نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب حق الجار والوصية به:
عن أَبي ذر -رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَا أَبَا ذَرٍّ ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً ، فَأكثِرْ مَاءهَا وَتَعَاهَدْ جيرَانَكَ)) رواه مسلمحديث رقم (142).
هذا الحديث الشريف فيه بيان تفصيل وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجار، فإنه أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيحين من حديث ابن عمر وحديث عائشة أن جبريل مازال يوصيه بالجار حتى ظن أنه سيورثه، والوصية بالجار هي القيام بحقه وحفظ حرمته وتعهد كل ما يكون من أسباب طيب العشرة وحسن الصلة.
وهو دائر على أمرين؛ الوصية بالجار تتحقق بفعل أمرين:
الأمر الأول: الاجتهاد في الإحسان إليه.
والأمر الثاني: الاجتهاد في كف الشر والأذى عنه.
فإذا تحقق للإنسان العمل بهذين الأمرين اجتهد في الإحسان إلى جاره واجتهد في كف الأذى عنه، فإنه قد عمل بحق الجار الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
يقول أبو ذر: "أوصاني خليلي فقال: إذا طبخت مرقة" أي: أنت أو أهلك إذا طبخت أنت أو أهلك مرقة والمرق هو ما يكون مع اللحم أو غيره مما يؤدم به والغالب أنه مع اللحم.
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأكثر ماءها يعني زد من الماء في المرق وذلك لأن الماء يسير ولا يصعب على أحد أن يجود به فلذلك أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يكثر ماءها ليسري ذلك وسهولته على كل أحد ثم قال بعد ذلك في بيان سبب هذه الوصية بإكثار ماء المرق.
قال: وتعهد جيرانك أي: تفقدهم وصلهم وأحسن إليهم بشيء من هذا المرق الذي طبخ.
الحديث فيه جملة من الفوائد من فوائده:
عناية النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بإصلاح ما بين الناس من العلاقات والصلات ولا عجب فقد قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق، ومن أعظم من يستحق صالح الأخلاق في المعاملة هم أقرب الناس إليك ومنهم الجيران، فإن لهم حقًا في الجوار ينبغي أن يحفظ وأن يصان.
وفيه أن الإحسان لا يقتصر على كبير الأمور وعظيمها، بل يكون بكل ما يمكن مما يدخل السرور وحسن العشرة للغير ولو كان أمرًا زهيدًا، فإن زيادة المرق يحصل بها زيادة الطعام الذي يصل به جيرانه ويكون في ذلك مليء الإحسان إليهم وحسن الصلة بهم ما يصلح العلاقات بينهم.
وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيح من حديث أبي هريرة «لا تَحْقِرَنَّ جارَةٌ لِجارَتِها، ولو فِرْسِنَ شاةٍ»صحيح البخاري (2566) وصحيح مسلم (1030) يعني ولو ظلف الشاة المحرق، ففرسن الشاة هو ظلفها المحرق ومعنى هذا أنه لا يحتقر الإنسان شيئًا يصل به جيرانه.
طبعا لو حصل الصلة بما هو أعلى من ذلك كان خير وفضل وسبق وإحسان، لكن أدنى ما يكون ينبغي ألا يحتقر فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «اتَّقوا النَّارَ ولو بشقِّ تمرةٍ»صحيح البخاري (1417)، صحيح مسلم (1016) يعني بجزء التمرة فكيف إذا تيسر له ما هو أكثر من ذلك، لاشك أن الوقاية من النار بأكثر من ذلك أعظم وأكبر.
وفيه من الفوائد أن الرجل قد يلي من العمل في البيت ما يليه النساء في العادة، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأبي ذر: "إذا طبخت مرقة" فأضاف الطبخ إليه فقد يلي الرجل في بيته ما يكون من شأن أهله في العادة، وليس في ذلك نقص فإن سيد الورى ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما سئلت عائشة كيف كان في بيته؟ قالت: "كان يكون في مهنة أهله"صحيح البخاري (676) يعني في خدمتهم وإعانتهم وقضاء حوائجهم وليس في هذا نقص بل هذا من كمال سجايا الإنسان وطيب أخلاقه أن يشارك أهله في ذلك.
وفيه أن الإحسان إلى الجيران لا يقتصر على واحد منهم بعينه، بل ما استطاع أن يعمهم بذلك فذلك هو المطلوب والمندوب إليه لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتعهد جيرانك ولم يخص قريبًا من بعيد ذا رحم أو غيره بل عم ذلك فقال: وتعهد جيرانك.
أما مراتب الجيران في حقوق الإحسان فهذا يتفاوت وله معايير متعددة وسيأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والله تعالى أعلم .