قال النووي ـ رحمه الله ـ: باب حق الجار والوصية به وذكر في ذلك قول الله ـ عز وجل ـ: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾[النساء: 36].
هذه الآية الكريمة أمر الله ـ تعالى ـ فيها بأداء الحقوق إلى أهلها وبدأ بحقه ـ جل في علاه ـ فذكر حقه على عبده بعبادته وحده لا شريك له قال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾[النساء: 36] فحق الله على عباده أن يفردوه بالعبادة يعبدوه وحده لا شريك له، وعبادة الله هي توحيده محبته وتعظيمه وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له طاعته فيما أمر، واجتنابه ما نهى عنه وزجر رغبة فيما عنده وخوفًا من عقابه وهذه العبادة لا تصرف لغيره، فإذا صرفها الإنسان لغير الله سواء كان من العبادات القلبية أو العبادات القولية أو العبادات العملية فقد أشرك، ولذلك قال: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾[النساء: 36] وهذا رأس الحقوق وأعظمها والإخلال به أعظم الظلم، ولذلك قال الله ـ تعالى ـ: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[لقمان: 13] ثم ذكر الله ـ تعالى ـ بعد ذلك الحقوق التي للعباد على الإنسان، فبدأ بأعظم الحقوق حق الوالدين قال ـ تعالى ـ: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾[النساء: 36] وخص الوالدين من ذوي الرحم؛ لأنهم أعظم الأرحام حقًا، وحقهم بالإحسان إليهم وبرهم وصلتهم بكل خير وكف كل شر وأذى عنهم ويلحق بهم بقية ذوي الأرحام وهذا هو الحق الأول الذي ذكره الله ـ عز وجل ـ في هذه الآية، بعد حقه ـ جل وعلا ـ حق الوالدين وذوي الرحم ثم قال ـ تعالى ـ: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى﴾[النساء: 36] القربى هم أصحاب القربات من ذوي الرحم.
قال: والمساكين وهذا ثاني حق ذكره الله ـ تعالى ـ من حقوق العباد وهم حق الضعفاء ذووا الحاجة والحاجة نوعان فيما ذكره الله ـ تعالى ـ في هذه الآية، حق ضعف البدن وهم الأيتام لصغرهم وعدم قيامهم بحقوقهم ومصالحهم وحق المسكين وهو من قل المال في يديه ولم يجد الكفاية، فهو هذا الحق الثاني الذي ذكره الله بعد حق الوالدين وحق ذوي القربى، وبدأ بالأيتام لأن الحاجة في حقهم أعظم من المساكين وذلك أن المسكين يستطيع أن يدفع عن نفسه بخلاف اليتم.
قال ـ تعالى ـ: ﴿الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾[النساء: 36] وذكر في الجوار نوعين؛ الجار ذي القربى وهو إما الجار ذي الرحم، وإما الجار القريب في مسكنه منك، وأما الجار الجنب فهو إما الأجنبي منك الذي لا تصلك به صلة رحم أو البعيد في مسكنه عنك، هذان قولان لأهل العلم في بيان معنى الجار ذي القربى والجار الجنب, وهذا ثالث الحقوق التي ذكرها الله ـ تعالى ـ وهي حق المخالطة بالجوار والصحبة ولذلك قال: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ﴾[النساء: 36] ثم قال بعد ذلك في حق من حقه طارئ عارض ليس ملازم ولا مخالط وهو ابن السبيل أي والمسافر الذي عبر وله حاجة فاقضي حاجته بقضائها ثم قال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾[النساء: 36] وهذا خامس الحقوق التي ذكرها الله ـ تعالى ـ بعد حقه ـ جل وعلا ـ وهو حق ملك اليمين وهم الأرقة وأدخل بعضهم كذلك كل ما يملكه الإنسان من ذوات الأرواح كالحيوانات والبهائم، فالله ـ تعالى ـ في هذه الآية بين عظيم الحقوق ووجوب أدائها لأهلها ابتداء بحقه ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾[النساء: 36] لأن الخيلاء والاختيال والفخر يمنعان من أداء الحقوق.
والجار الذي جاءت النصوص بالوصية به هو من جاور الإنسان، وهم ليسوا على درجة واحدة، فكل من كان أقرب كان أحق بالإحسان وكان أولى بأداء الحقوق له من الأبعد وإن كان الجميع يشتركون في أصل الحق لكن الحقوق متفاوتة كالأرحام مثلا ليسوا على درجة واحدة في الحق كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن سأله من أبر قال: «أُمَّكَ وأباكَ وأُختَكَ وأخاكَ، ثمَّ أدْناكَ أدْناكَ»صحيح مسلم (2548)، وسنن النسائي واللفظ له (2532) فيشتركون في الحق لكن الحق ليس على درجة واحدة، فكذلك الجيران فإن حقهم ليس على درجة واحدة، بل يتفاوت بتفاوت قربهم أو بتفاوت وصفهم، قربهم من المسكن ووصفهم الجار ذوي الرحم ليس كالجار غير ذي الرحم، والجار الصالح ليس كالجار غيره وإن كان الجميع يشتركون في الحقوق فقوله ـ تعالى ـ: ﴿وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ﴾[النساء: 36] يشمل كل جار سواء كان يتيمًا أو كافرًا، سواء كان صالحًا أو فاسقًا، سواء كان قريبًا أو بعيدًا، فالجميع يشتركون في حق الجوار لكن حقهم متفاوت كما سيتبين ذلك مما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيان حق الله، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.