الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين، في باب عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ عن النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «الكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْس، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ»رواه البخاري. حديث رقم (6675)
فذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث أربعة أمور هي من كبائر الإثم وعظائم الذنب فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «الكَبَائِرُ» أي عظيم الذنوب وكبيرها، والكبائر هي كل ذنب عظمه الشارع وغلظَّ فيه وبين شدة عقوبته ووخيم عاقبته مما جاءت فيه عقوبة دنيوية بحدٍ أو عقوبة أخروية بلعنٍ أو طردٍ أو براءةٍ أو منعٍ من دخول الجنة أو نحو ذلك.
وعدَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أول ما عدَّ من الكبائر الإشراك بالله، والإشراك بالله هو تسوية غير الله ـ تعالى ـ بالله سواء كان ذلك في ربوبيته أو كان ذلك في أسمائه وصفاته أو كان ذلك في إلهيته، فكل هذا من الإشراك به.
إذ الإشراك حقيقته تسوية غير الله بالله في كل ما هو من خصائصه ـ جل في علاه ـ ومن ذلك إشراك غيره به في حقه وهو أن يعبد وحده لا شريك له سبحانه وبحمده، ولا شك أن الشرك أعظم الذنوب وأخطرها وهو أكبر ما يُعصى به الله ـ عز وجل ـ ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:13] ولعظمه وخطورته، فإن الله ـ تعالى ـ لا يغفره ممن لم يتب منه، قال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:48].
ثم ذكر ـ صلى الله عليه وسلم بعد الشرك قال: «وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ»، عقوق الوالدين أي قطع برهما وقطع الإحسان إليهما وقطع الحق الواجب لهما، والوالدان هما الأب والأم المباشران، وكذلك آبائهم وأمهاتهم، فإن الآباء والأمهات من الأجداد والجدات يصدق عليهما هذا الوصف.
وعقوق الوالدين: ترك القيام بحقهما سواء كان ذلك بترك ما يجب لهما من الإحسان في القول، أو من الإحسان في العمل والمعاملة، ولا شك أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر كما تقدم في حديث أبي بكرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ حيث قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ألا أُنَبِّئُكُمْ بأكْبَرِ الكَبَائِرِ ؟»قالوا بلى يا رسول الله قال: «الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ» فذكر ما قدم ذكرهما في هذا الحديث «الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ».
ثم عطف عقوق الوالدين على الإشراك بالله؛ لأنه أعظم بخسٍ في حقوق الخلق بخس الوالدين حقهما، ولهذا قال ـ تعالى ـ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء:23]، وهنا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يتعلق بالكبائر، قال: «الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ»، ثم قال: «وَقَتْلُ النَّفْس»أي قتل النفس المحرمة المعصومة التي لا يجوز الاعتداء عليها من مسلمٍ أو كافر ما دام أنه معصوم الدم فالواجب صيانة دمه عن الإهدار.
والله ـ تعالى ـ قد عدَّ قتل النفس المحرمة ذنبًا عظيمًا، قال ـ جل وعلا ـ:﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الفرقان:68] فيشمل كل نفس حرمها الله ـ تعالى ـ وهي الأنفس المعصومة، فلا يجوز شيء من الاعتداء على دمٍ محرم بأي وجهٍ كان، وأعظم ذلك القتل.
ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَاليَمِينُ الغَمُوسُ» وهذا رابع الذنوب التي ذكرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الكبائر في هذا الحديث، واليمين الغموس هي اليمين الكاذبة، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن اليمين الغموس هي الحلف كاذبًا متعمدًا على أمرٍ ماضٍ، كأن يقول: والله فعلت ولم يكن قد فعل، والله لم أفعل وهو قد فعل، فإذا حلف على شيءٍ ماضٍ كاذبًا متعمدًا، فإنه قد تورط في اليمين الغموس، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن اليمين الغموس تشمل الكذب على الماضي المتعمد الكذب فيه، وعلى ما لم يتيقن صدقه فيه مما حلف عليه، فإنه يدخل في اليمين الغموس على قول هؤلاء.
وأضاف بعضهم وهذا مذهب الحنفية، وأضاف المالكية أيضًا الحلف كاذبًا على أمرٍ حاضر في الحال، فإنه يشمل المعنى أي تشمله اليمين الغموس، والأقرب ـ والله تعالى أعلم ـ في اليمين الغموس أنها اليمين على أمرٍ كاذبٍ في الماضي متعمدًا، فهذا هو الذي يغمس صاحبه في الإثم، وهي من كبائر الذنوب وعظائم الإثم.
ولهذا ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أنه لا كفارة فيها، ليس لأنها سهلة أو هينة؛ بل إن من الذنوب عظيمٌ كبير، ومع هذا لم يرد فيه كفارة، فليس فيه كفارة ولذلك بلغ هذا الحد الذي أنه لا يكفره شيء إلا التوبة إلى الله ـ عز وجل ـ والندم على ما مضى.
فإن كان في اليمين الغموس اقتطاع مال حرام أو أخذ ما لا يستحق الإنسان أو إسقاط حق واجب عليه كان ذلك أعظم، فتكون ظلمات بعضها فوق بعض، فيكون الإثم محيطًا بالإنسان من كل جانب من جهة اليمين التي استخف فيها بمن حلف به، وهو الله ـ عز وجل ـ حيث حلف به كاذبًا، ومن جهة أكل المال بغير حق.
لكن اليمين الغموس أوسع من أن تكون محصورة في اقتطاع مالٍ محرم، لتشمل كل يمينٍ كاذبةٍ على أمرٍ ماضٍ متعمدًا، ولعظمها لا كفارة فيها عند جمهور العلماء، وخالف في ذلك الشافعي ورواية في مذهب أحمد، فأثبتوا فيها الكفارة، هذه الكبائر التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأربعٍ من الكبائر ليس حصرًا؛ لأنه مما يُعلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عدَّ هذه الأمور من الكبائر، فقد أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما أخبر به عن قول الزور وشهادة الزور، وعدها من أكبر الكبائر ولم تذكر في هذا الحديث، فالحديث ليس غرضه ولا غايته حصر الكبائر عدًا وذكرًا، إنما هو ذكر جملة من الكبائر، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يختلف بيانه من موقعٍ إلى آخر ومن حالٍ إلى أخرى ومن مخاطب إلى مخاطب مراعاةً لأمور مختلفة ويزيد في البيان في أحيان ويختصر في ما تقتضيه الحال ويُعلم ما يدخل في الكبائر من مجموع ما أخبر به ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إما بالنص أو المعنى.
ولهذا قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لما سئل الكبائر سبع؟ استنادًا إلى حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ «سبعٌ من الموبقات»، هل الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعين أقرب، يشير بذلك إلى أنها أكثر من أن تحصى، فحصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للكبائر بهذه الأربعة أمور ليس قصرًا، إنما هو ذكرٌ لجملة من الكبائر التي احتاج إلى بيانها في ذلك المقام، فكان ما بينه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قوله:«الكَبَائِرُ: الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْس، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ».
والواجب على المؤمن أن يحذر الكبائر والصغائر، وأن يجتنب الإثم صغيره وكبيره ظاهره وباطنه، وليستعن بالله ـ عز وجل ـ فإن ذلك مما يحفظه من التورط في السيئات وأن تحيط به خطيئته فيهلك، أجارنا الله ـ تعالى ـ وإياكم من دقيق الذنوب وكبيرها وجليلها، ومن صغيرها وكبيرها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.