فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ: باب حق الجار والوصية به حديث ابن عمر وعائشة ـ رضي الله عنهما ـ قالا: قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:«مَا زَالَ جِبْريلُ يُوصِيني بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُورِّثُهُ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.صحيح البخاري (6014) وصحيح مسلم (2624)
هذا الحديث فيه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ما زال جبريل يوصيني بالجار" أي: يتعهدني بحق الجار تنبيهًا وتأكيدًا وحثًا وترغيبًا وترهيبًا من التفريط فيه وبيان عاقبة المضيعين لهذا الحق.
ما زال جبريل، وجبريل هو أشرف الملائكة وهو الرسول الذي يبعثه الله ـ تعالى ـ لمن شاء من عباده، فهو الواسطة بين الله ـ عز وجل ـ وبين رسله فكان يأتيهم بالوحي، وكان يتنزل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويوحي إليه بالقرآن العظيم وبغيره مما أمره الله ـ تعالى ـ أن يوحي به إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن ذلك ما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث من بيان حق الجار.
والوصية هي العهد المؤكد الموثق وهي مأخوذة من الوصل، فالوصية وصل الجار بما يكون به صلاح حاله واستقامة الصلة به، والجار هو من جاورك، وقد اختلف أهل العلم في ضابط الجار الذي جاءت الوصية به، فقال جماعة من أهل العلم: الجار حده أربعون دارًا من كل جهة من جهات بيتك أو مكان نزولك وقيل: بل أربعون في المجموع يعني عشرة، عشرة، عشرة، وقيل: إنه ليس في ذلك حد يصار إليه فما جاء من أن الجار يصل إلى أربعين لا يثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإذا كان كذلك فإن المرجع في تحديد الجار إلى العرف وإلى ما جرى به عهد الناس وتعارفهم وهذا مما يختلف باختلاف العصور والمنازل والمحلات التي يسكنها الناس.
فالأعراف مختلفة وقد جاء عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في بيان حد الجار قال: من صلى الفجر معك فهو جارك وهذا؛ لأن الليل يأوي الناس إلى بيوتهم فإذا اجتمعوا في الصلاة كانوا جيرانًا وهذا لا يعني أن من لم يصلي من أهل الأعذار ليس جارًا إنما المقصود من كان في العادة إذا صلى معك فأنت أقرب المساجد إليه وموضع صلاتك هو أقرب الأماكن إليه فهو جارك.
والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أن الجار يختلف باختلاف الأعراف ولا يحد بحد، لاسيما بعض المحلات التي هي المساجد فيها كثيرة ووفيرة وقد يكون بين كل بيتين أو مجموعة بيوت مسجد يصلى فيه فليس ثمة ضابط يرجع إليه إلا ما كان مما عده العرف جارًا، فالجار هو كل من عده الناس جارًا لك ولو بعد منزله عنك، ولكن الحق للجار يختلف باختلاف القرب والبعد، فكلما ازداد قربًا كان حقه من الوصية بالجار أعظم ونصيبه أوفر.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما زال جبريل يوصيني بالجار يشمل كل من جاورك سواء كان مسلمًا أو كافرًا، وسواء كان صديقًا أو عدوًا، وسواء كان من ذوي رحمك أو قرباتك أو من الأجانب عنك وسواء كان موافق لك في القبيلة أو في البلد الذي تنتمي إليه أو كان مفارق لك، فالجار حقه ثابت مهما كانت حاله؛ لأنه حق سببه الجوار، فإذا كان جارًا فله الحق على أي صفة كان ولو لم يكن موافقًا لك في الدين أو في الأصل أو في اللون أو في اللسان أو في الجنس أو ما أشبه ذلك، فإن الوصية عامة في الجار ولو كان من كان.
فقوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : "ما زال يوصيني بالجار" يشمل كل من اتصف بهذا الجار.
وقوله: "حتى ظننت أنه سيورثه" يعني حتى ظن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وورد على خاطره أن نهاية هذه الوصية المتكررة والتعهد الدائم من جبريل للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في شأن الجار أنه سيجعل له ميراثًا أي سيجعل له نصيبًا من الميراث وهذا أحد المعاني في قوله: سيورثه يعني سيجعل له نصيبًا من الأنصبة التي يعطها أصحاب المواريث؛ إما نصيب مقدر، أو مفروض أو نصيب يكون بالتعصيب أو نحو ذلك مما جرى به قسمة المواريث.
المقصود أنه سيورثه يعني سيجعل له حظًا في الميراث على أي صفة كان.
وقيل في معنى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: حتى ظننت أنه سيورثه أي أنه سيلحقه بذوي الأرحام الذين لهم حق في الميراث بمعنى أنه يجعله في منزلة الرحم من جهة حقه ولو لم يكن له نصيب من الميراث فسيورثه إما أن يجعل له نصيبًا، وإما أن ينزله منزلة من يرث في الحق والعناية والحفاوة والإكرام والصلة وما أشبه ذلك.
وهذا أيها الإخوة يبين عظيم المنزلة التي تبوأها صاحب هذا الحق وهو الجار، وأنها منزلة كبرى.
في الحديث جملة من الفوائد من فوائده:
أن جبريل كان يأتي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقرآن وبغيره، فإن ما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا ليس قرآنا.
وفيه من الفوائد أيضًا عظيم حق الجار وذلك من جهة أنه كان جبريل وهو الرسول الملكي يوصي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحقه ويكرر عليه ذلك.
ومن جهة أيضًا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظن أنه سيكون له نصيبًا من الميراث.
وفيه من الفوائد أنه ينبغي للإنسان أن يسعى في إكرام جاره بكل وسيلة وبكل طريقة وبكل سبب، وألا يتوانى في ذلك وأصل حق الجار دائر على أمرين؛ الإحسان، وكف الأذى.
الإحسان إليه بكل ما تستطيع، وكف الأذى بكل ما يؤذيه من قول أو فعل سواء كان حسيًا أو معنويًا فلذلك ينبغي للإنسان أن يحرص على كف شره عن جاره بكل وسيلة وأن يسعى في إيصال كل خير إليه ويحتسب الأجر في ذلك عند الله.
وفيه من الفوائد أن الميراث تولى الله ـ تعالى ـ بيانه، فليس فيه اجتهاد من أحد بل هو بيان الله ـ عز وجل ـ ولذلك ظن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه سيجعل له نصيب من الميراث.
أعنا الله وإياكم على طاعته وألهمنا رشدنا ويسرنا لليسرى وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.