قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في باب وجوب أمر أهله وأولاده المميزين وسائر من في رعيته بطاعة الله ـ عز وجل ـ ونهيهم عن المخالفة:
عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جرى منه الحسن بن علي موقف فقال أبو هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ في بيان ذلك قال: أخذ الحسن بن علي ـ رضي الله عنهما ـ تَمْرَةً مِنْ تَمْر الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا في فِيهِ، فَقَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "كَخْ كَخْ إرْمِ بِهَا، أمَا عَلِمْتَ أنَّا لا نَأكُلُ الصَّدَقَةَ!؟" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ صحيح البخاري(1491)، وصحيح مسلم(1069) وفي رواية: (( أنَّا لا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ))
هذا الحديث الشريف فيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما رأى الحسن بن علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ يأخذ من تمر الصدقة أي: التمر الذي اجتمع لدى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الزكاة فالصدقة هنا هي الزكاة الواجبة فجعله في فيه أي: هم بأكله بل أدخله في فمه.
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ له: كخ كخ وهذه كلمة تقال في النهي عن المستقذرات من الأقوال والأعمال والأفعال فنهاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلغة يفهمها وهي كلمة تقال للصبيان الصغار لمنعهم من المستقذر في العمل أو الفعل فقال: "ارم بها" وهذا توضيح لما ينبغي أن يكون عليه من تجنب ذلك بالبعد عن تمر الصدقة ثم بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السبب في ذلك فقال: هل علمت إنا لا نأكل الصدقة وفي رواية أما علمت أن لا تحل لنا الصدقة.
والمقصود بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أما علمت أن أي: النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأهل بيته فالمقصود في الضمير في قوله: (إنا) أي أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكذلك أهل بيته لا تحل لهم الصدقة والمقصود بالصدقة في هذا السياق الزكاة بالإجماع، فلا خلاف بين العلماء في أنها لا تحل الصدقة الواجبة وهي الزكاة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولآل بيته وهم بنو هاشم وبنو المطلب على الراجح من قولي أهل العلم.
وأما الصدقة التي يتطوع بها وهي صدقة التطوع فهذه اختلف العلماء هل تحل له ولأهل بيته أو لا؟ على قولين والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أنها ملحقة بالصدقة الواجبة؛ لعموم الأحاديث الواردة في ذلك وإن كان جماعة من أهل العلم قالوا: إن النهي إنما عن الصدقة الواجبة دون الصدقة المستحبة, ومما يدل على عموم ذلك في الصدقة الواجبة والمستحبة أنه كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيح من حديث أبي هريرة أنه إذا جيء له بشيء قال: أصدقة أم هدية؟ فإن قال: هدية أصاب منه وإن قال: صدقة دفعها إلى أصحابه وهذا بيان أنه تدفع إلى أصحابه ولو لم يكونوا مستحقين للزكاة فيما يظهر والله تعالى أعلم.
والحديث فيه جملة من الفوائد:
من فوائده ما ذكره المصنف في الترجمة من أن الإنسان يأمر ولده وأهله بما يجب عليهم من تقوى الله ـ تعالى ـ قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾[طه: 132] فالصلاة هي رأس الواجبات ويدل على الأمر بكل واجب من الواجبات، وكذلك قوله ـ تعالى ـ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[التحريم: 6] فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر الحسن بما يجب عليه من تجنب الصدقة والأكل منها لأنه من آل البيت.
وفيه من الفوائد: أن الأحكام تعم الصغير والكبير، فإنه يجب فيما يتعلق بالمناهي يجب تجنيب الصغير ما يجنبه الكبير، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر الحسن أن يرمي بهذه التمرة وأخبره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأنهم لا تحل لهم الصدقة، وعليه فإنه ينبغي على من له أولاد صغار أن يجنبهم المحرم وأن يبين لهم ذلك فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين ذاك وهذا من فوائد الحديث أيضًا أنه ينبغي أن يفهم من يؤمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر بما يتبين له الحكم أن ذلك ليس لأجل غرض من الأغراض إلا أن الله ـ تعالى ـ حرمه وهذا من هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يبين ما يقوم من الأحكام المتعلقة بالأفعال فهذا الصغير بين له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحكم بقوله: أما علمت أنا لا نأكل الصدقة.
وأيضًا فيه من الفوائد: أن الإنسان يخاطب كل أحد بما يفهمه فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاطب الحسن في هذا الحديث بما يفهمه الصغار من أن كلمة كخ كلمة يفهمها الصغير أنها منع وزجر له من أن يمضي فيما هو فيه من عمل أو فيما هو فيه من حال.
ولذلك ينبغي الإنسان إذا خاطب الصغار أن يخاطبهم بما يفهمون، لأن المقصود إيصال المعاني بكل وسيلة من الوسائل وبكل لفظ من الألفاظ التي تفيد المعنى وفيه من الفوائد أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لا يرجو من الناس نفعًا أو أجرًا أو ثوابًا على ما يقدمه من الخير، ولذلك حرم الله ـ تعالى ـ الصدقة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبيان كمال استغنائه عن الناس، وأنهم يدعونه إلى ما فيه نفعهم لا إلى ما يعود نفعه إليه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فيما يتصل بالمنافع العاجلة الدنيوية.
وفيه من الفوائد: أن الإنسان يأمر من تحت يده من أهله ولو لم يكونوا أولاد له مباشرين فإن الحسن بن علي سبط رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس ابن له مباشر، ولذلك كل من له أمر ونهي في أسرته أو في أهله ينبغي أن يأمر الصغار ويأمر كل من يطيعه بما فيه الخير بفعل ما يجب وترك ما ينهى عنه ويحذر حتى أن من أهل العلم من قال: يجب على الإنسان أن يأمر أولاد جيرانه ومن يراهم من الصغار ممن يطيعونه ممن يكونوا من المعروف وبما يكون من المنكر نهيًا فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يترك ذلك لعلي أو لغيره بل باشر بنفسه ذلك ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفيه المبادرة إلى تغيير المنكر ولو كان في ذلك ما يكون من المشقة على المنكر عليه إذا كان يطيعه فإن إخراج التمرة من فيه الصغير فيه مشقة وفيه صعوبة على الصغير، لكن صيانة له ووقاية له من أن يقع في المحرم بادر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أمره ونهيه وتوجيهه حتى لا يقع في المحرم.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك واستعملنا فيما تحب وترضى وصلى الله وسلم على نبينا محمد.