية وتنتقل وتذهب وتجيء هذه من النعم التي ينبغي أن يستحضر بها الإنسان عظيم إنعام الله تعالى عليه ويشكره جل في علاه.
فاستحضر هذا، وكن على وعي أن قوله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾[النحل: 53] شامل لكل إنعام الله عليك ذكرتَه أو لم تذكره، استشعرت به أو لم تستشعره، أحطتَ به أو لم تحط به، فنعم الله تعالى عليك كثيرة، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾[إبراهيم: 34]، فلا نملك إحصاء نعمة الله مهما بالغنا في العدِّ، لو سئل الإنسان عدَّ أفراد نعمة الصحة عليه في سمعه، في بصره، في سائر أجزاء بدنه لوجد أن النعم كثيرة لا يحيط بها علمًا، ولا يقوى على شكر نعم الله التي أنعم بها عليه.
ولذلك استشعار هذا المعنى لِسِعَته التي دلت عليها الآية مما يُعين الإنسانَ على تلمُّس إنعام الله تعالى عليه، وما يدركه بهذا التنبه يجعله عاملًا بشكر الله –عز وجل- قائمًا له بحقه –جل وعلا-
والنبي –صلى الله عليه وسلم- ينبه الناس إلى هذا المعنى في استشعار نعمة الله تعالى على الإنسان كما في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي ذرٍّ قال –صلى الله عليه وسلم-: «يُصبِحُ على كلِّ سُلامَى من أحدِكم صَدقةٌ» كل سُلامي يعني: كل عظم صغير في بدنك لله عليك فيه حق تشكره –جل وعلا- على هذا الإنعام وهذا الإحسان في قوله r:«يصبح على كل سلامي»يعني على كل عظم، وعلى كل مفصل من مفاصلك التي تدرك بها مصالحَك وتَنَال بها ما تؤمل من الخير، وما ترجو من السعة في دينك ودنياك أن تشكر الله تعالى «يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة»ثم ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم- أبواب وأوجهَ شكر نعم الله –عز وجل- «فكلُّ تَحميدةٍ صدقةٌ، وكلُّ تهليلةٍ صدقةٌ، وأمْرٌ بالمعروفِ صَدقةٌ، ونهيٌ عن المنكَرِ صدقةٌ، ويُجزِئُ عن ذلك ركعتانِ يَركعُهما من الضُّحَى»[صحيح البخاري:ح2891، وصحيح مسلم:ح720/84، واللفظ لمسلم].
فتذكَّروا أيها الإخوة والأخوات هذا الإنعام الجزيل من الرب الكريم –جل وعلا- ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾[النحل: 53]، ومن ذلك ما أنعم به عليكم من صحة أبدانكم، فله الحمد وله الشكر.
المقدم:- سبحانه وتعالى!اسمح لي أن نذهب إلى فاصل بعده -بمشيئة الله تعالى- سنكمل حديثنا عن منزلة الصحة والعافية، هذه النعمة العظيمة التي حبانا الله –تبارك وتعالى- إياها من بين النعم؛ لأنه بحصول هذه النعمة والمنة من الله –تبارك وتعالى- يستطيع المسلم أن يؤدي عبادته كاملة لله –تبارك وتعالى- وأن يؤدِّي ما طلبه الله –عز وجل- منه في هذه الحياة الدنيا من عبادته وحده لا شريك له، وأيضًا من عمارة الأرض.
نريد أن نتحدث عن هذه الجزئية تحديدًا فضيلة الشيخ، لكن بعد فاصل قصير نكمل بعده حدثنا، مستمعينا الكرام! فاصل قصير نكمل بعده الحديث، ابقوا معنا.
حياكم الله مستمعينا الكرام، نجدد الترحيب بكم في هذه الحلقة المباشرة لبرنامج "الدين والحياة" عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة نجدد الترحيب بضيفنا الكريم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، أهلا وسهلا فضيلة الشيخ مجددًا، حياك الله.
الشيخ:- أهلا وسهلا بك وبالإخوة والأخوات، حياكم الله.
المقدم:-فضيلة الشيخ نتحدث عن نعمة الصحة والعافية هذه النعمة التي يهبها الله –تبارك وتعالى- لعباده نريد أن نتحدث في هذه الجزئية عن منزلة نعمة الصحة بين النعم، وكيف أن المسلم بهذه الصحة التي يهبها الله –تبارك وتعالى- إياها يستطيع أن يؤدي ما أوجبه الله –عز وجل- من عبادته وحده لا شريك له، ومن القيام بالواجبات التي أوجبها الله –عز وجل-، وأيضًا من الأمور الأخرى التي تصلح بها حياة الإنسان، ويصلح بها معاشه أيضًا.
الشيخ:- نعمة الصحة نعمة عظمى ومنزلتها في النعم هي في الذروة لا تتم نعمة من نعم الله تعالى على عبده إلا بالصحة؛ ولذلك كانت نعمة الصحة أعظم ما ينعم الله تعالى به على العبد بعد الإيمان، فالذروة في النعم هو أن يشرح الله صدرك للإنسان، وأن يهديَك سبل السلام، وأن يوفقك العمل بخصال الإيمان وشعبه، وأن يبلغك درجة الإحسان.
هذه أعلى المنازل وأكرم الملل التي يتفضل الله تعالى على عباده، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم، ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ﴾[الحجرات: 16]، فنعمة الله بالهداية هي في الذروة، تليها نعمة الصحة، ونعمة الصحة في النعم من أعلى ما يكون؛ لأنه لا يمكن أن تكون نعمة على وجه الكمال إلا بصحة الأبدان، حتى النعمة بالدين لا تتم إلا بكمال الصحة.
ولذلك الله –جل وعلا- عذر المريض في مواضع عديدة لفقده الكمال الذي يوجب العبادات، الذي يوجب القيام بحقه تعالى، ويجعل العبد في منزلة يُطلب منه ما لا يُطلب من غيره، وهذا في كل ما يكون من الأعمال العبادية.
الصلاة؛ الله –عز وجل- يقول في محكم كتابه: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ﴾، ومنه خوف المرض ﴿فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 238- 239].
وفي الصوم يقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾[البقرة: 184]، وقال في الحج: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾[آل عمران: 97]، وقد فسرت الاستطاعة بصحة الأبدان وقوتها التي يبلغ بها الإنسان القدرة على فعل الوصول إلى البيت الحرام، وأداء مناسك الحج التي فرضها الله تعالى عليه، وهلمَّ جرًّا من المواطن التي عذر الله تعالى فيها المرضى ﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾[النور: 61]، كل ذلك مراعاة لفقد ما يكمل به حال الإنسان.
فنعمة الصحة هي السبيل لإدراك سائر النعم، وكذلك فيما يتعلق بنعم المعاش من الملذات والمشتهيات لا تتم إلا بنعمة الصحة، فإنه مهما كان الإنسان على قدر من المُكْنة في ماله، والمُكنة في غناه فإنه لا يدرك ما يؤمِّله من التلذذ بالمباحات التي أباحها الله تعالى عليه في المآكل والمشارب وسائر أوجه الملذات والمُتَع إلا بالصحة.
فإذا فقد الصحة لم يتمكن من التنعم بهذه النعم المتنوعة التي أنعم الله تعالى بها عليه، ويبين هذا أن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عندما ذكر ألوان ما يتم به حال الإنسان في دنياه، جاء فيما رواه الترمذي من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري مرفوعًا إليه –صلى الله عليه وسلم- قال: «من أصبح معافًى في جسده»هذه النعمة الأولى يعني سالمًا في جسده في سمعه، في بصره، في نطقه، في عقله، في سائر أعضاء بدنه «آمنا في سِربِه»أي: آمنا في نفسه، أو في قومه «عنده قوت يومه»، الكفاية التي يقوم بها البدن من الطعام والشراب، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «فكأنما حِيزَت له الدنيا»جُمعت له الدنيا، وبدأ النبي –صلى الله عليه وسلم- في ذكر أسباب اكتمال النعم على الإنسان أنه إذا حصَّل هذه الأشياء الثلاثة: الصحة في البدن، والأمن على النفس، والكفاية الغذائية؛ إذًا بدأ بأهمها والتي يكمل بها كل النعم المتبقية، فقال: «من أصبح معافًى في جسده»أي: سالمًا من الأمراض والآفات، ممتعًا بالقوى والقدرات التي تبلِّغه ما يؤمل من الأمن، وتبلِّغه ما يؤمّل من القوت، فقد يصبح عنده قوتُ يومه لكن لا يستطيع أن يأكل، عنده أمن في نفسه على نفسه وعلى ماله، لكن ما يستطيع أن يتحرك ليكتسب أو ليحصل منافعه، وبالتالي تنخرم وتنقص هذه النعم بفقد صحة البدن، وعدم المعافاة في الجسم؛ لذلك قال –صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أصبحَ منكمْ آمنًا في سربِه، معافًى في جسدِه، عندَهُ قوتُ يومِه، فكأنَّما حيزتْ له الدنيا بحذافيرِها».[أخرجه الترمذي في سننه:ح2346، وحسنه]
ولعلوِّ منزلة الصحة في قائمة نعم الله تعالى على عباده بعد نعمته عليه بالإيمان والإسلام والإحسان قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم - إنه لا بأس بالغنى لمن اتقى، يعني لا يلحق الإنسان بأس إذا اغتنى ما دام أنه تقيٌّ، ما دام أنه ملازم لخصال التقوى؛ لأن التقوى تحمله على استعمال هذا الغنى فيما يرضي الله –جل وعلا-، فيما يرضي الحميدَ الغنيَّ جل في علاه –سبحانه وبحمده-.
لذلك قال: «لا بأس بالغنى»أي ليس به بأس، ولا يلحق بالإنسان فيه نقص «لمن اتقى»ثم قال –صلى الله عليه وسلم-: «والصحة»وهي عافية البدن، وكمال الأدوات التي يتفضل بها على عبده في سمعه وبصره وقواه «والصحة لمن اتقى»يعني لمن كان تقيًّا«خير من الغِنَى»أن تكون صحيح البدن، ممتَّعًا بتقوى الله –عز وجل-، ملتزمًا خصال المتقين وأعمالهم هو خير من أن تكون غنيًّا مع التقوى دون صحة؛ لأن الصحة بها يدرك الإنسان ثمار الغنى.
الغنى لماذا يطلب؟ يطلب للملذَّات والمتع، وأيضًا يطلب أيضًا للسعي في الأرض بكفاية المحتاجين، بأن يوضع فيما يكون من جهات الخير التي يسخر الله تعالى للعبد فيصرف ما له فيها، إذا لم يكن صحيح البدن فإنه لا يتحقق له هذا على وجه الكمال فيما يتعلق بطاعة الله –عز وجل- بصرف المال في أوجه البر، وكذلك لا يتحقق له استمتاعه بالغنى الذي أذن الله تعالى له في مأكله ومشربه، وفي سائر ما يكون، ومسكنه، ومركبه، وسائر ملذاته لا تتحقق المتعة الكاملة وثمرة الغنى إذا فقد الإنسان الصحة.
ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أحمد وابن ماجه في حديث عبد الله بن خبيب، عن عمه عبيد، قال –صلى الله عليه وسلم-: «والصِّحةُ لِمَن اتَّقى خَيرٌ مِن الغِنى، وطِيبُ النَّفسِ مِن النَّعيمِ».[سنن ابن ماجه:ح2141، ومسند أحمد:ح23158، وصححه الحاكم(ح2131)، وافقه الذهبي]
ولهذا العافية في الأبدان من أعظم عطايا الله تعالى للعبد، وهي أفضل ما يقسمه له، الصحة أفضل من الغنى بلا صحة، وخير من جاه وسلطان بلا عافية، ولذلك استشعر أيها المؤمن! أيها الأخ الكريم! وأيتها الأخت الكريمة! إنعام الله تعالى عليكم، نحن نغفل عن نعم الله وقد تطلَّع أنفسنا لما في أيدي غيرنا، ونغفل عما أفاض الله تعالى به علينا من النعم التي قد نكون غافلين عن أنَّ من ننظر إليهم ونمدُّ أعيننا لما مُتِّعوا به قد فقدوا هذه النعمة.
فتجد الإنسان ينظر إلى حال الغنى لكن هذا الغنى الذي على هذه الحال قد يكون فقد صحة مَنَعَتْه من الانتفاع بهذا الغنى الذي في يديه، وأنت على قِلَّة يديك منَّ الله عليك بما لا يعدِلُه شيء.
الغنى لو مرض وقيل له: كم تدفع لتدرك الصحة؟ لكان على حسب حاله قد في بعض الأحيان يقول: أدفع كلَّ مالي وأكون صحيحًا في بدني؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يستشعر هذا المعنى قوله –صلى الله عليه وسلم- «والصِّحةُ لِمَن اتَّقى خَيرٌ مِن الغِنى»[سبق]، لكن أن يلاحظ أن الصحة بلا تقوى هي وبالٌ على صاحبها؛ لأنه سيستعملها فيما لا يرضى الله تعالى، لكن إذا لازم التقوى في صحته كان قائمًا بما أمر الله تعالى به، حافظًا نفسه عما حرمه الله تعالى عليه.
أيها الإخوة والأخوات لمنزلة الصحة العالية السامية كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يسأل الله تعالى كلَّ يوم المعافاة في بدنه، المعافاة في سمعه، المعافاة في بصره، وهذا يدل على أن الصحة مدد من الله لعبده يتجدد كل يوم، فينبغي للإنسان ألا يظن أنها عطاء مضمون له لا يحول ولا يزول، بل هو عطاء يُمتحن به الإنسان، فكما أن الإنسان يُمتحن بالمرض، يُمتحن بالصحة، يُمتحن بالمرض ليرى صبره، ويُمتحن بالصحة ليرى شكره، ولذلك ينبغي للإنسان أن يشكر الله تعالى، وأن يسأله المزيد من فضله.
فالصحة مال ممدود يدرك به الإنسان لذة كلِّ مرغوب، ويبلغ به كل مطلوب في أمر دينه ودنياه، في العبادة والطاعة، وفي الراحة والمتعة واللذة، ولعظيم منزلة هذه النعمة (الصحة والعافية) كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يدعو الله تعالى بها كل يوم، ففيما حفظ عنه في حديث أبي بكر أنه كان يقول –صلى الله عليه وسلم-: كلَّ صباح وكل مساء ثلاث مرات: «اللَّهمَّ عافِني في بَدَنِي، اللَّهمَّ عافِنِي في سَمْعي، اللَّهمَّ عافِنِي في بَصَري، لا إلهَ إلَّا أنتَ، تُعِيدُها ثَلاثًا حينَ تُصْبِحُ، وَثَلاثًا حينَ تُمْسي، وَتَقولُ: اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الكُفرِ وَالفَقرِ، اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِن عَذابِ القَبرِ، لا إلهَ إلَّا أنتَ، تُعيدُها حين تُصْبِحُ ثَلاثًا، وَثَلاثًا حين تُمْسي».[سنن أبي داود: ح5090، وأحمد في مسنده:ح20430، وحسنه الألباني في تمام المنة:1/232]
تكرِّر هذا الدعاء ثلاث مرات، وانظر كيف سأل العافية في سمعه، والعافية في بصره، والعافية في بدنه، ومن العافية في السمع والبصر والبدن ألا يستعمله الإنسان فيما يغضب الله –عز وجل-.
أيها الإخوة والأخوات! العافية والصحة والمعافاة في الأبدان، والصحة في الأجسام رأس النعيم وذروته.
المقدم:-يبدو أننا فقدنا الاتصال بفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، مستمعينا الكرام سنذهب إلى فاصل بعده -بمشيئة الله تعالى- نستكمل حديثنا، كنا منسجمين مع حديث فضيلة الشيخ عن هذه النعمة العظيمة والمنة الكبيرة ألا وهي نعمة الصحة والعافية، سنذهب إلى فاصل بعده -بمشيئة الله تعالى- نستكمل حديثنا مستمعينا الكرام، ابقوا معنا.
حياكم الله مستمعينا الكرام مجددًا، نجدد الترحيب بضيفنا الكريم، أهلا وسهلا فضيلة الشيخ حياك الله.
الشيخ:-أهلا وسهلا، مرحبا بك، حياك الله، وحيا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
المقدم:-فقدنا الاتصال بك، ونبدأ من حيث ما انتهينا فضيلة الشيخ.
الشيخ:-وصلنا الله وإياكم بحبله وبكل خير! فيما يتعلق بنعمة الصحة في الأبدان والعافية في الأجسام هي الذروة في النعم بعد نعمة الإيمان والإحسان، هي رأس النعيم؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يعرف قدر هذه النعمة، ومما يدله على معرفة قدر هذه النعمة أنه يوم القيامة سيسأل أول ما يسأل عن نعيم الصحة والعافية في جسده، جاء في الترمذي من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «أوَّلُ ما يُسأَلُ عنْه العبْدُ يومَ القِيامةِ مِن النَّعيمِ: أنْ يُقالَ له: ألمْ نُصِحَّ لك جِسْمَك، ونُرْوِك مِن الماءِ البارِدِ».[سنن الترمذي:ح3358، وصححه الألباني في المشكاة:ح5196 ]
هكذا جاء عنه –صلى الله عليه وسلم- في الخبر فأول ما يسأل عنه الإنسان من أنواع النعم التي أنعم الله تعالى بها بعد الإيمان والطاعة والإحسان: نعمة صحة الجسد، صحة البدن.
ولهذا قال من قال من السلف في تفسير قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾[التكاثر: 8] قال أي: عن الصحة.
قال ابن عباس في تفسير قوله: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾[التكاثر: 8] قال:"النعيم: صحة الأبدان، والأسماع والأبصار، يسأل الله العبادة فيم استعملوها؟[تفسير الطبري:24/582]، يعني أين صرفت صحة بدنك، صحة سمعك، صحة بصرك، هل هو فيما يرضي ربك أم في غير ذلك؟
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾[الإسراء: 36] مسئول يوم القيامة؛ لأنها إنعام وإحسان سمعًا وبصرًا وفكرًا وقوة وقلبًا وبدنًا، كل ذلك ستسأل عنه يوم القيامة، بهذا يعلم الإنسان أن هذه النعمة تستوجب شكرًا، تستوجب ثناء على الله –عز وجل-؛ ولذلك كان من شكر هذه النعم أن يبادر الإنسان إلى اغتنام الفرصة التي أتاحها الله تعالى له باغتنام الصحة في طاعة الله –عز وجل-، هذه القوة في بدنك بادر إلى أداء ما فرضه الله تعالى عليك، بادر إلى استعمال ما يحب الله تعالى ويرضى، بادر إلى شكر نعم الله تعالى عليك.
فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- نبه إلى أن سلامة هذه الأعضاء، وهذه المفاصل كل يوم تستوجب شكرا، بتسبيح وتحميد وتقديس وتهليل وتكبير وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وسائر ألوان أوجه الشكر بالطاعات والتقربات وقد جاء في موعظة النبي –صلى الله عليه وسلم- لرجل كما جاء عن ابن عباس في السنن، قال النبي واعظًا الرجلك «اغتنم خَمْساً قبل خَمْس: شبابَك قبل هَرَمِك، وصحتَك قبل سَقَمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».[سنن النسائي الكبرى:ح11832، ومستدرك الحاكم:ح7846، وقال:«هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ». ووافقه الذهبي]
فينبغي للإنسان أن يدرك هذا المعنى، وأن يبادر إلى اغتنام هذه الصحة في بدنه باستعمالها في أوجه البر والخير؛ ولما كان أكثر الناس عن نعمة الصحة غافلين وعن شكرها مُلتَهين كان أكثر الناس في غُبن عن إقامة حق الله في هذه النعمة.
لهذا جاء في صحيح الإمام البخاري من حديث عبد الله بن عباس قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «نِعمتانِ مَغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ».[صحيح البخاري:ح4612]
نعمتان أنعم الله تعالى بها على خلقه غُبن فيهما كثير من الناس، أي: خسرها ونقصها وأضاعها، ولم يقم بحقها كثير من الناس، ما هما؟ هاتان النعمتان: الصحة والفراغ.
الصحة: قوت البدن، واستمتاع الإنسان بكمال سمعه وبصره وقوة بدنه وفكره وعقله، والفراغ هو: محل الشغل، فإذا أضاع الصحة فلم يشكرها، وأضاع الفراغ فلم يعمره بما يُعمَّر به من الصالح من العمل في أمر دينه ودنياه فإنه خاسر؛ ولهذا من الغبن في الصحة ألا تشكر من أنعم بها عليك، فلا تغفل أيها الأخ الكريم وأيتها الأخت الكريمة لا تغفلوا عن هذه النعمة التي تصبحون وتمسون وأنتم تتقلبون فيها وتتفيئون ظلالها، فالصحة حقيقة غِنى الجسد، الجسد الصحيح هو الجسد الغني، وهو أكمل الغنى.
ولذلك قيل في الحكمة: العافية والصحة المُلك الخفي، وكم من نعمة الله عليك في عِرق ساكن من الألم، سالم من الوجع، ولكن لما كان الناس يتعودون ويألفون هذه النعم يغفلون عنها، ولكن ينبههم الله تعالى بأمرين:
الأمر الأول: ما ينزل بهم من الأمراض، فيفقدون الصحة، فيعرفون قدر نعمة الله تعالى عليهم بالعافية.
ولذلك قال من قال: لا يعرف المعافى قدر نعمة الصحة حتى يصاب، وإنما يعرف قدر النعمة بمقاساة ضدها، كل النعم لا تعرف إلا إذا، لا يعرف القدر التي أنعم الله تعالى بها عليك بهذه النعمة إلا إذا ذقت طعم أضدادها، بالمرض يُعرف قدر الصحة، بالخوف يعرف قدر الأمن، وهكذا كل نعمة تعرف بضدها، فالضد يُظهِر حُسنَه الضدُّ، وبضدها تتميز الأشياء.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يتنبه أن الله تعالى يذكِّره بما ينزل به من المرض، ولو كان المرض عارضًا من مرض زكام، أو ما أشبه ذلك من الأمراض العارضة، لكن ضد أثرها: أحيانًا ألم ضرس، أحيانًا ألم ظفر، أحيانًا وجع طرف، يقلق الإنسان ولا يُنِيمُه ولا يجعله يهنأ لا في منام، ولا في مأكل، ولا في مشرب، ولا في حديث، وهو من أيسر الأمراض ومن أهونها، ففقد الصحة ولو كان يسيرًا قد يعثر حياة الإنسان، فكيف بالأمراض المعضلة والنوازل الكبرى!
ولذلك كانت الأمراض الكبيرة التي تفقد الصحة من أسباب الشهادة، النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: «المطعون»يعني من أصابه الطاعون «شهيد، والمبطون»يعني من مات بسبب مرض ببطنه «شهيد»[صحيح البخاري:ح5733]، وهذه المنزلة العالية الشهادة لا تُبلغ بشيء يسير، لكن لما كان فقد هذه النعمة عظيمًا ومؤثرًا على حياة الإنسان ومصابًا جللًا كان موجبًا لهذا العطاء.
والنبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: «من فقد إحدى حبيبتيه»يعني إحدى عينيه، فقد البصر في إحدى عينيه «فصبر فله الجنة»[صحيح البخاري:ح5653, ولفظه: «إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الجَنَّةَ»]، الجنة عظيمة المقام، جليلة المنزلة، يعطاها بفقد إحدى عينيه إذا صبر على ذلك، وذلك لعظيم المصاب بفقد هذه النعمة وهي اكتمال البصر بأن يبصر بعينيه مع أنه قد بقي له بصر في عين واحدة، لكن لما فقد واحدة من عينيه فلم يبصر بها كان ذلك موجبًا لهذا العطاء، نعمة الصحة ندركها بالمرض، هذا طريق.
الطريق الثاني: إذا أصح الله بدنك ولم يصيبك بالمرض، فإنك تدرك نعمة الصحة بالنظر إلى من ابتلوا وكيف تأثرت حياتهم؟ وكيف لم يدركوا ما أدركته من الاستمتاع في حياتك؟ في منامك، في يقظتك؟ أنت قد تزور مريضًا، وتسمع أنينه، وترى معاناته فيكون هذا مذكرًا لك بعظيم إنعام الله عليك، نحن نزور المرضى ونراهم لكن لا يستشعر الإنسان عظيم نعمة الله عليه، بما منَّ عليه من سلامته من هذا المرض يعني نرى مَن فَقَد البصر، ونرى من ضعف سمعه، أو فقد السمع، ونرى من أصيب بأنواع من الآفات والأمراض العارضة والمستديمة، فهل يَرِد على خواطرنا شكرُ الله تعالى؟ أن الله منَّ علينا بأضداد هذه الأمراض التي زرنا أصحابها، أو رأينا أصحابها قد ابتلوا بها، ينبغي للإنسان أن يحمد الله على أن عافاه، وأن يشكر هذه النعمة، وأن يستجلب فضل الله تعالى بمزيد شكره، فإن الله تعالى قد أذن بمزيد من الشكر ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾[إبراهيم: 7].
وأنا أقول: نحن في ظرف عالمي عامٍّ يعلِّمنا ويعرفنا بقدر الصحة، هذا الوباء الذي شاع وانتشر وعم العالم كله أخاف المرضى والأصحاء، أخاف الصغار والكبار، أخاف الأغنياء والفقراء، هذا المرض الذي أصبح هاجسًا أشغل العالم، وعطَّل اقتصادهم هو عنوان فقد الصحة، وذلك يبين لك عظيم ما كنت عليه قبل نزول هذا المرض وعظيم إنعام الله عليك بالسلامة منه.
فلذلك ينبغي للإنسان أن يشكر نعمة الله تعالى عليه، وأن يحمد الله تعالى على ما أنعم به عليه من صحة بدنه، وليستعمل ذلك فيما يرضي ربه «اغتنم خَمْساً قبل خَمْس: شبابَك قبل هَرَمك، وصحتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك».[سبق]
فنسأل الله أن يعيننا على ذلك، وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى، وأن يرزقنا شكر نعمه علينا، وأن يعيذنا من أن نغفل عما أنعم به علينا في أبداننا وأهلينا ووطنا وسائر ما أفاض به علينا مما نعلم، ومما لا نعلم، فنحن نشكره على كل إحسان ظاهر أو باطن، أسبغ علينا نعمه ظاهره وباطنه، منها ما نعلمه ومنها ما نجهله، فله الحمد، فما أصبح عبد فقال: اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك إلا شكر الله –عز وجل-.[سنن أبي داود:ح5073، وصححه ابن حبان:ح861]
فقل هذا صباحًا ومساء تدرك شكر نعم الله عليك الحاضرة والماضية، ما علمت منها وما لم تعلم.
المقدم:-جميل، الله يعطيك العافية فضيلة الشيخ! شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ، شكر الله لك، وكتب الله أجرك فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم شكرًا جزيلا فضيلة الشيخ.
الشيخ:-وأنا أشكركم، وأسأل الله تعالى أن يفيض علينا وإياكم من نعمه، وأن يتم علينا العفو والعافية، وأن يسبغ علينا الإحسان، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء وشر، وأن يرفع عنا وعن المسلمين وعن البشر هذا الوباء، وأن يوفق قيادتنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده إلى ما يحب ويرضى، وأن يؤمننا في أوطاننا، وأن يعم الخير البشر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم:- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.