الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
ذكر النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين باب بر الوالدين وصلة الأرحام:
وبر الوالدين هو الإحسان إليهما بكل ما يمكن وكف الأذى عنهما بكل وجه واحتمال الأذى منهم قولًا أو فعلًا ومقابلة ذلك بما يجب لهم من الإحسان وصلة الأرحام هي بذل الإحسان إليهم، وكذلك كف الأذى عنهم واحتمال ما يمكن أن يكون من أذاهم، والأرحام جمع رحم وهو مكان تخلق الإنسان والمقصود بالأرحام ذووا القربات وسموا بهذا إشارة إلى سبب القرابة وهو اجتماعهم في رحم قريب أو بعيد ولما كان الناس كلهم أبناء أب وأم واحدة ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾[النساء: 1] فلما كان الناس على هذا النحو من اجتماعهم برحم واحد، فإن الرحم التي أمر بصلتها ليست على هذا الاتساع الواسع، بل اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في تقييد الرحم التي تجب صلتها، فمنهم من قال: الرحم التي تجب صلتها هم من بينك وبينهم توارث، وقيل: الرحم التي تجب صلتها هم الرحم المحرم أو المحرم وهم ذووا الحرمة من القربات وهم كل شخصين لو قدر أن أحدهما ذكر والآخر أنثى لما جاز التناكح بينهما أي عقد النكاح بينهما وهم كل ذوي قرباتك من محارمك الذين يحرم عليك نكاحهم ويحرم عليهم نكاحك من العمات والخالات وبنات الإخوة وبنات الأخوات فإن هؤلاء لا يحل لك نكاحهم.
أما من لهم قرابة وليسوا من الرحم المحرم، كأبناء العمات والأعمام وأبناء وبنات الأخوال والخالات فهؤلاء على هذا الضابط ليسوا من الرحم التي تجب صلتها لأنه ليس بينك وبينه محرمية.
وقيل: بل الرحم هم كل من بينهم وبينك صلة قرابة لاجتماع في الرحم لكن فيما دون الجد الرابع، وعلى كل حال كل هذه الأقوال هي سعي في تقريب الرحم التي تجب صلتها، والرحم التي تجب صلتها هم كل ذوي قرباتك، سواء كانوا من المحارم أو غيرهم؛ لكن الصلة تختلف باختلاف قرب القرابة والصلة وباختلاف أيضًا الحاجة التي تكون لدى هؤلاء القربات، وهؤلاء الأرحام وصلة مختلفة، فمنهم من يوصل بالسلام والزيارة، ومنهم من يوصل بالمال، ومنهم من يوصل بقضاء الحاجة وما أشبه ذلك مما يكون به الوصل، فالصلة تصدق على كل إحسان واصل منك إلى قرباتك سواء كان قوليًا أو عمليًا وسواء كان بالجاه أو بالمال أو بغير ذلك مما تحصل به الصلة.
وقد أمر الله ـ تعالى ـ ببر الوالدين وصلة الأرحام في مواضع عديدة، منها ما هو مقترن ومنها ما هو غير مقترن، من المواضع التي قرن الله ـ تعالى ـ الأمر فيها بالإحسان إلى القربات وبر الوالدين قوله ـ تعالى ـ: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى}[النساء: 36] فعطف ذوي القربى على الوالدين، وَقالَ ـ تَعَالَى ـ:{وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَام}[النساء: 1] وهذا يشمل حقوق الوالدين وحقوق غيرهما من ذوي القربات، ووصل هؤلاء كلهم مما أمر الله ـ تعالى ـ به أن يوصل كما َقالَ ـ تَعَالَى ـ: {والَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}[الرعد: 21] وما أفرد فيه ذكر الوالدين بالإحسان ذكر ذلك في مواضع عديدة منها قوله ـ تعالى ـ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}[الإسراء: 23]، وَقوله ـ تَعَالَى ـ: {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِحَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا}[الأحقاف: 15] وغير ذلك من الآيات التي ذكر الله ـ تعالى ـ فيها حق الوالدين بالإحسان.
وأما ذكر الأرحام على وجه الانفراد ففي قوله ـ تعالى ـ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾[محمد: 22] فهذا في ذكر الأرحام على وجه الانفراد، لكن يدخل فيه أيضًا حق الوالدين والمقصود أن هذه الشريعة جاءت بالإحسان إلى كل أحد.
قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾[البقرة: 83] وأحق من يكون له الإحسان هم القربات وأولاهم ومقدمهم هم الوالدان ثم بعد ذلك القربات حسب قربهم، كما سيأتي بيانه وإيضاحه فيما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنسأل الله العظيم أن يعيننا وإياكم على أداء الحقوق، وبر والدينا وصلة أرحامنا، والقيام بما يجمل به حالنا عند ربنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.