المقدم:بسم الله الرحمن الرحيم مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نحييكم تحية طيبة في بداية هذه الحلقة لبرنامج "الدين والحياة" عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة.
في بداية هذه الحلقة مستمعينا الكرام تقبلوا تحياتي محدثكم وائل حمدان الصبحي، ومن الإخراج مصطفي مستنطق، ومن استديو الهواء لؤي حلبي.
مستمعينا الكرام! باسمكم جميعًا نرحب بضيف حلقات برنامج "الدين والحياة" فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته حياك الله.
الشيخ:عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبا بك أخي وائل حياك الله وحيا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
المقدم: حياك الله فضيلة الشيخ، مستمعينا الكرام! حلقات برنامج "الدين والحياة" نناقش موضوعات تهم المسلم في أمور دينه ودنياه، من هذه الموضوعات ما نسلط عليه الضوء من هذه الحلقة وهو عن "أسرار آية الكرسي وفضائلها".
بالتأكيد هذه الآية العظيمة الكريمة من كتاب الله –جل وعلا-فيها من الأسرار، وفيها من الفضائل، وفيها من الفوائد الشيء الكثير، سنتحدث في هذه الحلقة -بمشيئة الله تعالى- عن هذه الآية تحديدًا "آية الكرسي"، وعن فضلها، ومكانتها، ومعانيها، لكن قبل ذلك فضيلة الشيخ دعنا نبدأ بمقدمة عن فضل هذا الكتاب العظيم، عن فضل كتاب الله –جل وعلا-، هذا القرآن الذي أنزله الله –تبارك وتعالى-على نبينا محمد.
الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحييك أخي وائل وأحيي الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
فالقرآن العظيم هو أعظم كتاب أنزله الله تعالى على رسول من رسله صلوات الله وسلامه عليهم، أثنى الله تعالى عليه في كتابه، وبيَّن عظيم منزلته ورفيع مكانته، وما خصه الله تعالى به من الفضائل والخصائص التي تميَّز بها عن سائر الكتب التي تقدمته وسبقته مما أوحاه الله تعالى إلى الأنبياء والرسل.
هذا القرآن هو أحسن حديث فهو أصدق حديث، وهو كلام رب العالمين -جل في علاه-، وهو الذي جعله الله تعالى خطابًا منه للبشر، يدلهم على الطريق القويم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
ففي أول سورة بعد الفاتحة قال تعالى: ﴿الم *ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾[البقرة: 1- 2]، هذا القرآن العظيم سمعته الجن فلم تفتأ أن تقول إلا أن قالت: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا *يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾[الجن: 1- 2]، وقد أجمل علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- بما روي عنه موقوفًا ومرفوعًا إلى نبيه –صلى الله عليه وسلم-من أوصاف القرآن ما يبين عظيم منزلته.
«فهو كتاب الله فيه نبأ من كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبَّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يَخْلَقُ على كثرة الرَّدِّ (لا يبلى ولا يُمَلُّ)، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن عمل به أُجِر، ومن حكم به عدل، ومن دعى إليه هُدي إلى صراط مستقيم».[سنن الترمذي:ح2906، وقال:هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الوَجْهِ وَإِسْنَادُهُ مَجْهُولٌ، وَفِي الحَارِثِ مَقَالٌ. وقال الألباني في المشكاة(2138):ضعيف جدا]
يكفي قول الحق: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾[الإسراء: 9]، قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾[الزمر: 23].
هذا القرآن الكريم أنزله الله على سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، فهو أعظم المِنَح، وأجَلِّ المنن التي تفضَّل الله تعالى بها على عباده، بها ينالون الهداية، وبها يدركون السعادة، وبه ينالون فوز الدنيا وفوز الآخرة، فإن هذا القرآن فيه من الأجر والفضل والعطاء والبر ما لا يحيط به وصف، ولا يدركه بيان، ولا يحيط به عقل لكثرة ما ذكر الله تعالى فيه وما خفي من فضله عند ربنا -جل في علاه- أعظم وأَجَلُّ.
ولهذا ينبغي للمؤمن أن يحتفي بالقرآن، وأن يعرف عظيم منزلته، وأن يدرك أنه بقدر إقباله على كتاب ربه تلاوة وفهمًا، علمًا وتعلمًا وعملًا واهتداء وامتثالًا لأمره وتركًا لنهيه ينال من الهدايات، وينال من السعادات وينال من الخيرات.
ولهذا مثَّل النبي –صلى الله عليه وسلم-لصاحب القرآن الذي يتلوه ويعمل به بأطيب مثل فهو «كمثلِ الأُترُجَّةِ، ريحُها طيِّبٌ، وطعمُها طيِّبٌ»[صحيح البخاري:ح5020] كما جاء في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، وهذا يدل على عظيم ما يدركه مَن أَقبَلَ على القرآن في فهمه والعمل به، فإنه يطيب معدنه وسِرُّه وباطنه وخفاؤه ويطيب ظاهره، فالحلى وهو طعم لا يدرك إلا بالسبر للشيء بتذوقه.
وأما الرائحة فهي تظهر وتُدرَك دون الغوص أو المباشرة للشيء، فتمثيل النبي –صلى الله عليه وسلم-حالَ تالي القرآن الذي يعمل به، ويُقبِل عليه بالأترجة هو تمثيل لطِيب الظاهر والباطن، وعظيم الأثر الذي يُشِعُّ وينتشر، فالرائحة يدركها القريب والبعيد، ويدركها من لازم الشيء، ومن مَرَّ به على وجه عارض.
فالقرآن فضائله كثيرة، وقد خص الله تعالى مِن كلامه -جل في علاه- ما جعله محلًّا للفضل، ومحلا لمزيد للعطاء والبر والإحسان.
القرآن كله صبر، وكله شافع لمن يتلوه، وكله هداية، وكله خير، وكله بركة، وكله مبارك، لكن ذلك متفاوت بالنظر إلى تفاوت ما تضمنته تلك الآيات الكريماتن وتلك السور من المعاني الجليلات، ولهذا جاء تفضيل بعض السور على بعض، وجاء تفضيل بعض الآيات على بعض، فأعظم السورة في القرآن سورة الفاتحة، وأعظم آية في القرآن أية الكرسي، والإخلاص تعدل ثلث القرآن، وهلم جرًّا في تخصيص الفضائل بآيات هذا الكتاب الكريم وسوره بناء على اصطفاء الله –عز وجل-الذي تكلم به -جل في علاه- وأوحاه إلى نبيه محمد –صلى الله عليه وسلم-.
فينبغي للمؤمن أن يقبل على القرآن العظيم، وأن يتعلمه، وأن يكون له منه أوفر حظ وأوفى نصيب، فبقدر ما مع الإنسان من القرآن تلاوة وتعلمًا وعملًا معه من الخيرية، في الصحيح من حديث عثمان قال النبي –صلى الله عليه وسلم-«خَيرُكم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ»[صحيح البخاري:ح5027]، فينبغي للمؤمن أن يجتهد في تعلم القرآن حسب طاقته بتلاوته وفهمه، وفي معرفة فضائله وخصائصه، وأيضًا فيما يتعلق بالعمل به وتعليمه وبَذْله للناس، فإنه بذلك يكون صاحبًا للقرآن، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- «القرآن يأتي شفيعًا لأصحابه يوم القيامة».[صحيح مسلم:ح804/252]
وأهل القرآن هم أهل الله –عز وجل-،كما جاء في النسائي، وابن ماجه من حديث أنس، قال –صلى الله عليه وسلم- «إنَّ للهِ أهلينَ من الناسِ» «أهلين»الأهل للشخص هم من يقربون منه، ومن يكون مختصًا بالشيء، فالله –عز وجل-خص أهل القرآن، قال: «إنَّ للهِ أهلينَ منَ الناسِ، قال: مَن هم يا رسولَ اللهِ؟ قال: هم أهلُ القرآنِ»[سنن ابن ماجه:ح215، والنسائي في الكبرى:ح7977، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح1432]جعلنا الله وإياكم منهم.
المقدم: اللهم آمين، فضيلة الشيخ نريد أن نتحدث أيضًا عن موضوع مهم، وهو عن قواعد في فضائل السور والآيات، نريد أن نتحدث عنها حتى ننطلق إلى فضائل آية الكرسي.
الشيخ: القرآن كما ذكرت كله مبارك ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾[ص: 29]، فجميع هذا الكتاب من أوله إلى آخره في جميع آياته وحروفه مبارك على من تلاه، مبارك على من اهتدى به، مبارك على من عمل به فهو كتاب عظيم النفع، عظيم البركة، عظيم الأجر والثواب والخير والفضل.
وفضائل القرآن الكريم كما جاءت عامة جاءت خاصة، في بعض السور وبعض الآيات، وقد بين الله تعالى فضائل بعض كتابه، فقال في محكم كتابه -جل في علاه-: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾[الزمر: 23]، فجعل الكتاب كله في فضل وخير ومتقارب في فضله، فالتشابه هنا تشابه في الفضل، وفي الخير، وفيما يدل عليه، وفيما تضمنه هذا الميثاق من الفضل العظيم والأجر الكبير.
وقد قال الله تعالى في فضل بعض آياته: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾[الحجر: 87] ليمتن الله تعالى على رسوله –صلى الله عليه وسلم-بأنه آتاه سبعًا من المثاني، وهي آيات سورة الفاتحة، وسماها الله تعالى سبعًا، أو وصفها بأنها سبع؛ لأنها سبع آيات فهي من حيث العدد سبع آيات، ووصفها بالمثاني لأنها تتكرر بالتلاوة والقراءة، فيكررها المؤمنون في صلواتهم، في ركعاتهم، يكررونها تلاوة في البكور والآصال، وفي الصلوات وفي سائر الأحيان، فسماها الله تعالى بهذا الاسم إشارة إلى فضلها وعظيم منزلتها وكبير مكانتها عنده –جل وعلا-، وقد خصها بالذكر فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾[الحجر: 87]، وقد ذهب كما ذكرت جماعات من أهل العلم من أن المراد بالسبع المثاني آيات سورة الفاتحة.[وهو قول عمر، وعلي، والحسن وغيرهم. تفسير الطبري:17/133 ]
ثم بعد ذلك ذكر الله تعالى القرآن العظيم كله فامتن عليه بإنزال السبع المثاني، ثم عطف على ذلك ذكرَ القرآن العظيم جميعه، فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾[الحجر: 87].
وقال جماعة من أهل العلم: السبع المثاني هن السبع الطوال من سور القرآن العظيم، وهي السبع الأُوَل بعد الفاتحة (البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، يونس) فقيل: إن السبعة المثاني هي هذه، فخصها الله بالذكر لما فيها من عظيم الأخبار وجليل الأحكام وبيان عظيم ما تضمنته من العقائد التي بها صلح أحوال الناس.[ وهو قول ابن عباس، وابن سعود، وابن عمر، ومجاهد، وسعيد ابن جبير. تفسير الطبري:17/129]
وقيل: عن السبع المثاني معاني القرآن في الجملة، وليس فقط السبع السور، وذلك أن القرآن سبعة أجزاء: أمر، ونهي، وتبشير، وإنذار، وأمثال، وتعداد للنعم، وأخبار تضمنها القرآن.[قاله زياد بن أبي مريم. تفسير الطبري:17/137]
وعلى كل وجه من هذه الأوجه يتبين أن القرآن -لاسيما على الوجهين الأولين من التفسير- يتبين أن القرآن متفاضل من حيث منزلته، ومن حيث مكانته، وإن كان جميعه على علو منزلة ورفعة مكانة وسمو منزلته عند الله –عز وجل-، ففضائل القرآن تضمنته جميعًا، ثم الله تعالى اصطفى من كلامه ما خصه بفضائل دون سائر الآيات، ودون سائر السور.
وهذه الفضائل ينبغي أن يُعلم أن الفضل فيها من جهة ما تضمنته من المعاني، وأما من جهة المتكلم فهو الله تعالى ذو الفضل والمن والكرم، والكلام يكتسب الفضل من جهة المتحدث به، والقرآن من جهة المتحدث به المتكلم الله الذي نزل أحسن الحديث متشابهًا جل في علاه.
وأما من حيث مضمونه فإن مضمونه متفاوت، منه الخبر عن الله –عز وجل-، وهذا أعلى ما في القرآن، الخبر عن الله، وعن صفاته، وعن جليل ما له تعالى من الكمالات، ثم بعد ذلك الخبر عن أحكام دينه والقصص عن الأنبياء المتقدمين، والأخبار الأخرى التي تضمنها هذا القرآن، والخبر عن أعدائه وما آل إليه وما انتهى بهم الأمر، كل ذلك من كلامه –جل وعلا-، وهو متفاوت في الفضل من جهة مضمونه ومعناه.
ولهذا خصت بعض السور وبعض الآيات بفضائل لم تكن لغيرها، فعلى سبيل المثال سورة الإخلاص جاء فيها من الفضل ما لم يأت بسورة من السور، فقد ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم-من فضائلها الشيء الكثير، فمن ذلك قوله –صلى الله عليه وسلم- «قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ تعْدلُ ثلثَ القرآنَ»[صحيح البخاري:ح5013، ومسلم:ح811/259. واللفظ له] ومعنى تعدل ثلث القرآن أي في الأجر والمثوبة، وما تضمنته أيضًا من المعاني، وقد قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في بيان فضيلة هذه السورة: «أَيَعْجِزُ أحَدُكُمْ أنْ يَقْرَأَ في لَيْلَةٍ ثُلُثَ القُرْآنِ؟ قالوا: وكيفَ يَقْرَأْ ثُلُثَ القُرْآنِ؟ قالَ: قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ»[صحيح البخاري:ح5015 من حديث أبي سعيد الخدري، ومسلم:811/259 من حديث أبي الدرداء] كما في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، وقد أخبر الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-عن رجل كان يصلي بأصحابه فكان -رضي الله تعالى عنه-إذا قرأ ما شاء الله تعالى أن يقرأ ختم قراءته بسورة الإخلاص، فلما حُدِّث النبي –صلى الله عليه وسلم-بذلك قال: «سلوه لما صنع ذلك؟»فلما سئل الرجل قال: "إنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن اقرأ بها" وذلك أن هذه السورة مُخلَصَة لبيان كمالاته جل في علاه، فليس فيها ذكر سواه ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَّمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاص: 1- 4]، فلما أخلصت صفة الإخبار عن الله –عز وجل- تبوأت هذه المنزلة، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-:«أخبروه أن الله يحبه»، لما أحب هذه السورة التي فيها الخبر عن صفة رب العالمين جل في علاه.
المقصود أيها الإخوة والأخوات أن القرآن جاءت أخبار متعددة بما يتعلق بالخبر عن فضائله، وفضائله ترجع إلى مضمون ما تضمنته تلك الآيات من الفضائل من الأخبار الدالة على جليل المعاني ورفيع المعاني التي تضمنها هذا الكتاب الحكيم.
مما ينبغي أن يُتَنَبَّه له فيما يتعلق بفضائل السور، ففضائل الآيات أنها توقيفية ما معنى كون الفضائل توقيفية؟ أي أنها لا تُقتَرح ولا تثبت إلا بنص، لابد أن يأتي خبر عمن لا ينطق عن الهوى –صلى الله عليه وسلم-في بيان فضيلة سورة أو في بيان فضيلة آية.
أما ما يقال من الفضائل التي يقترحها بعض الناس، أو يثبتها بعض الناس بالتجربة، أو يثبتها بعض الناس بالقياس هذا كله لا يثبت به فضائل خاصة؛ لأن الفضائل هِبات وعطايا واصطفاء ومنن، وإن كانت لها معاني وأسباب لكنها ليست محلًّا للقياس، ولا محلًّا للإلحاق بالاجتهاد، بل لابد فيها من نص يوقف عليه، ولهذا إذا سمعت شيئًا من فضائل القرآن، أو سمعت شيئًا من فضائل سوره أو آياته، فاسأل عن صحة ذلك وثبوته من كلام النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد ألف العلماء رحمهم الله منذ سالف الزمان في الصدر الأول من التابعين ألفوا جملة من الكتب والمؤلفات في فضائل القرآن، فمن أقدم ما في ذلك مما بلغنا ووصل إلينا "فضائل ابن أبي شيبه" و"فضائل القرآن" لأبي عبيد القاسم بن سلام وغيرهم.
وينبغي للإنسان في مثل هذا المقام أن يتحرى ما ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، وأن يميز الصحيح من الضعيف، وأما أن يُترك الأمر بالنظر إلى اجتهاده، أو إلى قياس، أو إلى ظن، فهذا لا يصلح ولا يستقيم.
إذًا الخلاصة أن فضائل القرآن ليست محلًّا للقياس، إنما تستفاد من أخبار سيد الورى صلوات الله وسلامه عليه، فلا يصار إلى شيء من الأقوال أو الأخبار التي تخبر بفضل شيء من القرآن إلا بالدليل الثابت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
المقدم: عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فضيلة الشيخ! اسمح لي أن نذهب إلى فاصل بعده -بمشيئة الله تعالى- سنتحدث عن آية الكرسي بمشيئة الله تعالى، عن فضائلها، ومكانتها، ومعانيها مستمعينا الكرام فاصل قصير بعده نكمل الحديث، ابقوا معنا.
حياكم الله مستمعينا الكرام، نجدد الترحيب بكم، ونرحب بضيفنا الكريم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، حياك الله فضيلة الشيخ، أهلا وسهلا.
الشيخ: مرحبا بكم، حياكم الله، أهلا وسهلا بالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
المقدم:أهلا وسهلا فضيلة الشيخ، تحدثنا كبداية عن فضل القرآن الكريم وطرق التعلم والاستفادة من السور وفضائلها.
فضيلة الشيخ نريد أن نتحدث عن آية الكرسي تحديدًا التي نتحدث عنها في هذه الحلقة، ما هي فضائل آية الكرسي التي وردت من القواعد التي تحدثت عنها قبل قليل في فضائل السور والآيات؟
الشيخ: سورة البقرة التي آية الكرسي إحدى آياتها سورة عظيمة، أمر النبي –صلى الله عليه وسلم-بقراءتها، وأخبر عن عظيم فضلها، فقال –صلى الله عليه وسلم-«اقرَؤوا سورةَ البَقرةِ؛ فإنَّ أخذَها بَركةٌ، وتَركَها حَسرةٌ، ولا تَستَطيعُها البَطَلةُ».[صحيح مسلم:ح804/252]
وقال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «اقرَءوا الزَّهراوينِ: اقرءوا البقرةَ، وسورة آلِ عمرانَ فإنَّهما تأتيانِ يومَ القيامةِ كأنَّهما غمامتانِ أو غيايتانِ وفَرقانِ من طيرٍ صوافَّ»[صحيح مسلم:ح804/252]، وهذه الأخبار كلها وغيرها أيضًا في فضائل سورة البقرة تبين عظيم ما في هذه السورة من الخيرات والبركات، وكلها أحاديث ثابتة عنه –صلى الله عليه وسلم-.
فالقراءة لهذه السورة يدرك بها الإنسان خيرًا عظيمًا في الدنيا وفي الآخرة، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم-ذكر في تلاوة سورة البقرة ما هو عاجل من البركات التي تكون في الدنيا، ووقاية الشرور التي تكون من أهل الباطل والفساد والشر، ومنها ما يكون في الآخرة وهو ما ذكره من أنهما تأتيان تُظِلَّان صاحبهما يوم القيامة هي وسورة آل عمران، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم بركة هذه السورة، وأن يعيننا على تلاوتها على الوجه الذي يرضى به عنا جل في علاه.
أما آية الكرسي فهي إحدى آيات هذه السورة، وهي آية عظيمة أخلصت لبيان جليل صفات الله تعالى، وعظيم ما له من الكمالات جل في علاه، ولهذا تبوَّأت من المنزلة أن كانت أعظم آية في كتاب الله –عز وجل-، وهذا ليس بالاجتهاد الذي لم يقرَّه النبي –صلى الله عليه وسلم-، بل هو اجتهاد أقره النبي –صلى الله عليه وسلم-، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب -رضي الله تعالى عنه- وهو من قراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، قال رضي الله تعالى عنه، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-«أبا المنذرِ أيُّ آيةٍ معَك من كتابِ اللَّهِ أعظمُ؟».
وهذا يدل على أن القرآن متفاوت في الفضل، وفي العظمة، وفيما تضمنه من الدلالات والمعاني، فقال أُبيّ -رضي الله تعالى عنه-: «اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال أبا المنذرِ أيُّ آيةٍ معكَ مِن كتابِ اللهِ أعظمَ؟ قال: قلتُ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)، قالَ فضربَ في صدري، وقالَ ليَهنِك العلم أبا المنذرِ».[صحيح مسلم:ح810/258]
فأعاد النبي –صلى الله عليه وسلم-على أبيّ -رضي الله تعالى عنه- السؤال فقال: «أبا المنذرِ! أيُّ آيةٍ معكَ مِن كتابِ اللهِ أعظمَ؟».
فقال أبيّ لما كرر عليه النبي –صلى الله عليه وسلم-السؤال، علم أنه لابد من جواب، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم-ما كرر السؤال إلا ليعلم منه الجواب، فاجتهد -رضي الله تعالى عنه- ولم يكن علم ذلك بخبر من النبي –صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه لو كان عنده علم سابق من النبي –صلى الله عليه وسلم-لما قال له"الله ورسوله أعلم"، وأخبره بما علم، لكنه لما لم يعلم -رضي الله تعالى عنه- أخبر بهذا الجواب، فقال: "الله ورسوله أعلم"، ثم لما عاد عليه النبي –صلى الله عليه وسلم-، فهم أنه أراد منه –صلى الله عليه وسلم-أن يجيب وفق ما فتح الله تعالى عليه، ووفق اجتهاده، ووفق ما أوتي من علم.
فقال -رضي الله تعالى عنه- مجيبًا سؤالَ النبي –صلى الله عليه وسلم-«أيُّ آيةٍ معكَ مِن كتابِ اللهِ أعظمَ؟ قال: قلتُ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قالَ فضربَ في صدري».
هو صدر آية الكرسي، هو أول آية الكرسي، وفهم النبي –صلى الله عليه وسلم-جواب أبيّ، إما أنه أتم الآية واقتصر بالخبر على أولها، أو أنه عُرفت هذه الآية وعُهدت بهذا الاسم﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ ﴾[البقرة:255]باعتبار ما في أولها من هذا الجزء من خبر الله تعالى عن نفسه –سبحانه وبحمده-.
فضرب النبي –صلى الله عليه وسلم-على صدر أبيّ، وقال: «وقالَ ليَهنِك العلمُ أبا المنذرِ».
أقسم النبي –صلى الله عليه وسلم-على ما بلغه أُبيّ- رضي الله تعالى عنه- من رفيع المنزلة في العلم، حيث قال: «ليهنك العلم أبا المنذر»أي تهنأ بدنياك وأخراك، بما فتح الله عليك من العلم حيث أدركت أن أعظم آية في كتاب الله تعالى هي هذه الآية ﴿ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ ﴾[البقرة:255]
فقوله: «ليَهنِك العلم أبا المنذرِ» أي هنيئا لك بهذا العلم العظيم الذي ساقه الله إليك، ومَنَّ به عليك، وعرفت به أعظم آية باجتهادك، فأقرَّ النبي –صلى الله عليه وسلم-أبا المنذر على جوابه، بل هنأه على ما فتح الله تعالى عليه من العلم والمعرفة، التي من خلالها أدرك أن أعظم آية في كتاب الله تعالى هي هذه الآية الكريمة.
وقوله –صلى الله عليه وسلم-:«ليَهنِك يا أبا المنذرِ العلمُ» إقرار منه –صلى الله عليه وسلم-لأبيّ أنه أجاب الجواب الصحيح، والجواب المسدد.
أيها الأخوة والأخوات! هذا الحديث، وهذه المسألة التي سألها رسول الله –صلى الله عليه وسلم-أبا المنذر تُبيِّن أن هذه الآية الكريمة هي أعظم آيات الكتاب.
ولا شك أن عِظَمَها لما تضمنته من المعاني، فليس في القرآن آية واحدة تضمنت ما تضمنته آية الكرسي من الدلالات والمعاني، ويتضح هذا بوقفة عجلى قبل أن نمضي في ذكر الفضائل، بوقفة عجلى تمثل الأسرار التي بوأت هذه الآية هذه المنزلة، فإن هذه الآية تضمنت جملة من الأخبار:
- الخبر الأول: خبر الله تعالى عن التوحيد حيث قال تعالى: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾[البقرة: 255] هذا يخبر به الله تعالى عن أنه المستحق للعبادة، الذي لا يستحق العبادة سواه –سبحانه وبحمده-، فهو لا إله غيره، لا يستحق العبادة سواه، فكل ما عبد من دونه فهو باطل، سواء كان المعبود ملكًا أو كان نبيًّا، أو كان صالحًا، أو كان حيًّا، أو كان ميتًا، أو كان جمادًا، فكل ما عُبد من دون الله باطل، هذا معنى ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾[البقرة: 255]، يعني ليس أحد يستحق العبادة سوى الله جل في علاه، وهذه أعظم المعارف، وأعظم العلوم، وأجلُّ ما يكون به سعادة الناس في دنياهم وآخراهم، فإن "لا إله إلا الله" مفتاح الجنة.
هذه الآية الكريمة افتتحها الله تعالى بمفتاح الجنة، نسأل الله أن نكون من أهلها، فإنه من كان آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" دخل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
ثم عطف على هذا الخبر الذي يتعلق بإفراد الله تعالى بالعبادة، وهو الذي جاءت به الرسل جميعًا، فجميع المرسلين جاءوا يدعون أقوامهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، إلى أن يقولوا: "لا إله إلا الله"، إلى أن يعبدوه وحده لا شريك له، ثم عطف على ذلك ما يبين استحقاقه لهذه العبادة، وأنه لا يستحق أحد غيره –جل وعلا-أن يُعبد، وأن يكون إلها، فذكر من صفاته وأخبر عن جليل ما له من الكمالات –سبحانه وبحمده-.
فقال: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾[البقرة: 255]، وهذان الاسمان العظيمان يتضمنان جميع أسماء الله –عز وجل-كما ذكر ذلك جماعات من أهل العلم، فالحي يرجع إليه كل الأسماء والصفات التي تتعلق بكمال ذاته –سبحانه وبحمده-.
و"القيوم" يرجع إليه كل الأسماء والصفات المتعلقة بأفعاله –سبحانه وبحمده-، فهو الحي الكامل في حياته، وهو القيوم الذي يقوم على كل نفس بما كسبت، ويقيم كل من في السماء والأرض، فكلهم بالله، لا حول ولا قوة لهم إلا به، جل في علاه –سبحانه وبحمده-.
ولكمال حياته وقيوميته أخبر فقال: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾[البقرة: 255]، أي أنه –سبحانه وبحمده-، لا يتطرق إليه نقص في حياته بنعاس، ولا يتطرق إليه نقص في حياته بنوم، بل هو –سبحانه وبحمده-الكامل في حياته، الذي لا يعتري هذه الحياة نقص، الكامل في قيوميته، الذي لا يغفل، ولا يخفى عليه شيء من شئون عباده –سبحانه وبحمده-، الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام –سبحانه وبحمده-كما ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك.
وهنا أيضًا بعد أن أخبر –سبحانه وبحمده-عن حياته وقيوميته، وكمال ما له من ذلك تضمن الخبر عن عظيم ملكه –سبحانه وتعالى-، فهو الله لا إله إلا هو؛ لأن له الملك التام جل في علاه، وأنه لا منازع له في هذا الملك، فقد قال الله تعالى ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾[البقرة: 255]، له ملك السموات والأرض، له كل ما في هذا الكون –سبحانه وبحمده-، وهذا يدل على عظيم ما له –سبحانه وبحمده-من الملك، ثم في هذا الملك لا يكون شيء من شئون هذا الملك إلا بإذنه -جل في علاه- حتى في الشفاعة وهي الوساطة، فضلًا عن الحكم والتصرف والعمل والقضاء والحكم، فإنه إذا كان في الشفاعة لا يكون شفاعة إلا بإذنه –سبحانه وبحمده-، فكيف بغير ذلك مما يكون من الأمور؟ لا ريب أن غير ذلك لا يكون إلا بإذنه –سبحانه وبحمده-﴿لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[البقرة: 255]، فهو –جل وعلا-الذي له الملك التام، الذي لا نقص فيه ولا قصور.
ثم بعد ذلك أخبر عن، وهذا السر الثالث من أسرار هذه الآية الكريمة، والسبب الثالث من أسباب تبوء هذه المنزلة العظيمة أنها كانت أعظم آية من آيات الكتاب، أخبر فيها الله تعالى عن عظيم علمه، قال: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾[البقرة: 255]، يعلم ما بين أيدي من في السموات ومن في الأرض، فإنه لم يذكر أحدًا –جل وعلا-إنما ذكر من في السموات ومن في الأرض، يعلم ما بين أيدي من في السموات من الإنس والجن وسائر الخلق، وما خلفهم أحاط بكل شيء علمًا –سبحانه وبحمده-.
ثم إن خلقه مهما بلغت قدرتهم وقوتهم، وما منحهم الله تعالى إياه من القدرات هم عاجزون عن أن يحيطوا بشيء من صفاته، فضلا أن يحيطوا به –سبحانه وبحمده-.
ولهذا قال: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾[البقرة: 255]، فالخلق جميعًا لا يحيطون بشيء من علمه –سبحانه وبحمده-، فقد وسع كل شيء علمًا ﴿إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾إلا بما أظهره لهم وعلَّمهم إياه، وهو قد قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾[الإسراء: 85]، فالخلق كلهم لا يحيطون بشيء من علمه، فكيف به –سبحانه وبحمده-؟وقد قال: ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ﴾[البقرة: 255]، فالخلق عاجزون عن أن يحيطوا بشيء من صفاته، أو أن يحيطوا به –سبحانه وبحمده-فضلا عن أن يحيطوا به –سبحانه وبحمده-.
الآية الكريمة "آية الكرسي" تضمنت الخبر عن عظيم خلقه –سبحانه وبحمده-، وعظيم قدرته جل في علاه، حيث أخبر عن سعة مخلوق من مخلوقاته وهو الكرسي، فقال: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾[البقرة: 255]، إذا كان هذا الشأن الكرسي وسع السموات والأرض وهو خلق مِن خلق الله –عز وجل-، وليس هو أكبر الخلق، بل أكبر الخلق العرش، فإذا كان هذا شأن الكرسي فكيف بالعرش! وهذا يدل على عظيم قدرة الله –عز وجل-سبحانه وبحمده-الذي هذا خلقه ﴿لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾[غافر: 57]، والكرسي أعظم خلقًا من خلق السموات والأرض، فكيف بالصانع الذي خلق هذا الخلق –سبحانه وبحمده-؟هو الكبير المتعال –جل وعلا-أن تحيط به العقول، وأن تدركه الأبصار –سبحانه وبحمده-.
ثم أخبر في ختم هذه الآية أيضًا عن قدرته، وكمال ما له من القدرة، وكمال قيامه على خلقه فقال: ﴿وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾[البقرة: 255]، وهذا تقرير لقوله: ﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾، فلكونه الحي ولكونه القيوم لا يثقله شيء -جل في علاه- من شئون خلقه، فهو القائم بمن في السموات والأرض، فجميع من في السموات والأرض جميع الخلق به قائمون –جل وعلا-،كما قال –سبحانه وتعالى-﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾[الرعد: 33]، ﴿قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ﴾[الأنبياء: 42].
ولهذا لا يثقله شيء في السموات ولا في الأرض –سبحانه وبحمده-لعظيم قدرته وجليل قوته سبحانه، بعد أن ذكر ما ذكر من هذه المعاني الجليلة العظيمة، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾[البقرة: 255]، ختم الآية بأن الله شأنه أعلى وأعظم مما ذكر جل في علاه، لا يدرِك العباد عظيمَ قدره –سبحانه وتعالى-، وما قدروا الله حق قدره جل في علاه، هو العلي العظيم فمهما ذُكر من أوصاف وذُكر من شأنه –جل وعلا-وأسمائه وأفعاله، فالخلق عاجزون عن الإحاطة به –سبحانه وبحمده-، أو إدراك العظيم ما له من العلوِّ وما له من العظمة –سبحانه وبحمده-.
فتضمنت هذه الآيات الكريمات هذه المعاني فتبوَّأت هذه المسيرة، وقد جاء من فضائل هذه السورة أنها وقاية يقي الله تعالى بها الإنسان من الشيطان، فإنه من قرأ هذه الآية ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾[البقرة: 255] حتى يختمها لا يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح، من قرأها في ليلة.[صحيح البخاري:ح3275]
وقد جاء في حديث آخر في السنن من حديث أُبيّ أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «آيةُ الكرسيِّ التِي في سورةِ البقرةِ مَن قالَها حينَ يُمسِي أُجيرَ منَّا حتَّى يصبحَ، ومَن قالَها حينَ يصبحُ أجيرَ منَّا حتَّى يمسيَ».[ السنن الكبرى للنسائي:ح10731، ومعجم الطبراني الكبير:ح541، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح662]
وهذا في بيان عظيم بيان فضل هذه الآية الذي يدركه الإنسان في حياته في يومه وليلته فإنها حفظ له ووقاية، أما ما يدركه في الآخرة، فقد جاء في سنن ابن ماجه بإسناد لا بأس به أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «من قرأَ آيةَ الكرسيِّ في دُبرِ كلِّ صلاةٍ؛ لم يمنعْهُ من دخولِ الجنَّةِ إلَّا الموتُ»[أخرجه النسائي في الكبرى:ح9848، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح1595] وهذا حديث لا بأس بإسناده، وهو دال على فضيلة قراءة سورة آية الكرسي في دبر كل صلاة.
هذه بعض الأسرار والفضائل التي تضمنت هذه الآية الكريمة العظيمة، نسأل الله تعالى أن يرزقنا بركة الكتاب العظيم، وأن يجعلنا من أهله، وأن يوفقنا إلى تلاوته وحفظه وفهمه وتدبره والعمل به، وأن يجعله هاديًا لنا إلى كل بر، صارفًا لنا عن كل شر، وأن يجعله ربيع قلوبنا، وشفاء صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، اللهم آمين.
المقدم: اللهم آمين، نسأل الله –عز وجل-أن ينفعنا وأن يرفعنا بالقرآن العظيم، إنه جواد كريم بارك الله فيكم فضيلة الشيخ، شكر الله لك، وكتب الله أجرك على ما تفضلت به وتقدمت في هذه الحلقة، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ.
الشيخ: وأنا أشكركم، وأسأل الله تعالى لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يرفع عنا الوباء، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء وشر، وأن يوفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده إلى كل صلاح وكل بر وخير في المعاش والميعاد، وأن يعينهم على ما فيه خير البلاد، وأن يبارك في جهودهم، وأن يوفق كل قائم على مصالح الناس في صحتهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.555