المقدم:بسم الله الرحمن الرحيم مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نحييكم تحية طيبة عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" من مكة المكرمة في هذه الحلقة المتجددة لبرنامج "الدين والحياة"، حياكم الله مستمعينا الكرام نرحب بكم أنا محدثكم وائل حمدان الصبحي في بداية هذا اللقاء، وأرحب بضيف حلقات برنامج "الدين والحياة" فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم.
فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياك الله معنا في بداية هذه الحلقة يا مرحبا.
الشيخ:وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياك الله أخي وائل، أرحب بك وأرحب بالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
المقدم: أهلا وسهلًا فضيلة الشيخ، في حلقات برنامج "الدين والحياة" نناقش موضوعات تهم المسلم في أمور دينه ودنياه، نسلط الضوء عليها مما ورد في كتاب الله –جل وعلا-، ومما ورد في سنة المصطفى عليه أفضل السلام وأتم التسليم، وأيضًا نتقفَّى أثر الهدي لسلف هذه الأمة، السلف الصالح نتقفى أثرهم وهديهم، ومن ضمن هذه الموضوعات التي نتحدث عنها ما سنتحدث به في هذه الحلقة وهو عن شهر شعبان، وما ورد فيه من الفضائل والأعمال سنتحدث عنهم بمشيئة الله تعالى.
نريد أن ندخل بحديثنا فضيلة الشيخ عن شهر شعبان وهل له فضائل؟ وهل له أعمال خاصة وردت به أم لا؟
الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فينبغي أن يكون المؤمن على بصيرة ودراية بأن الله تعالى خلق الخلق، فالله خالق كل شيء، وقد اصطفى من خلقه ما يشاء جل في علاه، فاختار من خلقه زمانًا ومكانًا وذاتًا وأشخاصًا وأحوالًا، خصها بخصائص، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾[الحج: 75]، كما قال –سبحانه وتعالى-: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[القصص: 68]، فالله تعالى خلق الخلق واصطفى من خلقه ما يشاء، ومن ذلك ما اصطفاه –جل وعلا-في الزمان، وهذا نموذج ومثال لهذا الاختيار الإلهي الذي يخص فيه –جل وعلا-بعض الزمان بما ليس في غيره من الفضائل والخصائص والأحكام.
فربنا جل في علاه أخبر في كتابه بخلق الزمان وأنه –جل وعلا-جعل الزمان على نحو من العدد في كتابه -جل في علاه- قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾[التوبة: 36]، وهذا الخبر الإلهي يخبر فيه –جل وعلا-بعدة الشهور، وأنه جعل الزمان جاريًا على هذا العدد، قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾[التوبة: 36]، أي في حكمه وقضائه جل في علاه ﴿يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾[التوبة: 36]، بعد أن أخبر بتقسيم الزمان إلى هذا العدد أخبر باختصار بعضه فقال: ﴿منها﴾ أي من هذه الاثني عشرة شهرًا ﴿أربعة حرم﴾، ثم قال: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾[التوبة: 36]، هذا الخبر الإلهي بين فيه -جل في علاه- اصطفاء بعض الزمان بجعله على نحو من المنزلة والمكانة فيما يتعلق بالحرمة ووجوب الاحترام وصيانة النفس عن الخطأ والعصيان ما ينبغي أن يراعيه كل مؤمن.
ولذلك قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾[التوبة: 36]، وكذلك اصطفى الله تعالى شهر رمضان من بين أشهر الزمان، وهو ليس من الأشهر الحرم؛ لأن الأشهر الحرم: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، اصطفى رمضان بخاصية أخرى، هذه الأربع التي ذكرها الله تعالى منها أربعة حرم، خصها بالتحريم وخصها بما خصها به من وجوب الاحترام.
رمضان خصه الله تعالى بأن جعله محلًّا لنزول القرآن، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾[البقرة: 185]، واصطفاه أيضًا بأن جعله محلًّا لعبادة عظيمة هي ركن من أركان الإسلام وهي صوم رمضان، قال تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾[البقرة: 185]، وهذا تخصيص أيضًا فوق التخصيص، ذاك تخصيص قدري وهذا تخصيص شرعي.
تخصيص قدري أي أن الله تعالى قدر أن يكون نزول القرآن في هذا الشهر، وتخصيص شرعي وهو ما طلبه من عباده وفرضه عليهم -جل في علاه- من صيام هذا الشهر الذي فرض صيامه على أهل الإسلام في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾[البقرة: 185].
إذًا الخصائص التي يختص بها الزمان متنوعة ومتعددة ولله تعالى في ذلك الحكمة البالغة.
الأيام أيضًا خص الله تعالى من الأيام يوم الجمعة من أيام الأسبوع، فجعله محلًّا لأعمال صالحة وعبادات جليلة فهو سيد الأيام، تخصيص يوم الجمعة متنوع أي أنه ليس على وجه واحد، فمن خصائص يوم الجمعة ما هو قدريٌّ، ومنها ما هو شرعي، أي منها ما هو بتقدير الله –عز وجل-ليس للخلق فيه فعل، ومنه ما هو شرعي أمر الله تعالى فيه عباده بشيء من الأعمال.
فمن التخصيص القدري الذي خص الله تعالى به يوم الجمعة أن جعله خير الأيام فقال –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-«خيرُ يومٍ طلعت فيهِ الشمسُ يومَ الجمعةِ»،وهذه الخيرية اصطفاء من الله –عز وجل-لهذا اليوم من بين أيام الأسبوع، ثم ذكر جملة من خصائصه القدرية، فقال:«فيه خُلِق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة».[صحيح مسلم:ح854/17 ]
هذا الخبر النبوي الذي ذكر فيه جملة من خصائص هذا اليوم يبين تميُّزَه عن سائر الأيام، ولكن كل ذلك من جهة ما قدره الله وقضاه في هذا اليوم، وقدر الله في هذا اليوم أن خلق فيه آدم، قدر الله في هذا اليوم أنه يوم أدخل أبونا آدم الجنة، وفيه أيضًا أخرج منها لما جرى منه ما جرى عند الأكل من الشجرة، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة، هذا خبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الدال على خصائص قدرية لهذا اليوم.
أما الخصائص الشرعية: يومُ سعيٍ لذكر الله –عز وجل-، وعمل بطاعته –سبحانه وبحمده-، فقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾[الجمعة: 9]، وهذه الصلاة العظيمة التي شرعها لأهل الإيمان في هذا اليوم لا يوجد نظيرها في سائر الأيام، فهذه الصلاة أفضل الصلوات على الإطلاق، وفيها من الخيرات وموجبات المغفرة ما جعلها الله –عز وجل-يندب أهل الإيمان إلى السعي ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾[الجمعة: 9]، أي اتركوا كل ما يشغلكم عن الإقبال عليه جل في علاه.
هذا بالنظر إلى يوم الجمعة، وكذلك خص الله تعالى يوم الاثنين والخميس فخصهما بخاصية لا توجد في غيرهما من الأيام، فهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله –عز وجل-،كما جاء ذلك في المسند والسنن من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال –صلى الله عليه وسلم-: «تُعْرَضُ الأعمالُ على اللهِ تعالى يومَ الاثنينِ والخميسِ» هذا العرض ثابت في هذين اليومين، وهما محل لفضل الله –عز وجل-ومغفرة الذنوب، فقد جاء في صحيح الإمام مسلم قال –صلى الله عليه وسلم--«تُعْرَضُ الأعمالُ على اللهِ تعالى يومَ الاثنينِ والخميسِ، فيغفرُ لكلِّ مسلمٍ لا يشرك باللهِ شيئًا؛ إلا رجلٌ بينهُ وبينَ أخيهِ شحناءُ».[صحيح مسلم:ح36]
يعني مخاصمة ومفاصلة ومنازعة تغلظ فيها القلوب ويتهاجر بها الناس، فيقول الله دعوا هذين حتى يصطلحا هذا في صحيح الإمام مسلم.
هذا العرض الذي تقدم هو بيان أن الأيام والأشهر كلها مما جرى فيها اختصاص لبعض الزمان بفضائل، وأنت إذا نظرت حتى في اليوم والليلة تجد أن الله تعالى خص بعض الوقت بفضيلة ليست لسائر الوقت في اليوم ذاته، ففي اليوم في البكور والآصال من الفضائل ما ليس في غيره من الزمان، فهي محال لذكر الله تعالى، ولذلك قال: ﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾[الأحزاب: 42]، أوقات الصلوات المفروضات المكتوبات ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾[الإسراء: 78]، هذا تخصيص لهذه الأوقات بهذه الفضائل في الثلث الأخير من الليل، خصه الله تعالى بفضيلة ليست لغيره، وهي أنه زمان التنزل الإلهي، فيقول الله تعالى: «هل من داع فأجيبه، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له».[حديث أبي هريرة أخرجه الإمام مسلم في صحيحه(ح:758/172), وفيه: إِنَّ اللهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ، نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ "]
كل هذا يفيد المؤمن أن الله تعالى يصطفى من الزمان ويختار منه ما يشاء، فيجعله محلًّا للطاعة والقربة والإقبال عليه، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحرص على اغتنام ما جعله الله تعالى فرصة للتقرب إليه ومنحه بفضله برهة وزمانًا يكون سببًا للقرب منه، والسعي في مرضاته جل في علاه.
هذا مما تفيده هذه التخصيصات أيضًا مما ينبغي أن يستفيد منه المؤمن من هذه الجملة التي استعرضناها في تخصيص الله –عز وجل- الزمان بما خصه به من الاختيار والاصطفاء، أن الاصطفاء إلهي وليس شيئا يقترحه الناس، إنما هو مستفاد من الوحي، بمعنى أنه لا يسوغ لأحد ولا يجوز لأحد أن يخص زمانًا بشيء من الفضائل لم يأت، أو الخصائص لم تأت في كتاب الله ولا سنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-، بل يجب على المؤمن أن يكون في ذلك متبعًا؛ لأن هذه الفضائل وهذه التخصيصات هي هبات إلهية، وهي عطايا ربانية، وهي اختيار إلهي لا يسوغ لأحد أن يتقدم فيه بين يدي الله، وأن يفتئت على رسوله بتخصيص شيء لم يأت به تخصيص.
ولهذا المؤمن في هذه الاصطفاءات وهذه الاختيارات وهذه الفضائل يتبع ولا يبتدع ويجري في ذلك على نحو ما شرع الله –عز وجل-دون أن يُحدث من قِبَل نفسه شيئًا من ذلك الإحداث الذي يخرج به عن الصراط المستقيم، وعن هدي سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه.
فقد قال –صلى الله عليه وسلم-: «مَن أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ»[صحيح البخاري:ح2697]، وأنت إذا نظرت إلى أحوال الناس، وإلى رغبات بعضهم وجدت أنه يجعل لهذا اليوم هذه الخاصية، ولهذا الشهر هذه الفضيلة، ولهذا الزمان هذه الميزة، ثم إذا فتَّشتَ وسألته أو بحثت معه أو ناقشته ما مستندك؟ ما دليلك على هذا التخصيص، وهذا التفضيل، وهذا التمييز؟ لم ترجع منه ببينة ولا برهان، إما أن يكون ذلك على وجه الاختيار والتشهِّي الذاتي، أو يكون ذلك مستندًا إلى أحاديث ضعيفة أو موضوعة، وكل ذلك لا يصلح أن يعتمد في إثبات خاصية أو فضيلة لزمان من الأزمنة، أو مكان من الأماكن، أو لشيء من الأشياء، فالتفضيل والتخصيص المضاف إلى الشرع سواء كان زمانًا أو مكانًا أو شخصًا أو عملًا ينبغي أن يكون فيه الإنسان منقادًا لأمر الله ورسوله، متبعًا مهتديًا بهدي سيد الورى، وليس مقترحًا أو مخترعًا أو مبتدعًا فذاك كله من سبل الضلال والخروج عن الصراط المستقيم.
المقدم: فضيلة الشيخ اسمح لي بإضافة بسيطة قبل أن تكمل حديثك، لو تكرمت حتى في موضوع التخصيص أن الله –تبارك وتعالى-يخصص من الأزمان ومن الأمكنة أيضًا ما يشاء ويختار –سبحانه- حتى على مستوى العبادات، ففي أوقات معينة تكون بعض العبادات مخصصة وتكون أفضل من غيرها في هذا الوقت المحدد، يعني التحديد يشمل حتى العبادات، والتفضيل يشمل كل أمور الحياة؛ لأن هذا من سنن الله –تبارك وتعالى-في سنن هذا الكون.
الشيخ: نعم هو كذلك، التخصيص نحن ذكرنا في الجملة أن التخصيص يكون للزمان والمكان والشخص والعمل، ومثَّلنا بمثال بين يدي الحديث عن شعبان وما فيه من خصائص الأعمال بالزمان على وجه التحديد، وإلا فمثل ما تفضلت الخصائص لا تقتصر على التخصيص الزماني، بل تخصيص مكان، ومن ذلك تخصيص البلد الحرام بهذه الفضيلة، تخصيص عرفه بالمجيء مع أنها في الحل وليست في الحرم، وتخصيص المساجد في كل بقاع الدنيا فهي أحب البلاد إلى الله.
هذه التخصيصات الإلهية، تخصيص بيت المقدس، تخصيص المدينة بهجرة النبي –صلى الله عليه وسلم-، تخصيص مسجد النبي –صلى الله عليه وسلم-بكون الصلاة بألف صلاة، وهلم جرًّا، كل هذه التخصيصات تستند إلى أدلة ويجري فيها المؤمن على الأصل الذي لا ينبغي أن يغيب عنه، وربك يخلق ما يشاء ويختار، فالخلق له والاختيار له جل في علاه.
المقدم: فضيلة الشيخ ذكرت أن المسلم ينبغي أن يكون متبعًا لهدي ونهج النبي -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- فيما ورد من الشرائع والأعمال المتعلقة بعبادات الله –تبارك وتعالى-، وأن يبتعد عن كل ما يكون مبتدَعًا ويكون ضلالة.
فضيلة الشيخ! نريد أن نتحدث عن الأعمال التي اختص بها شهر شعبان، وكان النبي -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- يكثر من هذه الأعمال في هذا الشهر الكريم في شهر شعبان.
الشيخ: شعبان شهر من الأشهر الاثني عشر التي ذكرها الله –عز وجل-في قوله: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾[التوبة: 36]، وهو في ترتيب الأشهر الهجرية الهلالية هو الشهر الثامن، وهو بين شهرين لهما فضل: شهر رجب، وهو أحد الأشهر الحرم، وهو الشهر المحرم الفرد، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-:«رجب مُضَر»[صحيح البخاري:ح3197]، عندما عد الأشهر الحرام، وبين رمضان الذي هو شهر الطاعة والإحسان، وشهر نزول القرآن الذي تفضل به الله تعالى على البشر بإنزال هذا الكتاب العظيم، وهو شهر الصيام، فهذا الشهر جاء بين شهرين فضيلين؛ شهر حرام، وشهر إنزال القرآن.
ولا شك أن الزمان وسائر الأشياء قد تكتسب فضلها بالمجاورة، ولهذا كان هذا الشهر شهر شعبان اكتسب هذه الميزة بكونه بين هذين الشهرين اللذين خصهما الله تعالى بما خصهما به، خص رجب بتحريم، وخص رمضان بإنزال القرآن وفرض الصيام.
شعبان هو من الأشهر التي ورد عن النبي –صلى الله عليه وسلم-تخصيصها بعمل، فأبرز عملًا خاصًّا بهذا الشهر هو الاشتغال بالصيام، ففي الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: «وما رأيتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- استَكْمَلَ صيامَ شَهرٍ قَطُّ إلَّا رمضانَ» أي أنه لم يثبت عنه في نظر عائشة وعلمها ومعرفتها بأعمال النبي –صلى الله عليه وسلم-أنه صام شهرًا كاملًا من هلاله إلى هلاله إلا رمضان، قالت -رضي الله تعالى عنها-: «وما رأيتُه في شَهرٍ قَطُّ أكثَرَ صيامًا منه في شَعبانَ»[صحيح البخاري:ح1969]يعني أنه كان يصوم شعبان –صلى الله عليه وسلم-أكثر من غيره من الأشهر، ويخص شعبان بكثرة صيامه وقد أخبرت -رضي الله تعالى عنها- أنه كان يصوم شعبان إلا قليلًا، حيث قالت: «وما رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ استَكْمَلَ صيامَ شَهرٍ قَطُّ إلَّا رمضانَ وكانَ يصومُ شعبانَ إلَّا قليلًا»[صحيح مسلم:ح1156/176]، يعني إلا قليلًا من أيامه كان يفطرها –صلى الله عليه وسلم-، وفي بعض الروايات كان يصوم شعبان كله.
فقولها -رضي الله تعالى عنها-:«كان يصوم شعبان كله»أي غالبه كما بينت ذلك في الرواية الأخرى حيث أنها قالت: «كان يصوم شعبان إلا قليلًا»،أو أنه فعل ذلك في بعض الزمان، على أن هذا لا يستقيم مع نفيها -رضي الله تعالى عنها- أن النبي –صلى الله عليه وسلم-استقبل صيام شهر غير رمضان.
وبالتالي الهدي الثابت، الهدي النبوي الثابت عنه –صلى الله عليه وسلم-فيما يتعلق بشعبان هو كثرة صيام أيامه حتى يوشك أن يستكمل الشهر، ولا يترك منه إلا شيئًا قليلًا، وهذا هو هدي النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وقد جاء في الصحيح من حديث ابن عباس أن النبي –صلى الله عليه وسلم-لم يستكمل صيام شهر قط غير رمضان، وهذا يؤيد ما ذكرته عائشة رضي الله تعالى عنها.
فمن السنن المشروعة للمؤمن في شعبان أن يكثر من صيامه، وأن يجتهد في صوم ما فتح الله تعالى عليه من أيام هذا الشهر المبارك، أو من أيام هذا الشهر الذي هو بين شهرين مباركين؛ شهر حرام، وشهر رمضان الذي أنزل الله تعالى فيه القرآن، ويتحقق هذا بالنسبة لعموم الناس أن يزيد في الصيام على المعتاد من عمله من استطاع أن يصوم أكثره، فذاك هو هدي النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في هذا الشهر، ويتحقق صيام أكثره بأن يتجاوز النصف في صيامه، فيكون قد صام أكثر شعبان بأن يصوم مثلا ستة عشرة يومًا فإنه من صام ستة عشرة يومًا من هذا الشهر صام أكثر شعبان.
ويمكن أن يحقق المؤمن هذه الفضيلة على حسب عمله، فمن كان لا يصوم بالمطلق إلا من رمضان إلى رمضان فليجتهد في صيام ولو يوم واحد ليكون قد خص هذا الشهر بالصوم، أو بصوم بعض أيامه كما كان يفعل النبي –صلى الله عليه وسلم-من جهة تخصيص شعبان بكثرة صيامه –صلى الله عليه وسلم-، ومن كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر فليزد يومًا، ومن كان يصوم الاثنين والخميس والأيام البيض ليزد على ذلك ما يكون به محققًا أنه لا يصوم في شهر من الأشهر أكثر منه في شعبان حتى يتحقق له السنة من جهة الإجمال، ومن جهة عموم الهدي النبوي، وإن كان لم يصم أكثر الشهر.
فالمقصود أن العمل الثابت عنه –صلى الله عليه وسلم-في هذا الشهر هو كثرة صيامه، ويشمل هذا الكثرة من أوله إلى آخره، وما جاء من النهي عن الصيام ما بعد النصف من شعبان في قوله –صلى الله عليه وسلم-وفيما ورد عنه من حديث أبي هريرة «إذا انتصف شعبان فلا تصوموا»[سنن أبي داود:ح2337، قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ لَا يُحَدِّثُ بِهِ(سنن البيهقي:7962)] هذا الحديث جمهور المحدثين على أنه لا يصح من حيث الإسناد، أي أنه حديث ضعيف.
فإذا كان ضعيفًا فلا يثبت به حكم، وقال آخرون إنه ثابت وحملوا النهي على من لم يصم من أول الشهر فقالوا: من لم يصم من أول الشهر فإنه لا يصوم بعد انتصافه.
والذي يظهر أن الحديث لا يثبت، وأنه لا يصح نهي عن صيام ما بعد منتصف شعبان، والذي ثبت به النهي ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «لا تقَدَّموا بينَ يدَيْ رمضانَ بيومٍ أو يومينِ إلَّا رجلٌ كان يصومُ صيامًا فليصُمْه»[صحيح البخاري:ح1914، ومسلم:ح1082/21] يعني النهي إنما هو عن تقدم رمضان احتياطًا له بصوم يوم أو يومين، أما إذا كان الإنسان يصوم اليوم أو اليومين قبل رمضان في صيام يصومه مثل شخص يصوم يوم ويفطر يوم، أو شخص يصوم القضاء وبقي عليه يوم أو يومين فصامهما قبل رمضان بيوم أو يومين هذا لا يدخل في النهي؛ لأن النهي إنما هو عمن تقدم صوم رمضان بصوم يوم أو يومين احتياطًا لرمضان.
وأما من صامه في صيام يصومه إما مفروضًا أو متنفلًا متطوعًا به، فلا يدخل في النهي لقوله-صلى الله عليه وسلم-«لا تُقدِّموا رمضانَ بصومِ يومٍ ولا يومينِ إلا أن يُوافقَ ذلك صومًا كان يصومُهُ أحدكم»[سبق]، أي فليصم، ولا يمتنع من تقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين.
هذا مجمل ما جاء من الأحاديث فيما يتعلق بصيام هذا الشهر الذي هو شهر شعبان، السنة أن يصوم أكثره، ولم يثبت نهي في الصيام عن الأيام بعد منتصفه، وإنما ثبت النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، يعني يوم التاسع والعشرين والثلاثين من شعبان، إلا أن يكون شخص له صيام معتاد أو له صيام مفروض فيبادر إلى صيامه.
كما أنه ينبغي أن يعتني المؤمن بالمبادرة إلى قضاء ما عليه من الصيام المفروض الواجب، فإذا كان عليه صيام أيام من رمضان الماضي أفطرها لعذر كمرض أو سفر، فإنه ينبغي له أن يبادر إلى قضاء ما عليه من الأيام في هذا الشهر الذي هو بين يدي رمضان لما جاء من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت -رضي الله تعالى عنها-: «كانَ يَكونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِن رَمَضَانَ» يعني عليها أيام من رمضان لم تصمها فأخبرت -رضي الله تعالى عنها- «وَذلكَ لِمَكَانِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ»[صحيح البخاري:ح1950، صحيح مسلم:ح1146/151] يعني للشغل بالنبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
فينبغي للمؤمن أن يبادر إلى صيام ما عليه من أيام، فقد قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾[البقرة: 184]، وهذه عائشة تقول:«كان يكون علي الصوم من رمضان بسبب العذر فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان»ثم ذكرت السبب الشغل بالنبي –صلى الله عليه وسلم-، يعني كانت تشتغل بحوائجه وما يحتاجه -صلوات الله وسلامه عليه- فيحول ذلك بينها وبين أن تصوم القضاء قبل شعبان.
فينبغي للمؤمن أن يبادر إلى القضاء، وجمهور العلماء على أن القضاء قضاء الصيام السابق من رمضان الماضي يجب أن يكون قبل رمضان القادم، فمن عليه صيام يستعين بالله –عز وجل-ويقضي ما عليه من الأيام، إذا أخَّر لعذر بأن كان مريضًا، أو لم يتمكن ولم يستطع الصيام لعذر من الأعذار فيما بقي من الأيام بين يدي رمضان فإنه يقضيه بعد ذلك، ولا يسقط القضاء ببلوغ رمضان بل إجماع العلماء منعقد وثابت أنه يجب القضاء حتى بعد رمضان القادم إذا فوَّته لعذر، ولا شيء عليه.
وأما إذا فوته لغير عذر فجمهور العلماء على أنه يجب على من فوَّت القضاء ما بين رمضانين، قضاء رمضان السابق فوته عن رمضان القادم فلم يصمه لغير عذر، فجمهور العلماء يوجبون مع القضاء الإطعام[مذهب الشافعية، والمالكية، والحنابلة.انظر المجموع(6/412)، والمحلى(6/260)، المغني(3/153)]، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجب إلا القضاء، وهذا الأقرب إلى الصواب[ذهب إليه أبو حنيفة وابن حزم، والشوكاني، وابن عثيمين. انظر البحر الرائق لابن نجيم(2/307)، والمجموع(6/412)، والمحلى(6/260)]، وأن الإطعام مستحب وليس واجبًا، مستحب لثبوته عن جماعة من أصحاب النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
هذا ما يتصل بما خص به هذا الشهر من الصوم، خلاصته: سنية صيام أكثر هذا الشهر، وهذا عام لكل أحد، ولا ينهى عن التنفل والتطوع بصيام هذه الأيام أيام شعبان إلا ما كان قبل رمضان بيوم أو يومين، وذلك لمن صام احتياطًا لرمضان.
أما من صامه في صيام يصومه من فرض أو نفل، فإنه لا ينهى عنه، هذا ما يتصل بالتطوع، وأما ما يتصل بالفرض فشعبان محل للمبادرة إلى قضاء ما عليه من الصيام الواجب من رمضان السابق لقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾[البقرة: 184]، وما جاء عن عائشة قالت -رضي الله تعالى عنها- كما في صحيح البخاري: «كانَ يَكونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِن رَمَضَانَ، فَما أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إلَّا في شَعْبَانَ، الشُّغْلُ مِن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ».[سبق]
المقدم: فضيلة الشيخ بارك الله فيكم في نقطة أخيرة قبل أن ننتقل بحديثنا عن الصوم هل يصح دمج نيتين للصائم في شهر شعبان؟ بحيث يكون قضاء ويكون نافلة يستن بسنة النبي -عليه الصلاة والسلام- في صيامه شهر شعبان؟
الشيخ: من كان عليه صوم واجب وقضاه في يومٍ صيامُه له خاصيةٌ وفضيلة فيُرجى أن يدرك براءة ذمته من الواجب الذي عليه وفضيلة صيام هذا اليوم الذي جاء في صومه فضل خاص، فمثلا من كان عليه أيام قضاء من رمضان السابق وصامه في شعبان في يوم الاثنين أو في يوم الخميس، وهما يومان جاء في فضلهما الندب إلى صيامهما وكذلك في أيام البيض، فإنه يدرك الفضيلة الخاصة بذلك اليوم لكونه تحقق بالصوم ولو لم يكن هذا الصوم متطوعًا به إنما هو الواجب.
فمن صام ما عليه من القضاء في يوم الاثنين والخميس كان ذلك أعظم أجرًا من صيامه في غيره من الأيام التي لم يرد فيها فضيلة خاصة، ليدرك الفضيلتين؛ فضيلة براءة الذمة من الواجب، وفضيلة ما جاءت به الفضيلة في صيام هذه الأيام، والله كريم منان.
المقدم: بارك الله فيكم فضيلة الشيخ هذا فيما يتعلق بالصيام في شهر شعبان الذي يقع بين شهرين كريمين بين شهر رجب وشهر رمضان، لكن في شهر شعبان يكثر الحديث عن ليلة النصف من شعبان هل ورد فيها فضل خاص ومزِيَّة خاصة عن النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم أم لا؟
الشيخ: إن أذنت لي أخي وائل قبل أن نتكلم عن هذه المسألة وهي مسألة هل هناك خاصية لليلة النصف من شعبان؟ يتبادر إلى الذهن سؤال وهو لماذا خص النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-شعبان بهذه الخاصية وهي كثرة الصيام فيه؟
الجواب على هذا السؤال لماذا خص شعبان بكثرة الصيام فيه، فالنبي –صلى الله عليه وسلم-لم يكن يستكمل صيام شهر قط، وتقول عائشة: «ما رأيته يصوم في شهر أكثر منه في شعبان»[سبق]، مع أنه ندب إلى صيام المحرَّم فقيل له: أي الصيام أفضل بعد رمضان قال: «شهر الله المحرم».[صحيح مسلم:ح1163/203]
العلماء ذكروا في علة ذلك عددًا من الأقوال، فقيل: إن شعبان شهر تعرض فيه الأعمال على الله تعالى، فلذلك كان يكثر من صيامه؛ لأنه –صلى الله عليه وسلم-يحب أن يعرض عمله وهو صائم، وهذا الحديث أو هذا التعليل لابد له من مستند ودليل يستند إليه، وليس ثمة ما يدل على هذا التخصيص في شهر شعبان، وأنه تعرض فيه الأعمال.
فهذه العلة غير صحيحة؛ لأنه ما في دليل يدل على أن شعبان محل لعرض الأعمال، بل هو كسائر الأشهر.
قيل في علة كثرة الصيام في شعبان أنه كان –صلى الله عليه وسلم-في سائر الأشهر يحصل منه سفر واشتغال بمصالح الناس وخروج في سبيل الله –عز وجل-بالجهاد وغيره من الطاعات والأعمال، فتفوته في بعض الأشهر سنن صيام ثلاثة أيام من كل شهر ونحو ذلك، فكان يمر عليه الشهر وقد لا يصوم شيئا منه، فكان –صلى الله عليه وسلم-يقضي ما فاته من الصيام في هذا الشهر في شهر شعبان، أي يقضي ما فاته من صيام النفل والتطوع في شهر شعبان، هكذا ذكر ذلك بعض أهل العلم.
وهذا يعني يحتاج إلى إثبات من جهة أنه هل يشترط فيها ما فات من النوافل لا دليل على ذلك، ولكن هذا ما ذكره بعض أهل العلم في علة كثرة صيامه في شعبان.
القول الثالث وهو الأقرب في علة صيامه –صلى الله عليه وسلم-، وكثرة الصيام في شعبان: أن صيام شعبان يشبه السنة بين يدي الفرض؛ فإن صيام شعبان بين يدي رمضان، ورمضان صومه فرض واجب، كما قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾[البقرة: 185]، فصومه فرض فرضه الله تعالى، فكان صيام شعبان بين يدي رمضان هو كالسنة التي تكون قبل الفريضة، ويكون في ذلك من تهيئة النفس وترويضها وتقوية البدن على الصوم ما يجعل الإنسان متهيأ في صيامه لرمضان بخلاف الذي آخر عهده بالصيام رمضان الماضي، فيأتي أول يوم من أيام رمضان ولم يكن له عهد بصيام بين رمضانين يجد من المشقة ويجد من الكلفة ما لا يجده من اعتاد على الصوم، وتدرب عليه، ومُرِّنت نفسه على القيام به، وهذا التهيئة والإعداد ثابت في الصلاة، فقد جاء عن النبي –صلى الله عليه وسلم-أنه قال كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مغفل: «بينَ كلِّ أذانينِ صلاةٌ»[صحيح البخاري:ح624] يعني بين كل أذان وإقامة صلاة، فندب إلى الصلاة المتطوعة بها صلاة الناس إلى قبل الفريضة لما في ذلك من تهيئة النفس وإعدادها وتقويتها على الإقبال على الطاعة والإحسان.
هذا ما ذكره العلماء -رحمهم الله- في علة كثرة صيام النبي –صلى الله عليه وسلم-في شعبان، فأقرب ما يقال من العلل التي ذكرت والحكم في صوم النبي –صلى الله عليه وسلم-شعبان: أنه تهيئة للنفس قبل صيام الفرض، وهو صيام رمضان، وتعويد لها على أن تشتغل برمضان، حتى إذا جاء الفرض كانت الناس قد تهيأت واستعدت وتدربت على الصيام، فلا تجد مشقة ولا عناء في أداء الفرض على أكمل ما يكون من استقامة وقوة وإقبال على الطاعة والعبادة، نسأل الله تعالى أن يستعملنا وإياكم في طاعته، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
المسألة التي أشرت إليها أخي الكريم هل لشعبان خاصية دون سائر الأيام تتعلق بليلة النصف منه، وما جاء من الأقوال في تخصيصها بفضيلة دون سائر الليالي والأيام، ليلة النصف من شعبان ليلة اختلف العلماء رحمهم الله هل لها فضيلة تخصها أو لا؟
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه ليس لليلة النصف من شعبان فضيلة خاصة، ولا يشرع تخصيصها بشيء من العبادات، لا بقيام ولا بصدقة ولا بأي نوع من أنواع القربات، فهي ليلة كسائر الليالي، وهذا ما ذهب إليه جماهير العلماء من السلف والخلف، به قال عطاء، وابن أبي ملكيه، وعبد الرحمن بن زيد، وهو ما ذهب إليه الإمام مالك، والشافعي، وغيرهم، وأن هذه الليلة ليس لها أي ميزة، ولم يثبت لها أي خاصية دون سائر الليالي، وبالتالي لا يشرع تخصيصها بالقيام ولا يشرع تخصيص يومها بصيام.
والقول الثاني ذهب إليه جماعة من أهل العلم أن ليلة النصف من شعبان ليلة فضيلة تستوجب عناية بها وتعظيمها، وإلى هذا ذهب بعض أهل الشام من العلماء كخالد بن معدن ومكحول وبه قال جماعة من الحنيفة واستحبوا إحيائها للمنفرد فقط، يعني استحبوا أن يخصها بقيام لكن على وجه الانفراد لا على وجه الجماعات وإظهار ذلك.
والذي يترجح من هذين القولين هو:أنه ليس لليلة النصف من شعبان فضيلة، فلم يثبت فيها شيء من الأحاديث الواردة في فضيلتها، ومن المعلوم كما تحدثنا في أول اللقاء أنه لا يسوغ لأحد أن يخص زمانًا بفضيلة قَدَرية أو بفضيلة شرعية إلا بدليل، وبالتالي مرجع إثبات فضيلة ليلة النصف من شعبان إلى ثبوت الدليل، فإذا ثبت الدليل فسمعًا وطاعة، وإذا لم يثبت الدليل فلا يثبت لها شيء من الفضائل بل هي كسائر الليالي، وما جاء من أن الله تعالى يطلع على أهل الأرض في هذه الليلة فيغفر لجميع عباده إلا لمشرك أو مشاحن، فالمحققون من أهل العلم يضعفون كل ما ورد من الأحاديث في ذلك الشأن، وما جاء من فضل أن عرض الأعمال ومغفرة الذنوب هي في هذه الليلة فيشرع قيامها، وفي ذلك اليوم فيشرع صيامه لا يستند إلى علم أو إلى حديث صحيح، بل الوارد في ذلك كله ضعيف.
ويقال أيضًا: هذه الفضيلة وهي عرض الأعمال على الله تعالى والندب إلى ترك الشحناء ليست خاصة بليلة في الزمان، ليلة في السنة، بل هي في كل أسبوع في موضعين:
في يوم الاثنين ويوم الخميس كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في صحيح الإمام مسلم قال –صلى الله عليه وسلم-:«تُعْرَضُ الأعمالُ في كل يومَ الاثنينِ والخميسِ» يخبر النبي –صلى الله عليه وسلم-عن عرض أعمال العباد على الله –عز وجل-في كل يوم خميس واثنين، فيغفر الله –عز وجل-في ذلك اليوم يعني يوم الاثنين ويوم الخميس لا يشرك بالله شيئًا أي لكل موحد إلا امرئ كان بينه وبين أخيه شحناء، يعني بينهما تشاحن وتدابر ملأ قلب كل واحد منهما على أخيه بما يوجب الهجر والقطيعة، فيقال «ارْكُوا هذين حتى يَصْطَلِحا»[صحيح مسلم:ح2565/36] يعني اتركوا هذين حتى يصطلحا، يعني أخِّروا هذين حتى يصطلحا، فهذه الفضيلة ليست لليلة النصف من شعبان، بل هي لكل يوم خميس واثنين من كل أسبوع.
فلماذا يترك المؤمن الفضيلة الثابتة بالنص الصحيح عن النبي –صلى الله عليه وسلم-، والتي تتيسر له في الأسبوع مرتين ويذهب إلى طلب فضيلة لم يثبت بها نص صحيح في ليلة النصف من شعبان في السنة مرة واحدة، هذا نوع من التفريط في هِبات وعطايا قائمة متيسرة واشتغال بما لم يثبت به نص ولا دليل.
أيضًا فيما يتعلق بليلة النصف من شعبان ما جاء من أنها ليلة يوحي الله تعالى فيها إلى ملك الموت بقبض كل نفس يريد قبضها في تلك السنة أيضًا هذا ليس صحيحًا، ولا يستند إلى أصل، فما قيل من أن الله تعالى يوحي ليلة النصف من شعبان إلى ملك الموت بقبض كل نفس يريد قبضها في تلك السنة، وأنها ليلة تقطع الآجال فيها من شعبان إلى شعبان كلها أحاديث ضعيفة لا يصح الاحتجاج بها.
وما جاء من تخصيص ليلة النصف من شعبان بقيام، وتخصيص يومها بصيام فهو حديث ضعيف جدا لا يصح الاعتماد عليه، ففي سنن ابن ماجه من حديث علي -رضي الله تعالى عنه- روي أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «إذا كانت ليلةُ النِّصْفِ من شعبانَ فقوموا لَيْلَها، وصوموا نهارَها، فإن اللهَ يَنْزِلُ فيها لغروبِ الشمسِ إلى سماءِ الدنيا فيقولُ: أَلَا مِن مُسْتَغْفِرٍ لي فأَغْفِرَ له ؟ أَلَا مِن مُسْتَرْزِقٍ فأَرْزُقَهُ ؟ أَلَا مُبْتَلًى فأُعافِيَهُ؟ أَلَا كذا أَلَا كذا؟ حتى يَطْلُعَ الفجرُ»[سنن ابن ماجه:ح1388] هذا الحديث ضعيف جدا، وأقول كما قلت فيما يتعلق بعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، وترك المشاحنة للفوز بمغفرة الله –عز وجل-أقول في هذا النزول الإلهي الذي ذكر في هذا الحديث الضعيف هو مما أتاحه الله تعالى وتفضل به على المؤمن في كل ليلة من ليالي الزمان، ففي كل ليلة ينزل ربنا -جل في علاه- في ثلث الليل الآخر فيقول -جل في علاه-: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيبه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هذا النزول الإلهي الذي جاء به الحديث ثابت عنه في الصحيحين في البخاري ومسلم من قوله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:«ينزل ربنا –تبارك وتعالى-إلى السماء الدنيا كل ليلة»ليس ليلة في الزمان بل كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: «من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له حتى ينفجر الفجر»[صحيح البخاري:ح1145، صحيح مسلم:ح758/168] أي حتى يطلع الفجر ويتبين.
وبالتالي ينبغي أن نغتنم ليالي الزمان كلها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وألا نقتصر في الفضائل على ما فيها ضعف، أو ما لم يثبت به نص، أو ما لا دليل فيه، فإن ذلك يوجب التفريط في الفضائل الثابتة والاشتغال بما لم يثبت، ولا شك أن أكمل الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-، وأوفى الطرق في إيصال العبد إلى مرضاة ربه ما كان عليه –صلى الله عليه وآله وسلم-، فلم يثبت لليلة النصف من شعبان فضيلة خاصة لا قدرية ولا شرعية، فليست ليلة تقطع فيها الآجال، ويقضى فيها ما يكون من أقضية الموت التي تكون ما بين شعبان إلى شبعان القادم، وليس لها فضيلة من تخصيص جهة مغفرة الذنوب وحط الخطايا، بل هي ليلة كسائر الليالي، فنسأل الله أن يستعملنا في طاعته، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
المقدم: آمين نسأل الله –تبارك وتعالى-أن يرزقنا هدي النبي الأكرم -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-، وأن يلهمنا رشدنا إنه جواد كريم، شكرا جزيلا فضيلة الشيخ، شكر الله لك، وبارك الله فيك على ما أجدت به وأفدت في هذه الحلقة.
الشيخ: آمين، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد.