الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب بر الوالدين وصلة الأرحام:
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: أن رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ))مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. البخاري (6138)، ومسلم (47)
هذا الحديث الشريف الذي بين فيه النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ صلة الإيمان بالله واليوم الآخر بصلة الأرحام حيث جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر أن يصل الإنسان رحمه.
والإيمان بالله إيمان بربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، وهو مفتاح كل خير ومبدأ كل صلاح، وهو منشأ كل طاعة، فإن الإنسان إنما يعمل لله ـ عز وجل ـ يبتغي الأجر منه والثواب واليوم الآخر هو اليوم الذي يجزي فيه الإنسان على عمله ويلقي فيه ما قدم يوم يقوم الناس لرب العالمين، فيجزون على ما يكون من صالح أعمالهم وسيئها ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾[الانشقاق: 6] ثم ينقسم الناس إلى قسمين؛ فائز في الملاقاة، وخائب وخاسر أعاذنا الله ـ تعالى ـ وإياكم من الخسار.
يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من كان يؤمن بالله" أي يوقن إيقانًا جازمًا بالله وباليوم الآخر أي وبأنه عائد إلى الله وسيحاسب على عمله "فليصل رحمه" أي فليبادر إلى صلة الرحم.
والصلة ضد القطيعة والرحم هم كل من تجتمع معهم في ولادة قريبة أو بعيدة يشمل هذا الرحم المحرم أو المحرم من ذوي الأرحام الذين لهم حرمة المحارم أو غيرهم؛ لعموم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "فليصل رحمه" والجميع يصدق عليه أنه رحم.
وقد حده جماعة من أهل العلم بمن دون الجد الرابع، كل من تفرع عن الجد الرابع، فهم من ذوي رحمك الذين لهم حق الصلة؛ لكن حق الصلة متفاوت، ووصلهم من الإيمان بالله واليوم الآخر.
وأما صفة الصلة التي جعلها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من لوازم الإيمان بالله وباليوم الآخر، فلم يبينها نص واحد بل المرجع في ذلك إلى ما يعده الناس وصلًا، وهو دائر على الإحسان وكف الأذى واحتمال ما يكون من تقصير، وبذل الإحسان يشمل الإحسان القولي والعملي، وهو يختلف باختلاف الناس، فتارة قد يكون الإحسان ببذل المال، وتارة يكون صلة الرحم ببذل الجاه، وتارة تكون صلة الرحم بالسلام والزيارة، وتارة تكون بالخدمة وقضاء الحاجة فليس للصلة وجه واحد يفسر به، بل كل إحسان توصله إلى ذوي رحمك إلى قرباتك، فهو من صلة الرحم التي جعلها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من لوازم الإيمان بالله واليوم الآخر ومن ثماره ونتائجه، ومن دلائل صدق الإيمان بالله واليوم الآخر.
وأما كف الأذى، فإنه حق لكل أحد، فإن الإنسان إذا صدق إيمانه وإسلامه أمن الناس شره وسلموا من لسانه ويده؛ ولذلك قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»البخاري (10)ومسلم (40) وأما احتمال الأذى فهذا يحصل كثيرًا من بعض الناس أن يوصل إليك أذاه من قرباته أو من غيرهم، فحق القربات يتأكد احتمال الأذى، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر في صلة الرحم فقال: «ليسَ الواصِلُ بالمُكافِئِ» يعني الذي يقابل الصلة بصلة والإحسان بإحسان، «ولَكِنِ الواصِلُ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصَلَها»البخاري (5991) فدل هذا على أن الرحم لهم حق زائد في احتمال ما يكون من الأذى منهم بأن يبادر الإنسان إلى مقابلة ما يكون من إساءه بإحسان.
وهذا أعلى ما يكون من الوصل، وأوفاه ولذلك قال: "ليس الواصل بالمكافئ" يعني ليس أعلى درجات ومراتب الوصل هو من يصل من أحسن إليه، ويكافئ من وصله من قريب أو بعيد، من ذوي رحمه إنما الواصل هو الذي إذا قطعت الرحم وصلها، وهذا يدل على أن المبادرة إلى صلة الرحم مطلوبة وأن الأفضل في صلة الرحم هو من سبق إليها وليس من انتظر ما يقابله من صلة ذوي رحمه.
ولذلك قال: "فليصل" ولم يقل فليواصل وهذا يدل على ابتداء الفعل منه، ولهذا ينبغي لنا أن نعتني بهذا الأمر وأن نحتسب الأجر فيه عند الله ـ عز وجل ـ فإن الإنسان لا يمكن أن يبذل الإحسان ويصبر على الأذى ويكف أذاه عن الناس إلا إذا راقب الله ـ عز وجل ـ وجعله معاملته معه ـ سبحانه وبحمده ـ وإلا فالنفوس تضعف وتتقاصر ويصيبها ما يصيبها من الملل، وأيضًا إذا قوبل بالإساءة ضعف نشاطه في مقابلة هذا المسيء بالإحسان، لكن إذا احتسب الأجر عند الله، وعلم أنه يعامل الله ـ عز وجل ـ فيما يكون من إحسانه ووصله، فإنه سيسهل عليه كل شيء؛ لأنه لا ينتظر من أحد شيئًا، إنما ينتظر الثواب من الله ـ عز وجل ـ والله لا يخلف الميعاد.
ولذلك قال ـ تعالى ـ في وصف الأبرار ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾[الإنسان: 9]
وليكن هذا ديدنك في كل علاقاتك لا ترقب من الناس مقابلًا، فإنك متى انتظرت المقابل تعبت، ومللت ومننت وقطعت؛ لكن إذا كان الأمر تنتظر فيه الثواب من الله، وتعامل فيه الله ـ عز وجل ـ فأنت ضامن أن ما تقدمه من قليل أو كثير لا يضيع ﴿أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾[آل عمران: 195]، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه﴾[الزلزلة: 7].
الحديث فيه فوائد: أن الإيمان بالله واليوم الآخر يحمل الإنسان على أداء الحقوق، وأن الإيمان بالله واليوم الآخر يحمل الإنسان على حسن الصلة بالخلق، وأن الإيمان بالله واليوم الآخر ليس شيئًا في القلب لا يترجم بالعمل، بل الإيمان قول وصدق وعمل، فإن صلة الرحم عمل يكون باللسان ويكون بالجوارح ويكون بالسر ويكون بالإعلان وهذا كله من خصال الإيمان.
أعاننا الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.