الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
قال النووي ـ رحمه الله ـ باب بر الوالدين وصلة الأرحام: وذكر في ذلك جملة من النصوص من الآيات والأحاديث
بر الوالدين هو الإحسان إليهما بكل ما يمكن من أوجه الإحسان، فالبر يدور على معنى السعة في اللغة وهو في الاستعمال الشرعي يطلق على كل معروف وعلى كل أوجه الإحسان، ولذلك لما ذكر الله ـ تعالى ـ البر بين استيعابه لكل الأعمال، فقال: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾[البقرة: 177] إلى آخر ما ذكر الله ـ جل وعلا ـ في بيان تنوع البر وشموله لكل أوجه الإحسان في صلته بالله ـ عز وجل ـ وفي صلته بالخلق.
وأحق من يتوجه إليهم البر والإحسان هم من تفرع عنهم الإنسان وهم الوالدان، ومن علا من والديهم فقوله ـ رحمه الله ـ بر الوالدين يشمل الوالد المباشر، وهو الأب أو الأم، ويشمل من فوق ذلك ممن له ولادة من الأجداد والجدات من جهة الأب ومن جهة الأم، فكلهم يصدق عليه أنه والد؛ لكن لا حق بالبر من هؤلاء من كان أقرب، فكلما كان أقرب وأدنى منزلة من جهة قربه للشخص، فهو أحق بالبر والبر فيما يتصل بالوالدين على نوعين؛ بر للوالد الحي، وبر للوالد الميت وكلاهما أهل للبر، فبر الوالد الحي يكون بالإحسان إليه بكل أوجه الإحسان من ملاطفته بالقول واستعمال العمل الصالح اللطيف الحسن معه بإيصال كل خير إليه وكف كل شر عنه واحتمال ما يمكن أن يكون من الأذى منه.
هذا الذي يتحقق به بر الوالد الحي الإحسان إليه بكل قول أو عمل، كف الأذى عنه بكل وجه ممكن، احتمال ما يمكن أن يصدر عنه من إساءة أو أذى فإنه قد يكون الوالد صلفًا في أخلاقه، أو يصدر عنه في بعض الأحيان شيء من القول أو العمل الذي يكرهه الإنسان، فبره يكون باحتمال ما يمكن أن يكون من الأذى الذي يصدر عنه فكل هذه الأمور الثلاثة يتحقق بها بر الوالد الحي.
وأما الوالد الميت أبًا أو أمًا، فإن بره لا ينقطع بموته، بل يكون بأوجه من الإحسان منها ما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله لما سأله الرجل «هل بقِيَ مِن برِّ والديَّ شيء بعدَ موتِهِما ؟، قالَ: نعَم، خصالٌ أربعٌ: الصَّلاةُ عليهِما والاستغفارُ لَهُما، وإنفاذُ عَهْدِهِما بعدَ موتِهما، وإِكْرامُ صديقِهِما، وصِلةُ الرَّحمِ الَّتي لا رَحمَ لَكَ إلَّا مِن قِبَلِهِما»سنن إبي داود (5142) فذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خمسة أبواب وخمسة أعمال من الأعمال التي يبر بها الإنسان والده بعد موته من الاستغفار والصلاة، الاستغفار والصلاة معناهما متقارب، فالاستغفار هو سؤال المغفرة له، والصلاة يشمل الصلاة عليه إذا مات ويشمل الدعاء له، فإن مما يبقى من عمل الإنسان بعد موته الولد الصالح الذي يدعو له، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث»سنن الترمذي (1376) وذكر منهم ولد صالحًا يدعو له.
فالصلاة هنا لا تقتصر فقط الصلاة عليه عند موته على جنازته، بل حتى ما يكون بعد ذلك من الدعاء له في الصلوات وفي مواطن الإجابة فإنه من بره، وكذلك إنفاذ عهده أي وصيته إن كان قد أوصى وكذلك إكرام صديقه وهو من له صلة ود به قريب أو بعيد فإن إكرام الصديق من بر الوالد وكذلك صلة الرحم التي لا توصل إلا بهم أي صلة أرحامهم الذين لا سبيل لوصلهم إلا من طريقه، فإن ذلك كله مما يندرج في بر الوالد بعد موته.
ومن بر الوالد بعد موته أيضًا قضاء الحقوق عليه، سواء كانت حقوق لله أو حقوق للخلق، فإن كان عليه دين يبذل جهده في براءة ذمته من حقوق الخلق، فنفس المؤمن معلقة بدينه ما لم يقضى عنه وكذلك إذا كان عليه حقوق لله ـ عز وجل ـ من صيام تركه، فإنه قد قال ـ صلى الله عليه وسلمـ «من ماتَ وعليه صومٌ صامَ عنه وليُّه»صحيح البخاري (1952)، وصحيح مسلم (1147) كل هذا من أوجه بر الوالد بعد موته.
والراشد العاقل يبادر إلى كل أوجه الإحسان إلى والديه ويكف عنهم كل أذى ممكن ولو كان أسهل وأيسر ما يكون قال الله تعالى: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾[الإسراء: 23] اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وبر والدينا أحياء وأموات، وارزقنا الصلاح في السر والعلن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.