نقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين:
عن أَبي هريرة: أن رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَسْكُتْ)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ..صحيح البخاري (6136)، وصحيح مسلم (47).
وكذلك في حديث أَبي شُرَيْح الخُزَاعيِّ ـ رضي الله عنه ـ: أن النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أَوْ لِيَسْكُتْ)). رواه مسلم بهذا اللفظ (48)، وروى البخاري بعضه (6019)
هذان الحديثان الشريفان اتفقا في مضمونهما في بيان حال الإنسان فيما يصدر عنه من قول، وما ينبغي أن يكون عليه في كلامه وفي صمته، في حديثه وفي سكوته.
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" أي من كمل إيمانه بالله ـ عز وجل ـ وباليوم الآخر الذي هو يوم الجزاء على الأعمال، وهو صادق على كل ما بعد الموت فإن كل ما بعد موت الإنسان داخل في اليوم الآخر الذي يجب الإيمان به وهو أصل من أصول الإيمان، فإن الإيمان بالله ـ عز وجل ـ واليوم الآخر درجات ومراتب فإذا كمل امتثل الإنسان كلما أمر الله ـ تعالى ـ به ورسوله في قوله وفي عمله في ظاهرة وفي باطنه.
وكلما نقص إيمان الإنسان بالله واليوم الآخر حصل منه الإخلال بشعب الإيمان وخصاله، ولوازمه ومقتضياته فلهذا يجب على المؤمن أن يفتش نفسه عند أوامر الله وأوامر رسوله وعند نواهي الله ونواهي رسوله فإن فعلك لأمر الله وأمر رسوله وتركك لنهي الله ونهي رسوله هو من علامات الإيمان وصدقه فالإيمان قول وصدق وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح.
ولهذا ينبغي أن يدرك الإنسان أنه ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال ولهذا دعوى الإيمان المجردة عن صالح الأعمال هي دعوى يكذبها الحال، فينبغي للإنسان أن يتقي الله ـ عز وجل ـ وأن يكمل إيمانه بالتزام أمر الله ورسوله، وليحذر أولئك الذين يزينون له أن الإيمان في القلب وما يضر ما يكون في العمل من تخلف ومخالفة، بل أنه يضر ولذلك نفى الإيمان ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمن أخل بما يجب عليه من الحقوق من ذلك قوله: «واللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ! الَّذِي لاَ يَأمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ!» وفي الحديث هنا يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "فليقل خيرًا" أي فليتكلم بالخير فالقول هو الكلام الصادر عن الإنسان وهو ما كان من مفيد الكلام، فالقول يطلق على اللفظ المفيد فهذا هو الكلام الذي يدخل في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "فليقل خيرًا" والخير في الكلام هو ما كان في ذاته أو فيما يؤدي إليه ويفضي إليه.
الخير في الكلام ذاته كالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وتلاوة القرآن وسائر الأذكار وتعلم العلم وتعليمه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل هذا خير في ذاته داخل في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا".
ولكن من الخير أيضًا ما الخير في عاقبته وما يؤدي إليه وما ينتج عنه، وهو في ذاته كلام عادي أي كلام لا يوصف بأنه في ذاته خير أو شر إنما هو كلام مباح لكن بالنظر إلى ما يؤدي إليه يكون خيرًا كالذي يتكلم بقصة ليدخل السرور على إخوانه أو الذي يلاطف جاره أو صديقه أو صاحبه أو الذي يتكلم بما يكون من الإصلاح بين الناس فينقل كلامًا يؤدي إلى تلين القلوب وعطف بعضه على بعض كل هذا من الخير فيما يؤدي إليه من النتائج والعواقب.
فالكلام خير في ذاته وخير في عواقبه، فالذي أمر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو أن يتكلم الإنسان بالخير، فليقل خيرًا وسواء كان الخير واجبًا فقراءة الفاتحة في الصلاة أو ما يتعين على الإنسان التكلم به من الخير في ذاته كفروض الكفايات في الآذان ونحوه، فهذا خير في ذاته واجب إما واجب عيني، وإما واجب كفاية.
ومن القول الخير الذي يدخل في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "فليقل خيرًا" المستحب من القول كالأذكار والتسبيحات غير الواجبة والكلمة الطيبة التي قال فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "والكلمة الطيبة صدقة"صحيح البخاري (2989)، وصحيح مسلم (1009) فكل ذلك يدخل في الخير الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "فليقل خيرًا أو ليصمت".
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أو ليصمت أو ليسكت" هذا إشارة إلى ما عدا هذا الصنف فالخير تكلم فيه سواء كان خيرًا في ذاته أو خيرًا في عواقبه، ما يقابل الخير في الكلام نوعان؛ كلام شر في ذاته كالسب واللعن والكذب والغيبة والنميمة هذا شر في ذاته، وكذلك من الكلام ما هو شر فيما يفضي إليه من العواقب والنتائج وإن لم يكن شرًا في ذاته وهذا ينبغي الإمساك عنه، فالشر إما أن يكون محرمًا وإما أن يكون مكروهًا، فالمحرم ما جاء تحريمه من الكذب والنميمة والغيبة والسباب والشتائم واللعن وما إلى ذلك.
وأما ما يكون في عواقبه فهو ما يفضي إلى محرم وإن كان في ذاته ليس محرم، ومن ذلك كثرة الكلام فإن كثرة الكلام مدعاة إلى السقط وإلى الخطأ والزلل في القول.
القسم الثالث من الكلام ما ليس خيرًا ولا شر وهذا مأمور بالسكوت عنه أمر استحباب فإن الكلام ينقسم إلى ثلاثة أقسام خير أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله، شر أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالإمساك عنه، لغو لا فائدة منه وإن كان ليس فيه محرم في ذاته فهذا مما أمر بالسكوت عنه لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو هنا للتقسيم كما قال بعض أهل العلم، يعني الكلام على قسمين ما يؤمر بقوله وما يؤمر بالإمساك عنه، ما يؤمر بقوله هو الخير والقسم الثاني ما يسكت عنه من القول وهو ما ليس بخير وما فيه شر.
وقيل: أن (أو) هنا بمعنى واو العطف يعني فليقل خيرًا وليسكت يعني إذا انتهى من قول الخير فليبادر إلى السكوت، والمعنيان متقاربان سواء قيل هذا أو هذا دلالتهما واحدة.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد من فوائده:
حرص الإنسان على العمل الصالح وعلى امتثال أمر الله ورسوله ليكمل إيمانه فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" وفيه أن الإيمان بالله واليوم الآخر يحملان الإنسان على كل فضيلة ويكفانه عن كل رذيلة وشر، وفيه أن من الإيمان باليوم الآخر أن يعمل الإنسان بالصالحات خلافًا لما ذهب إليه المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع سواء كان المعصية ترك واجب أو فعل محرم.
ومن فوائد أيضًا: أن إمساك اللسان مما يسلم به الإنسان ويحقق به كمال الإيمان، وهذا ليس بغريب فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما دل معاذ ـ رضي الله عنه ـ على أبواب الخير وصنوف البر وما يدخل الجنة وما يبعد عن النار قال له: "أو لا أدلك على ملاك ذلك قال: بلى قال: كف عليك هذا"سنن الترمذي (2616)وقل هذ حديث حسن صحيح كف أي أمسك والإمساك هنا عما ليس بخير.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يتبين في كل ما يصدر عنه أهو خير أو شر ولذلك إذا أردت أن تتكلم فأنظر قبل أن تتكلم فإن كان خيرًا فبادر إليه، وسابق إليه وسارع وإن كان شرًا فأمسك عنه وإن لم يكن خيرًا ولا شرًا فأمسك عنه، طيب أحيانًا يشتبه على الإنسان أهو خير أم شر فليغلب جانب السلامة وليمسك فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: "إن الرجل يتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالًا"صحيح البخاري (6478) ـ يعني ما يفكر فيها ولا يتبينها ـ يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، وفي الحديث الآخر قال: "إن الرجل يتكلم بالكلمة من رضوان الله يرفعه الله تعالى بها درجات"صحيح البخاري (6478) وفي الحديث "إن العبد يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم".
ولهذا من أمسك لسانه سلم ومن أطلق للسانه العنان هوى والكلام أيها الإخوة فيه آفات كثيرة وهذه الآفات تجلب للإنسان نوع من الانشراح والانبساط وقد يحب الناس الجلوس إليه؛ لكن ليحذر لا يكن هذا على إيمانه بالله واليوم الآخر، ولا يكون هذا على حساب حسناته يوم القيامة، فإنه قد يهوي قوله ولسانه به في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب، اللهم أجرنا من سوء القول والعمل واهدنا إلى أحسن الأقوال والأعمال والأخلاق ظاهرًا وباطنًا وصلى الله وسلم على نبينا محمد.