قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في باب حق الجار والوصية به:
عن أَبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله وَاليَومِ الآخرِ، فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ))مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.صحيح البخاري (6136)، وصحيح مسلم (47)
وعن أَبي شُرَيْح الخُزَاعيِّ ـ رضي الله عنه ـ: أن النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ))رواه مسلم بهذا اللفظحديث رقم (48)، وروى البخاري بعضهحديث رقم (6019).
هذان الحديثان؛ حديث أبي هريرة، وحديث أبي شريح الخزاعي ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فيهما بيان حق الجار وحق الجار يدور على أمرين؛ إحسان، وكف أذى، ولهذا جعل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من مقتضيات الإيمان بالله واليوم الآخر ألا يؤذي المرء جاره، وذلك يستلزم أن يكف عنه كل أذي قولي أو عملي ظاهر أو باطن فإن ذلك كله داخل في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله وَاليَومِ الآخرِ، فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ» والأذية تحصل بكل ما يحصل به للإنسان إساءة وتألم سواء كان ذلك في معاملة وفعل أو كان ذلك في قول، بل حتى إذا كان ذلك في إرادة وقصد، فإنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومن أحق من يحب لهم الخير من يجاورك فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر بعظيم حق الجار فقال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
وذكر الإيمان بالله واليوم الآخر دليل على أن كف الأذى عن الجار من مقتضيات الإيمان بالله ومن لوازم الإيمان باليوم الآخر وكثيرًا ما يذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذين الأصلين في ترغيب أو ترهيب أو في سياق ما يتعلق بالإيمان، وذلك أن الإيمان بالله يشمل الإيمان بربوبيته وأسمائه وصفاته وبإلهيته وكل ذلك يقتضي أن ينقاد الإنسان لأمره وأن يذل لشرعه جل في علاه.
ويذكر مع الإيمان بالله الإيمان باليوم الآخر، واليوم الآخر اسم لكل ما يقع بعد الموت، فإن بداية اليوم الآخر بالنسبة لكل إنسان على وجه الانفراد هو بموته، فإن الإيمان باليوم الآخر يستلزم الإيمان بما يجري بعد موت الإنسان من قبض روحه وحاله في قبره في الحياة البرزخية ويوم البعث والنشور، ثم بعد ذلك المستقر في جنة أو نار نسأل الله أن نكون من أهل الجنان، فإن كل ذلك يندرج في الإيمان باليوم الآخر وذكر اليوم الآخر قرينًا بالإيمان بالله لأنه اليوم الذي يلقى العبد فيه ربه ـ جل وعلا ـ ويلقى فيه جزاء عمله فكان ذكره مما يحفز الإنسان على امتثال ما أمر الله ـ تعالى ـ به ورسوله.
"فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذ جاره" والجار هو من جاورك من قريب أو بعيد مسلم أو كافر موافق أو مخالف، صديق أو عدو، فالواجب كف الأذى عن كل من جاورك وهذا يشمل الجيران وقد تقدم أن الجار اسم لكل من جاورك عرفًا، ولا يحد بحد أكثر مما دل عليه العرف يعني لا يتقيد بأربعين أو بأقل أو بأكثر، بل كل من عده الناس جارًا لك فهو جار يستحق ما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أحاديث حق الجار والوصية به.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث أبي شريح ـ رضي الله عنه ـ:«مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ» هذا بيان أن حق الجار الإحسان وهو شامل لكل أوجه الإحسان، وفي بعض روايات حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: "فليكرم جاره" والإكرام دائر على إيصال ما يسر وكف ما يسوء، فالإحسان يدور على هذين المعنيين إيصال كل ما يسر الإنسان، وكف كل ما يسوئه فإذا أردت أن تحسن إلى جارك فاجتهد في إيصال كل ما يسره من قول أو عمل أو فعل أدركه مباشرة أو لم يدركه، فإن الأجر عند الله ـ عز وجل ـ على ما يكون من إحسانك لجارك.
وكف عنه كل ما يسوئه في حضرته وفي غيبته، وفي قولك وعملك وقلبك، فإن ذلك مما تؤجر عليه هذان الحديثان يبينان أن من مقتضيات الإيمان بالله واليوم الآخر القيام بحق الجيران إحسانًا وكفًا للأذى.
وفيه أيضًا من الفوائد: أن حق الجار يدور على هذين الأصلين؛ الإحسان، وكف الأذى.
وفيه من الفوائد أيضًا: أن الإيمان بالله واليوم الآخر ليس شيئًا في القرب لا يترجمه العمل، بل يترجم الإيمان بالله وباليوم الآخر بما يكون من قول أو فعل يصدر عن الإنسان.
وفيه من الفوائد: أن العمل من الإيمان وهذا ما عليه عامة أهل السنة والجماعة وهو عقد السلف أن الإيمان يشمل العمل، فمن أخرج العمل من الإيمان خالف طريق السنة ووقع في طرق البدعة من المرجئة ونحوهم فإن إيمان المؤمنين قول وصدق وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح إيماننا قول وصدق وعمل يزيد بالتقوى وينقص بالزلل.
هذه جملة من الفوائد: التي دل عليها هذان الحديثان نسأل الله الإعانة على أن نكون على أحسن حال مع جيراننا كفًا للأذى وإيصالًا لكل إحسان وإكرام وصلى الله وسلم على نبينا محمد.