الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آه وأصحابه أجمعين، أما بعد:
نقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين في باب عقوق الوالدين وقطيعة الرحم:-
عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «مِنَ الكَبَائِر شَتْمُ الرَّجُل وَالِدَيهِ !» قالوا: يَا رَسُول الله، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟! قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أبَاه، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ»مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.البخاري (5973)، ومسلم (90)
وفي رواية: «إنَّ مِنْ أكْبَرِ الكَبَائِرِ أنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ !»،قِيلَ :يَا رَسُول الله، كَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيهِ ؟! قَالَ: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أباهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ ))
هذا الحديث الشريف فيه بيان كبيرة من الكبائر وصورة من صور العقوق فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر أن العقوق، أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، أخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، كما جاء في حديث أبي بكرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ في قوله: «ألا أُنَبِّئُكُمْ بأكْبَرِ الكَبَائِرِ ؟» قالوا: بَلَى، يَا رَسُول الله، قَالَ : «الإشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، ألاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ». البخاري (2654)، ومسلم (87) فعدَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، وهذه صورة من صور عقوق الوالدين، وهي ما ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث من شتم الرجل لوالديه.
وقد أخبر في الرواية الثانية أنه من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، والشتم أوسع من اللعن، فالشتم يشمل اللعن وكل قولٍ قبيح يقوله في حق أحد فإنه شتمٌ، فالشتم هو الكلام القبيح الذي يحصل به الأذى من الذي وجه إليه القول.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مِنَ الكَبَائِر شَتْمُ الرَّجُل وَالِدَيهِ !» يشمل هذا شتم الرجل وشتم المرأة لوالديها، فالرجل والمرأة سواء وإنما ذكر الرجل بناء على غالب الخطاب الوارد في الشرع وأنه موجهٌ للذكور ومعلومٌ أن النساء شقائق الرجال.
وقوله: «وَالِدَيهِ» أي المباشرين أباه وأمه، ومثله أيضًا شتم من فوق ذلك كأن يشتم أب الأب الجد سواء من جهة الأب أو من جهة الأم، فكله داخلٌ في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «مِنَ الكَبَائِر شَتْمُ الرَّجُل وَالِدَيهِ !».
لكن شتم الأب المباشر والأم المباشرة لا شك أنه أعظم وأغلظ، وهل يشتم الرجل والديه؟ يعني هل يقع هذا؟ وفي الرواية الأخرى قالوا: كيف يلعن الرجل والديه والمعنى متقارب، فإن قولهم ـ رضي الله تعالى عنهم ـ هل يشتم الرجل والديه؟ استفهام إنكار واستغراب فهو استفهام إنكاري كيف يقع ذلك؟.
وقوله: كيف يلعن الرجل والديه؟ كذلك الاستفهام هنا استفهام تعجب وإنكار وتقبيح لهذا الفعل الذي ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يقع من الناس، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «نَعَمْ» أي يقع ذلك أن يشتم الرجل والديه أو أنه يسب الرجل والديه، فقال في بيان ذلك قال: «يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أباهُ» يعني يسب أبا رجلٍ آخر، فيقابل ذلك الرجل هذا السب لأبيه بسب أبي المتكلم الساب اللاعن الشاتم ويسب أمه سواء باللعن أو بغيره، فيسب أمه، أي فيعود عليه القول بسب أمه.
وهذا ليس إذنًا بأن يقابل الإنسان الإساءة في مثل هذا بمثلها، فلا يجوز لأحد لعن والداه أن يقابل ذلك بلعن والدي اللاعن أو سب ذلك الساب، بل الواجب عليه أن يذكره بالله ـ تعالى ـ وأن يمسك لسانه عن أن يسبه أو أن يلعنه، عن أن يسب والدي الساب أو يلعن والدي الساب، فإن ذلك من المحرم.
وأما قول الله ـ تعالى ـ:﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى:40]فهذا مما أذن فيهمما لا تعدي فيه لحدود الله ـ تعالى ـ وأما إذا تعدى الإنسان حدود الله ـ عز وجل ـ فإنه لا يقابل ذلك بإساءةٍ بمثلها، فقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة:194]، وقوله ـ تعالى ـ:﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى:40] إنما يكون في إطار ما أذنت به الشريعة من مقابلة الإساءة بمثلها، فلو أن رجلًا سب رجلًا بكلمة قال له مثلًا كلمةً قبيحة، فردها عليه فإنه لا حرج في ذلك وهو جائز لقوله ـ تعالى ـ: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ [النساء:148]، ولقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى:40]، ولقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾.
أما أن يسب أبا الرجل الذي سب أباه أو يسب أم الرجل الذي سب أباه، فهذا اعتداء، إذ أن والد ذلك لا جرم له، فلا يتوجه إليه السب ولا يتوجه إليه اللعن، ولهذا كان ذلك من المحرم ولا يؤذن به ولا يجوز.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «فَيَسُبُّ أبَاه، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ» في مقابلة سب ذلك الساب للأب أو للأم ليس إذنًا غنما إخبار بالحال التي تقع، ويكون فيها اعتداء وجناية على الوالد من أبٍ أو أم.
الحديث فيه جملة من الفوائد:
من فوائده: بيان صورة من صور عقوق الوالدين والصورة المذكورة في الحديث هي صورة التسبب في حصول الأذى لهما بالقول؛ حيث إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عدَّ سب أب الرجل ولعن أب الرجل وسب الأم ولعن الأم مما يفضي إلى كبيرة من الكبائر وهو أن يسب أباه أو يسب أمه.
ومن سب أب الرجل جمع سيئتين السيئة الأولى الجناية على والد الرجل من أبٍ أو أم من غير جرم، والثاني أن ذلك يمكن أن يكون موجبًا لمقابلة هذا السب بنظيره وبما يشبهه من سب أبيه أو سب أمه، فكان ذلك موجبًا للعقوبة، فينبغي للمؤمن أن يتقِ الله ـ عز وجل ـ وأن يحفظ لسانه عن أن يقع في شيء من التجاوز والتسبب للأذى.
وإذا كان هذا في الأذى القولي للوالدين، فالأذى الفعلي من باب أولى، والأمر أعظم من هذا فإن الله ـ تعالى ـ نهى الرجل عن أن يقول لوالديه أفٍ، وهي كلمة تضجر وتأفف من أمرٍ أو نهيٍ أو شيءٍ يتعلق بالوالدين، فكيف بالسب الذي هو أعظم وأكبر وأخطر؟؟!، فينبغي للإنسان أن يصون قوله.
ومعلوم أن الأذى بالفعل أعظم في كثير من الصور من الأذى بالقول، وإن كان الأذى بالقول قد يكون أعظم، لكن ينبغي أن يصون الإنسان نفسه عن أن يلحق والديه أذىً بقولٍ أو فعل.
وفيه: أن سب الإنسان لأبيه وأن سب الإنسان لأمه أعظم خطورةً وأكبر جرمًا وإثمًا، فإذا كان التسبب في السب موجبًا للعقوبة بأن يكون من الكبائر وأن يكون من أكبر الكبائر فكذلك السب المباشر هو من الكبائر، ومن أكبر الكبائر بل هو أغلظ من التسبب في السب.
وفيه من الفوائد: وجوب صيانة الإنسان لسانه عن أن يصدر منه سوءٍ أو شر، وأنه ينبغي له أن يتأمل، وأن يفكر في العواقب لما يصدر عنه، وأن لا يكون غائبًا عما يؤول إليه فعله، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نظر في المآلات والعواقب في مثل هذا الكلام الذي يصدر عن الرجل بأن يسب أب الرجل أو يسب أمه، وجعل العواقب موجبة لمزيد امتناع عن القول أو عن الفعل لأجل شؤم عاقبته وقبح مآله.
فينبغي للإنسان أن يكون متأملًا لعواقب قوله وخواتمه فيكون ذلك مما يسلمه ويبعده عن الإثم وعن الوزر وعن الخطأ، فالأمور بمآلاتها وعواقبها تعرف أحكام بداياتها وأحكام أوائلها، ينبغي أيضًا أن يعرف المؤمن أن هذه الصورة التي ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي من أعظم صور العقوق، فينبغي للإنسان أن يجتنب كل ما يكون فيه أذى لوالديه فليس المقصود قصر العقوق بهذه الصورة، بل هذه صورة من الصور وهي صورة التسبب في الأذى فأعظم منه الأذى المباشر.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا عليم، وقنا شر ألسنتنا وأنفسنا، وأعنا على قول الحق والعمل به، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.