الشيخ: حياكم الله أخي وائل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبا بك وأرحب بالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أهلا وسهلًا، فضيلة الشيخ! بمشيئة الله تعالى سيكون حديثنا في هذه الحلقة فضيلة الشيخ حول "وكن من الشاكرين".
سنتحدث عن نقاط عديدة متعلقة بهذا الموضوع، ودعنا نبدأ الحديث فضيلة الشيخ عن حقيقة الشكر؛ حتى ننطلق بعدها -بمشيئة الله تعالى- إلى نقاط عديدة.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
فموضوع الشكر هو من الموضوعات التي ينبغي أن يُعتنى بها؛ لأن بالشكر يدرك الإنسان خيرًا كثيرًا، وسعادة وانشراحًا وبهجة وثمارًا ذاكية، وبين يدي الحديث عن ذلك كله ينبغي أن يُعلم أن الشكر أساس تُبنى عليه الديانة.
ولذلك أمر الله تعالى به اثنين من أولي العزم من الرسل، أمر به خاتم المرسلين وسيد الأولين والآخرين محمدًا بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- فقال له -جل في علاه- في محكم التنزيل: ﴿ فاعبد وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[الزمر: 66]، فأمره الله تعالى في هذه الآية، في آية الزمر أن يعبده -جل في علاه- وحده لا شريك له حيث قال: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ﴾[الزمر: 66]، أي لا تعبد سواه، ولا تتوجه إلى غيره، ولا يكن في قلبك حب وتعظيم لسوى ربك -جل في علاه-، ﴿وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾، فأمره الله تعالى أن يكون من الشاكرين.
وهذا كليم الله موسى -عليه السلام-، وهو من أولي العزم من الرسل، يقول له -جل في علاه- كما في سورة الأعراف ﴿فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[الأعراف: 144]
أي من الوحي والهدى ودين الحق، وما من عليه به من الفضائل والخصائص، قال: ﴿وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ لربك -جل في علاه- على عظيم ما أنعم به عليك، فهذان رسولان كريمان أمرهما الله تعالى بأن يكونا من الشاكرين، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يتصف بالشكر الذي به يدرك العبد سعادة الدنيا وفوز الآخرة، وإن الله تعالى أمر دواد -عليه السلام- وأهله بأن يعملوا بالشكر، فقال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾[سبأ: 13]، فأمر الله داود وآله أن يشتغلوا بشغله –جل وعلا-، وأن يعملوا بما يرضيه –سبحانه وبحمده-بالقلب واللسان والعمل، ليدركوا بذلك خير الدنيا والآخرة، وليخرجوا بذلك عما عليه أكثر الناس من الإعراض عن هذه العبادة الجليلة حيث قال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾[سبأ: 13]، فالأقلُّون من عباد الله وهم الصفوة من أوليائه وأحبابه هم الذين قاموا بحقه -جل في علاه- من شكر نعمه والقيام بما أمر –سبحانه وبحمده-، كما أمر الله تعالى بالشكر عامة الخلق، فقال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾[البقرة: 152] فأمر الله تعالى بشكره جل في علاه وجعل ذلك مقابل كفره –سبحانه وبحمده- فالشكر عبادة وأصل وأساس تبنى عليه الديانة.
بل قال ابن القيم –رحمه الله-: مبنى الدين وهو تحقيق العبودية لله –عز وجل-يقوم على أصلين:
يقوم على ذكره -جل في علاه-، وعلى شكره –سبحانه وبحمده-؛ ولذلك قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾[البقرة: 152]، فأمر الله تعالى بذكره، وعطف على ذلك الأمرَ بشكره، وجعل مقابل الذكر والشكر الكفرَ، وهو كفر الإعراض عنه، وعدم القيام بحقه جل في علاه.
الإعراض عن ذكره وذكر ما له من الحقوق، والإعراض عن شكره، وهو امتثال مقتضى الذكر من الانقياد له جل في علاه، بل إن النبي –صلى الله عليه وسلم-قارن بينهما في الدعاء، فهذا معاذ يقول: «قال لي رسول الله –صلى الله عليه وسلم-:يا معاذ والله إني لأحبك »النبي –صلى الله عليه وسلم-يقول لمعاذ: «والله إني لأحبك؛ فلا تنس أن تقول دبر كلِّ صلاة» يعني في خاتمة كل صلاة من فرض أو نفل «اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»[سنن أبي داود:ح1522، وقال الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ». ووافقه الذهبي]، فالذكر والشكر يقودان إلى جميل القيام بحق الله تعالى، وهو ما ذكره النبي –صلى الله عليه وسلم-في هذا الحديث حيث قال: «وحسن عبادتك».
هذه المقدمة أيها الإخوة والأخوات تُظهر منزلةَ الشكر في الديانة، وأن شكر الله –عز وجل-ليس عملًا تطوعيًّا هامشيًّا، ليس له من المنزلة ما جعلها الله تعالى له في كتابه وفي سنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-، فإن من الناس من يظن أن الشكر هو مجرد قول اللسان، أو الثناء على الله –عز وجل-بالجميل، وهذا وإن كان من أوجه الشكر، ومن جليل العبادات لكن الشكر أوسع من ذلك.
ولهذا نحتاج بعد أن عرفنا منزلة الشكر في الديانة، وأنه أمر الله تعالى لسيد المرسلين، وأنه أمر لبعض أولي العزم من الرسل، وأنه أمر للأنبياء ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا﴾[سبأ: 13]، وأن به يخرج الإنسان من دائرة الضلال التي يتصف به أكثر الخلق، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾[الأنعام: 116]، وكما قال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾[سبأ: 13]، نحتاج أن نعرف حقيقة الشكر، وندرك معناه.
الشكر في اللغة يدل على معانى متعددة، فمادة الشين والكاف والراء تدل على عدة معاني:
تدل على الثناء على الإنسان بمعروف يقدمه لك، وتدل على الرضا باليسير، وتدل على ظهور أثر الإنعام، فكل هذا من أوجه الشكر التي تستعمل بها هذه الكلمة في لسان العرب، فالشكر عرفان الإحسان ونشره وظهوره، والمجازاة عليه، والثناء بالجميل عليه، كل ذلك مما يعرف به معنى الشكر لغة. وأما المعنى الشرعي في الكتاب والسنة، فالشكر لا يغيب عن هذه المعاني، فهو مجموعها؛ إذ الشكر ظهور أثر نعمة الله تعالى على عبده، في لسانه ثناء واعترافًا، وفي قلبه شهودًا ومحبة، وفي جوارحه وأركانه انقيادًا وطاعة لله –عز وجل-، وبه تعرف أن الشكر ظاهر وباطن، باطن في القلب بمحبة الله والإقرار بفضله وإنعامه، وجزيل إحسانه، وكريم ما له –جل وعلا-من الفضل والإحسان لعبده.
وباللسان نطقًا بالثناء عليه، وإقرارًا بالفضل له جل في علاه، وبالجوارح ذلًّا له -جل في علاه- بالانقياد له فيما أمر وفيما نهى عنه وزجر، امتثالًا في الأمر، وتركًا في النهي، هذا ما يدل عليه الشكر من جهة معناه، وبه يعلم أنه لا يقتصر الشكر على جانب من جوانب عمل الإنسان، بل يكون بقلبه، وهذا أمر خفي بين العبد وربه، ويكون بلسانه، وهذا ثمرة ما في القلب بشكر الله –عز وجل-، ويكون بالثناء عليه وحمده، وذكر جميل فعله وصنعه، ويكون بالجوارح طاعة له –سبحانه وبحمده-وعملًا بما يرضيه جل في علاه، فيكون بذلك من الشاكرين.
وفي ثنايا حديثنا عن الشكر ومعناه لغة وشرعًا، معناه في الكتاب والسنة من المناسب أن يعرف المستمع والمستمعة الكريمين الفرقَ بين الشكر والحمد، فإنه كثيرًا ما يلتبس على كثير من الناس الحمد والشكر، فيجعلون الشكر حمدًا والحمد شكرًا.
والحقيقة أن الشكر والحمد بينهما اشتراك في أمور، وبينهما تمايزٌ في أمور، فالشكر والحمد يشتركان في معاني، وينفرد الشكر بأمور كما ينفرد الحمد بأمور.
وخلاصة الفرق بين الشكر والحمد: أن الشكر أعم من الحمد من حيث متعلقة، فيكون في القلب ويكون في اللسان ويكون في الجوارح، فالشكر قلبًا بمحبة الله وتعظيمه، والإقرار بعظيم فضله، وتذكر إنعامه، وباللسان ثناء عليه ومدحًا وجميل ذكر له –سبحانه وبحمده-، وبالجوارح عملًا بما يكون من طاعته والانقياد له جل في علاه.
هذا ما يتعلق بشكر الله –عز وجل-، وأما حمده فإن متعلقة لا يكون إلا بالقلب، فحمد الله –عز وجل-يكون بالقلب ويكون باللسان.
أما الجوارح فإنها لا يتطرق إليها معنى الحمد، ولذلك كان الحمد أوسع من جهة متعلقة، أي مواضع الشكر أوسع من الحمد من جهة متعلقة، فيكون في القلب، ويكون في اللسان، ويكون في الجوارح، أما ما يتعلق بالحمد فيكون في القلب إقرارًا بفضله، ويكون باللسان ثناء بالكلام الجميل والذكر الحسن على وجه التعظيم والمحبة له –سبحانه وبحمده-.
أما سبب الحمد فإنه أوسع من الشكر، فالشكر في الغالب يكون مقابل إنعام وإحسان وفضل من الله –عز وجل-، وأما الحمد فإنه يكون لإحسان ولجمال وكمال المحمود، فتحمد الله –عز وجل-لكماله، وتثني عليه لجليل أوصافه وعظيم أسمائه، فله الأسماء الحسنى، وله الصفات العلى، ولجميل أفعاله –سبحانه وبحمده-، فهو المولي لكل إحسان، هذا يحمد عليه جل في علاه.
يحمد على كماله في أسمائه وصفاته وأفعاله، ويحمد على إنعامه، «إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها»[صحيح مسلم:ح2734/89]، فيكون الحمد من جهة السبب أوسع من الشكر؛ لأنه يكون للإحسان ولعظيم أوصاف المحسن.
أما الشكر فلا يكون إلا مقابل إحسانه -جل في علاه- إلى عبده، فيشكر على إحسانه وعظيم منِّه وكرمه على عباده بما تفضل عليهم من النعم، ولذلك تقابل نعمه –جل وعلا-بالشكر، فيُشكر –سبحانه وبحمده-على ما تفضل به على عباده من نعم وجزيل إحسان، ذاك حقه –سبحانه وبحمده-.
هذا الفرق بين الحمد والشكر، وبه يتبين أن الشكر أوسع من الحمد في المتعلق، والحمد أوسع من حيث الباعث من الشكر.
المقدم: جميل، اسمح لي فضيلة الشيخ قبل أن ننتقل إلى النقطة التالية، اسمح لي أن نذهب إلى فاصل بعده بمشيئة الله تعالى سنتحدث عن كيفية أن يكون المسلم شكورًا في كل ما أنعم الله –تبارك وتعالى-عليه.
مستمعينا الكرام سنذهب إلى فاصل بعده نكمل الحديث ابقوا معنا.
حياكم الله مستمعينا الكرام نجدد الترحيب بكم في هذه الحلقة المباشرة لبرنامج "الدين والحياة" عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة، نجدد الترحيب بضيفنا الكريم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، حياك الله فضيلة الشيخ يا مرحبا.
الشيخ: حياكم الله وأهلا وسهلا بالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
المقدم: أهلا وسهلا فضيلة الشيخ تحدثنا في الجزء الأول عن حقيقة الشكر، وعن فضله، وعن منزلته بشكل يسير، وبإلماحة يسيرة نريد أن نتحدث فضيلة الشيخ عن كيف يكون المسلم شكورًا في كل ما أنعم الله –تبارك وتعالى-به عليه من هذه النعم والفضائل؟
الشيخ: الشكر أيها الإخوة والأخوات عبادة جليلة يتقرب بها العبد إلى الله –عز وجل-،وقد أمره الله تعالى بها في محكم كتابه، فقال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾[البقرة: 152]، وأمر الله تعالى بالشكر في مواضع عديدة من كتابه الحكيم، وذاك لكون الشكر أصلًا تبنى عليه العبادة.
ولهذا المؤمن في معاشه يتقلب بين أمرين:
بين شكر على إنعام وصبر على بلاء، وهو في صبره على بلائه وما يجري مما يكره هو في الحقيقة موقف يستدعي ذلك شكر الله تعالى، إذ إن الله تعالى تفضل عليه بهذا الإنعام الذي أفاض به عليه فصبره وذاك إحسان منه –جل وعلا-.
وإذا نظر المؤمن ما ذكره الله تعالى في محكم كتابه من شأن الشكر وجد ذلك في مواضع عديدة يذكر الله تعالى الشكر الذي هو من أوجه التقرب إليه، ومن الأصول التي تُبنى عليها العبادة، فيشكر –جل وعلا-على ما يتفضل به على عباده من الطيبات في رزقه وعطائه، في سائر ألوان الطيبات والأرزاق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172].
فجعل من حق العبادة أن يُشكر –جل وعلا-على ما تفضل به على عباده من رزق المآكل الطيبة، ويشكر –جل وعلا-على إحسانه على عبده بما يكون من نصره وتمكينه لأوليائه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[آل عمران: 123]، ويُشكر –سبحانه وتعالى-على ما منَّ به على عباده من يُسر الشريعة وسماحتها، ففي آية الطهارة ذكر الله تعالى ما يتطهر به المؤمن من الوضوء، وبعده ما يكون من الطهارة الكبرى بالاغتسال، ثم ما يكون من البدل بالتيمم، وبعد ذلك كله قال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[المائدة: 6]، فيشكر تعالى على أوجه الإنعام المتنوعة التي يتفضل بها على عباده –سبحانه وبحمده-، وحقيقة الشكر أيها الإخوة التي ترجع إليها جميع صوره وأعماله التي توصف بأنها شكر تدور على ثلاثة أمور، فكل صور الشكر وأنواعه تدور على واحد من ثلاثة أمور، وبه يتحقق شكره جل في علاه.
الأول: في القلب بالإقرار بفضله وإنعامه، وإضافة النعمة له جل في علاه، والنظر إليه –سبحانه وبحمده-دون ما يمكن أن يكون من الأسباب التي تصل بها النعم، وهذا أصل من أصول شكره جل في علاه، وهو شكر القلب، شكر القلب يكون بالإقرار بنعمة الله.
ولهذا كان من أوجه نيل عفوه ومغفرته وفضله وإحسانه أن يقر العبد بإنعام الله عليه، ولهذا في سيد الاستغفار «أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي»[صحيح البخاري:ح6306] يعني أُقِرُّ بإنعامك علي، فمن شُكر الرب الإقرار بإنعام الله تعالى، وإضافة النعمة إليه، فلا تضاف إلى سواه كما قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾[النحل: 53].
وكثير ما يغفل الناس عن هذا المعنى، فإذا وصلتهم نعم ووصلهم خير يشتغلون بالأسباب التي وصلت من خلالها النعم عن المسبب الذي قدر ذلك، وقضى به، ويسره، وأوصله، وسخر الأسباب التي توصل النعمة إليك.
ولهذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم-لأصحابه كما في حديث زيد بن خالد الجهني قال: «لمَّا صلَّى بهم صلاةَ الصُّبحِ بالحُدَيبيةِ على أثَرِ سماءٍ كانت مِنَ اللَّيلِ: أتدرونَ ماذا قال ربُّكمُ اللَّيلةَ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: فإنَّه قال: أصبَحَ مِن عبادي مؤمِنٌ بي وكافِرٌ بالكوكَبِ، فأما من قال: مُطِرْنا بفضلِ اللهِ ورحمتِه فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكواكبِ، وأما من قال: مُطِرْنا بنوْءِ كذا وكذا فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكواكبِ».[صحيح البخاري:ح846]
فجعْل الأبراج والمواسم هي الأسباب التي تنزل بها الأمطار أو توجدها «فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب»، فمن شكر القلب الإقرار بفضل الله وإنعامه وإضافة النعمة إليه، ويقين أنه المتفضل بذلك، وأنه لولا فضله لما كان، فوالله لولا فضل الله ما تيسر للإنسان أيسر الأمور وأسهلها، هذا الأول من أصول الشكر لنعم الله –عز وجل-، ويتحقق به عبادة الشكر.
الثاني: شكر اللسان، وهو قول الإنسان الذي يتكلم به شاكرًا لأنعم ربه جل في علاه، فإن العبد إذا شكر الله –عز وجل-بلسانه أثنى عليه، وتحدث بنعمه، وأجزل المديح له –سبحانه وبحمده-، فهو أحق من حُمد، وأحق من ذُكر، وأحق من مُدح –سبحانه وبحمده-، فيتحدث الإنسان بنعمة الله عليه ويشكر الله تعالى عليها، وهذا موجب لرضاه –سبحانه وبحمده-حتى في أدق الأمور وأقلها، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ اللَّهَ ليَرضى مِن العبدِ أن يأكُلَ الأَكلَةَ فيحمَدَهُ عليها، ويشرَبَ الشَّربَةَ فيحمَدَهُ علَيها».[سبق]
ثم قال –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في بيان عظيم الفضل «إنَّ اللَّهَ ليَرضى مِن العبدِ أن يأكُلَ الأَكلَةَ فيحمَدَهُ عليها، ويشرَبَ الشَّربَةَ فيحمَدَهُ علَيها».
أما ثالث أوجه وأصول شكر الله –عز وجل-: العمل بطاعته، والانقياد لأمره، والتعظيم بما عظمه من الشعائر والحرمات؛ فإن ذلك لا يكون إلا من قلب شاكر لله –عز وجل-، وهذا ما بينه النبي –صلى الله عليه وسلم-عندما قال بعض أصحابه في قيامه لليل، فكان –صلى الله عليه وسلم-يقوم لليل حتى تتفطر قدماه أي تتنفخ وتورم من طول القيام، فقالوا له في ذلك أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-:«أفلا أكون عبدًا شكورًا».[صحيح البخاري:ح1130]
فكان شكر الله –عز وجل-على ما تفضل به على رسوله بهذه الأعمال الجليلة الصالحة التي قام بها –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تقربًا إلى ربه، فالصلاة شكر لله –عز وجل-، المحافظة على الفرائض والمكتوبات من شكر الله –عز وجل-، أداء الزكاة في المال من شكر الله –عز وجل-، صوم رمضان من شكر الله –عز وجل-، حج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا من شكر الله –عز وجل-، وهكذا كل العبادات فإنها شكر له –سبحانه وبحمده-.
والمؤمن اللبيب يدرك أنه لن يحقق شكرَ الله –عز وجل-إلا بامتثال أمره والقيام بما شرع –سبحانه وبحمده-، وإذا تأملنا ما ذكره العلماء من أوجه شكر الله –عز وجل-وجدناها ترجع إلى واحدة من هذه الثلاثة، إما أن يكون شكرًا بالقلب، وإما أن يكون شكرًا باللسان، وإما أن يكون شكرًا بالجوارح والأركان والأعمال، فمن شكر الله أداء الفرائض، ومن شكر الله أيضًا الاشتغال بالنوافل، فإن اشتغال العبد بالنوافل من شكر الله –عز وجل-، فالتقرب إليه بالتطوعات كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-:«أفلا أكون عبدًا شكورًا»[سبق] من شكره جل في علاه.
فكل مشتغل بفرض واجب أو نفل مستحب، فهو شاكر لله –عز وجل-.
ومن شكره –جل وعلا-: التحدث بنعمة الله –عز وجل-، وقد قال الله تعالى لنبيه بعد أن عدد عليه –جل وعلا-ما تفضل به عليه قال: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾[الضحى: 11]، في سورة الضحى قال: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾[الضحى: 6- 10] وشكر النعم يكون بالحديث عنها، عن أبي نضرة قال: "كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدث بها"[تفسير الطبري:24/489] يعني أن يتكلم فيذكر نعمة الله تعالى عليه، ويخبر بها، فيقول: أنعم الله علي بكذا وكذا، لا على وجه طلب العلو عن الخلق، إنما على وجه بيان عظيم فضل الله وجزيل إحسانه وكريم مَنِّه وفضله –سبحانه وبحمده-.
وشتان بين من يذكر نعمة الله تعالى عليه أثرا وفخرًا وبطرًا وعلوًّا على الخلق، ومن يذكر نعمة الله تعالى عليه شكرًا له –جل وعلا-وبيانًا لفضله وعظيم إحسانه.
صورتان متباينتان متضادتان، شكر اللسان بذكر إنعام الله رياء وفخرًا، وتسميعًا وعلوًّا، وبين شكر إنعام الله عليه ذلًّا وخضوعًا وإظهارًا لجزيل إحسانه وعظيم منِّه، فالثاني هو المأمور به ولا ينبغي للمؤمن أن يشك أن ذلك من شكر الله –عز وجل-، فذكر إنعامه من شكره –سبحانه وبحمده-.
ومن شكره، من أسباب شكر الله –عز وجل-التي يدرك بها الإنسان شكر نعمه -جل في علاه- ويكون بذلك من الشاكرين، ويعمل بالشكر: أن يظهر عليه أثر إنعام الله عليه، هذا الأول شكر باللسان تحدثًا بإنعام المنان جل في علاه، وهذا شكر بالحال، وذلك بإظهار أوجه الإنعام التي أنعم الله تعالى بها على العبد.
وقد جاء فيما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «كلُوا واشربوا وتصدَّقوا في غيرِ مخيلةٍ ولا سرفٍ؛ فإنَّ اللَّهَ يحبُّ أن يَرى أثرَ نعمتِه على عبادِهِ».[مسند أحمد:ح6695، وعلق البخاري شطره الأول جازما بصحته(ترجمة حديث5783)، وشطره الثاني أخرج الترمذي في سننه(ح2819)، وحسنه]
يعني بإظهار إنعام الله –عز وجل-عليه في ملبسه، وفي هيئته، وفي حاله، وفي مسكنه، وفي مركبه من غير سرف ولا مخيلة، ولذلك انظر الحديث جاء الاقتران بين النهي عن السرف والمخيلة في النعم، وبين التحدث بها إظهارًا لها «إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده».[سبق]
وقد جاء من حديث أبي الأحوص عوف بن مالك، عن أبيه عند الحاكم أنه قال: «قالَ: رآني النَّبيُّ - صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ - وعليَّ أطمارٌ، فقالَ: هل لَكَ من مالٍ؟! قلتُ: نعَم ، قالَ: مِن أيِّ المالِ؟ قلتُ: مِن كلٍّ قد آتانيَ اللهُ، منَ الشَّاءِ والإبلِ، قالَ: إذا آتاكَ اللهُ مالًا فليُرَ أثرُ نعمةُ اللهِ وَكَرامتُهُ عليكَ» [سنن الترمذي:2006،وقال:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ]
ويكون ذلك ظاهرًا، فلا يخفي إحسان الله تعالى عليه، بل كما قال تعالى في وصية قوم قارون لقومه ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾[القصص: 77]، ومن أوجه والأعمال التي يشكر بها إنعامه جل في علاه: ذكره –سبحانه وبحمده-، ولهذا قرن الله –عز وجل-بين الذكر والشكر، فقال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ﴾[البقرة: 152].
فالغافل عن الله ليس شاكرًا، والمشتغل بذكره بقلبه وجوارحه فإنه شاكر لله –عز وجل-، ولهذا أوصى النبي –صلى الله عليه وسلم-معاذًا، بأن يجمع بين ذكر الله وشكره، فقال في وصيته له: «يا معاذ والله إني لأحبك فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك».[سبق]، والذكر قرين الشكر كما تقدم.
من شكر الله –عز وجل-اجتناب معاصيه الصغير والكبير، الدقيق والجليل، فإن ذلك مما يشكر به –سبحانه وتعالى-، فشكر نعمة اللسان أن يُحفظ عما يغضب الرحمن، وشكر نعمة البصر أن يُكفَّ عن النظر إلى ما لا يجوز إليه النظر، وكذلك السمع شكر نعمة السمع أن يصونه عن سماع ما يغضب الرب جل في علاه، وهلم جرًّا.
فكل نعمة شكر الله فيها أن تجتنب معصية الله تعالى فيها، فلا تجعل إنعامه طريقًا إلى إغضابه ومعصيته جل في علاه.
ومن شكر نعم الله –عز وجل-:بذل المال والإحسان إلى الخلق، فإن بذل المال والإحسان إلى الخلق مما يدرك الإنسان به شكر الله –عز وجل-، ويدخل في قوله –جل وعلا-:﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾[القصص: 77]، وفي قول النبي –صلى الله عليه وسلم-:«إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده».[سبق]
ومن شكر نعم الله تعالى أيضًا -إذا كان صاحب علم ومعرفة-: أن يبذل علمه، فإن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فمن كان عنده علم ومعرفة في أمر دين أو أمر دينا فليبرز ذلك، وليظهره وليبذله؛ فإن نشر العلم من شكر نعم الله –عز وجل-.
ومن شكر نعمه –سبحانه وبحمده-: الصبر على الشكر، فلا ينال الشكر إلا بالصبر ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[البقرة: 153].
بعد أن أمر بذكره وشكره، فقال: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾[البقرة: 152- 153].
وأيضًا مما يعين العبد على شكر الله –عز وجل-، ويتحقق به ما أمر به من القيام بحقه: أن يجدَّ في سؤال الله –عز وجل-أن يوفقه أن يكون من الشاكرين، فإن الشكر منَّة من الله يتفضل بها على من يشاء من عباده، ولذلك قال: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾[سبأ: 13].
فاشكر الله، وسله أن يجعلك شاكرًا، ولهذا من الدعاء الذي جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم «رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الهُدَى لِي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا »[سنن الترمذي:3551، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].
فسأل الله تعالى أن يكون شكَّارًا، وذلك بأن يعينه على شهود إنعامه بقلبه، والنطق ثناء بلسانه، والعمل بجوارحه انقيادًا لربه جل في علاه.
هذه أصول الأعمال التي يشكر الله تعالى فيها، وخلاصة ذلك أن الشكر يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالجوارح،كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبة
المقدم: فضيلة الشيخ! كان بودي أن نخلص حديثنا بالحديث عن الثمرات التي يتحصلها المسلم في الحياة الدنيا من شكر الله –تبارك وتعالى-.
الشيخ: هذا يدرك بالشكر رضا الله –عز وجل-، وهذا مفتاح خيرات الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾[الزمر: 7]، فالشكر مفتاح رضاه جل في علاه، ولذلك قال: -«إنَّ اللَّهَ ليَرضى مِن العبدِ أن يأكُلَ الأَكلَةَ فيحمَدَهُ عليها ويشرَبَ الشَّربَةَ فيحمَدَهُ علَيها».[سبق]
ولهذا الحمد ليس فقط والشكر ليس فقط على النعم الكبيرة، حتى على أيسر ما يكون من إنعام الله تعالى على عبده، اشكر الله، وأمل منه العطاء والنوال وجزيل الإحسان.
أيضًا بالشكر ينال الزيادة من إنعام الله عليه، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾[إبراهيم: 7]، وهذه الآية تتضمن بيان فائدتين من فوائد الشكر:
الأولى: حفظ النعمة فالنعم تحفظ بالشكر.
والثانية: الزيادة في الإنعام؛ فإن الزيادة لا تكون إلا على شيء موجود محفوظ، فالشكر سبب للحفظ، وسبب للزيادة.
مما يدركه الإنسان بشكره عاجلًا غير آجل أن الشكر يحصل به الأمن من عذاب الله –عز وجل-، فإن الله تعالى يدفع عن المؤمن بشكره ما يكون من المكروه، قال الله تعالى: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾[النساء: 147].
وبهذا يتبين أن الشكر يدرك به الإنسان سعادة الدنيا وفوز الآخرة، ويدرك به عظيم الأجر والإحسان، وقد قال الله تعالى: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾[آل عمران: 144]، أي سنعطيهم من فضلنا ونعمتنا في الدنيا والآخرة على قدر ما معهم في الشكر، فإذا زادوا في الشكر زاد الله في العطاء والمنِّ، وإذا نقصوا نقصوا من العطاء والمن بقدر نقصان ما يكون من شكر الله –عز وجل-، فنسأل الله من فضله وعظيم إحسانه ومنه.
المقدم: اللهم آمين، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ، شكر الله لك، وكتب الله أجرك في ختام هذه الحلقة نسأل الله –عز وجل-أن ينفعنا بما نقول وبما نسمع إنه جواد كريم.
الشيخ: آمين، أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، ولكم الشكر، وأسأل الله تعالى أن يمن علينا بأن يجعلنا من الشاكرين لأمره ﴿وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾[الزمر:66]، وأسأله –جل وعلا-أن يوفق ولاة أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده إلى ما يحب ويرضى، وأن يسددهم في الأقوال والأعمال، وأن يديم أمننا واجتماعنا، وأن يدفع عنا كل فتنة وبلاء وشر، وأن يعم ذلك سائر بلاد المسلمين، وأن يعجل لنا برفع البلاء والوباء وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.