الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
ذكر النووي ـ رحمه الله ـ في باب بر الوالدين وصلة الأرحام:
عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: سألت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إِلَى اللهِ تَعَال؟ قَالَ: ((الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا))، قُلْتُ: ثُمَّ أي؟ قَالَ: ((بِرُّ الوَالِدَيْنِ))، قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قَالَ: ((الجِهَادُ في سبيلِ الله))مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.البخاري (2782)، ومسلم (85)
هذا الحديث الشريف فيه بيان منزلة بر الوالدين من الأعمال، فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أجاب ابن مسعود في هذا الحديث ببيان أفضل الأعمال المتعلقة بحق الله، وأفضل الأعمال المتعلقة بحقوق الخلق.
ثم بعد ذلك بين له أفضل الأعمال التي يتطوع بها من غير الفرائض، والعمل يشمل كل ما يكون من الإنسان العمل الصالح يشمل كل ما يكون من الإنسان ظاهرًا وباطنًا، وقد يطلق العمل على ما يكون من العمل الذي في الجوارح أي الذي يقوم به الإنسان في بدنه، وإن كان لابد فيه من عمل قلبي، فالصلاة عمل يقوم بالبدن يفتتح بالتكبير، ويختتم بالتسليم فيه أقوال وأعمال، لكن لابد فيه من نية إنما الأعمال بالنيات.
بر الوالدين كذلك عمل يقوم بالبدن، لكن يعظم به الأجر إذا كان قد استحضر النية الخالصة، وكذلك الجهاد في سبيل الله فما من عمل ظاهر إلا ولابد أن يكون معه عمل باطن وهو ما يكون في القلب من حسن القصد وسلامة النية «إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ ولِكلِّ امرئٍ ما نوَى»البخاري (1) فلو كان العمل مجردًا عن النية لم يبلغ في الأجر والإبراء كما يكون العمل إذا قارنته نية صالحة، بل قد لا يكون العمل صالحًا إذا خلا من النية؛ لأنه لا يكون عمل إلا بنية، ولا يكون صالحًا إلا إذا قصد به وجه الله ـ عز وجل ـ كما قال ـ تعالى ـ: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف: 110].
فلابد من حسن القصد وسلامة النية ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[البينة: 5] فكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث أجاب بأعمال الجوارح، لا يعني أن الإيمان بالله ـ عز وجل ـ هو عمل القلب غير حاضر، بل هو حاضر وهو أعلى ما يكون من العمل.
ولهذا في الصحيحين من حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ "أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما سئل أي العمل أفضل؟ قال: الإيمان بالله والجهاد في سبيله" وكذلك قال: إيمان بالله وفي رواية "إيمان بالله ورسوله"صحيح البخاري (1519) وفي حديث أبي ذر لما سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: "الإيمان بالله والجهاد في سبيله"، فالإيمان لابد منه في كل عمل.
ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث ثلاثة أعمال:
الأول: قال "الصلاة على وقتها" والمراد بالصلاة أي المفروضة على وقتها يعني أن يحافظ الإنسان عليها فيما جعله الله ـ تعالى ـ وقتًا لها وذلك أن الصلوات مكتوبة في أوقات، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾[النساء: 103] وكما قال ـ تعالى ـ: ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾[الإسراء: 78] فلابد من المحافظة على الصلاة في أوقاتها، وهذا أعظم الأعمال البدنية المتعلقة بحق الله بعد الإيمان به جل في علاه.
ولهذا كانت الصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام.
الثاني: ثم قال عبد الله بن مسعود ثم أي؟ يعني بعد هذا أي العمل أحب إلى الله، قال ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: "بر الوالدين" وبر الوالدين هو الإحسان إليهما بكل وجه من أوجه الإحسان كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾[الإسراء: 23] والإحسان بالوالدين يشمل إيصال الخير إليهما وكف الأذى عنهما واحتمال ما يمكن أن يكون من الأذى الصادر عنهما، والوالدان هما الأب والأم، ويشمل كذلك من علا من الآباء والأمهات من الأجداد والجدات من جهة الأب ومن جهة الأم، فإن البر لهم بهما مما يدخل فيما ندبت إليه الشريعة من البر بالوالدين، ولكن أحق من كان بالبر هم الأقرب من الوالدين وهم الأب والأم المباشرين، فإن حقهما في البر أعلى من حق الأجداد، وإن كان الجميع يشتركوا في حق البر.
الثالث: ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما سئل عن عمل بعد ذلك قال ابن مسعود: ثم أي يا رسول الله؟ أي ثم ماذا بعد ذلك يا رسول الله قال: "الجهاد في سبيل الله" والمقصود بالجهاد هنا الجهاد غير المتعين وقيل: الجهاد المتعين يعني الجهاد الفرض، وذلك أنه لا يكون الجهاد فاضلًا ومقدم على بر الوالدين إلا إذا كان متعينًا، أما إذا كان غير متعين بمعنى أنه فرض كفاية، فإنه يكون بعد بر الوالدين، لأن بر الوالدين فرض والجهاد غير متعين غير فرض.
وهذه الأعمال الصالحة الثلاثة التي أجاب بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي جماع العمل، فإن العمل إما أن يكون فرضًا، وإما أن يكون ندبًا، والفرض إما أن يكون حقًا لله، وإما أن يكون حقًا للفرض، والحق لله في الأعمال أعلاهما يكون بعد التوحيد للصلاة، وأما حقوق الخلق فأعلى ما يكون من حقوق الخلق حق الوالدين بعد حق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ثم بعد ذلك العمل التطوعي يكون أعلاه الجهاد في سبيل الله، ومنه العلم بذلًا ونشرًا، فإن العلم وبذله من الجهاد في سبيل الله كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾[الفرقان: 52]
ثم هذا الحديث أجاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه بفضائل الأعمال على هذا النحو، وقد أجاب غيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بترتيب آخر ففي حديث أبي هريرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما سئل قيل له أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله"، قال أبو هريرة قلت: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" قلت ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور"صحيح البخاري (26)، وصحيح مسلم (83)اختلاف أجوبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ترتيب مراتب العمل، إما أن يكون هذا بالنظر إلى حال السائل وحاجته، وإما أن يكون بالنظر إلى اختلاف الزمان ففي زمان يكون هذا أفضل من ذاك.
وإما أن يكون المقصود بأفضل العمل أي، أي العمل فاضل وليس المقصود بذلك الترتيب للأعمال، إنما بيان فضيلة الأعمال على وجه الإجمال، وعلى كل حال أسد ما يكون في الجواب عن هذا الاختلاف في أجوبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه بالنظر إلى السائل أو إلى وقت السؤال والأعمال قد تتفاضل باختلاف الأشخاص وقد تتفاضل باختلاف الزمان.
والمقصود من هذا الحديث بيان فضل بر الوالدين.
وفيه من الفوائد: حرص الصحابة على العمل الأفضل، والأسبق وهذا؛ لأن المتاجر مع الله يبحث عن أفضل ما يقربه إليه وهذا علو في الهمة وسمو في الرغبة فيما عند الله ـ عز وجل ـ أن تبحث عن أفضل ما يقربك إليه جل في علاه.
أيضًا فيه من الفوائد: أن أفضل الأعمال المتعلقة بحق الله الصلاة على وقتها، فليس ثمة أفضل من الصلاة من العمل المفروض الواجب فينبغي للإنسان أن يتقن هذا العمل، وأن يحرص على أداءه على الوجه الذي يرضى الله ـ تعالى ـ به عنه.
وفيه: فضيلة بر الوالدين وأنها من أفضل ما يكون من حقوق العباد، والعجب أن بعض الناس يبر أصحابه وأصدقائه ويغفل عن حقوق والديه وذوي رحمه، وهذا تفريط كبير فإن أفضل ما يكون من الإحسان للخلق بر الوالدين، وفيه فضيلة الجهاد في سبيل الله وأنه في الذروة من العمل.
فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يستعملنا وإياكم في صالح العمل، وأن يجعلنا وإياكم من أهل البر والتقي ظاهرًا وباطنًا, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.