الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في كتابه رياض الصالحين، في باب عقوق الوالدين وقطيعة الرحم:
عن أَبي محمد جبيرِ بن مطعم ـ رضي الله عنه ـ: أن رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ» قَالَ سفيان في روايته: يَعْنِي: قَاطِع رَحِم . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.البخاري (5984)، ومسلم (2556)
هذا الحديث الشريف الموجز المختصر يبين عظيم الإثم الحاصل بقطيعة الرحم؛ حيث قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ»، والجنة هي دار النعيم الكامل التي أعدَّ الله تعالى فيها لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذا المكان هذه الدار نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها لدخولها موجبات، ويمنع دخولها أعمال فجديرٌ بالمؤمن أن يعتني بكل ما يكون سببًا لدخول الجنة مما جاء النص عليه في كلام الله ـ عز وجل ـ أو في كلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن يحذر غاية الحذر من الموجبات والأسباب المانعة الحائلة دون دخول الجنة، فإن ذلك يأتي على صور:
إما بعدم دخول الجنة أو أنه لا يجد ريحها أو أن الله حرم عليه الجنة، أو أن الله أوجب له النار ونحو ذلك من النصوص المفيدة منع دخول الجنة، وأن صاحب ذلك العمل ممنوعٌ من دخول الجنة، فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ» أي أن من قام بهذا الوصف وهو القطيعة كان ذلك موجبًا لعدم دخول الجنة.
وليُعلم أيها الأخوة والأخوات أن دخول الجنة على نوعين:-
-دخولٌ بلا حسابٍ ولا عذاب، وهذا في حق من كمل إيمانهم وصلحت أعمالهم وبلغوا درجة الإحسان وكمل في قلوبهم الإيمان فأتوا بالأعمال الموجبة لدخول الجنة من غير حساب ولا عذاب، كما جاء في حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في السبعين ألفًا الذين يدخلون بغير حسابٍ ولا عذاب، قال في بيانه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ:«هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون»صحيح البخاري (6472)، وصحيح مسلم (218) فجمعوا هذه الأعمال الموجبة لدخول الجنة بغير حسابٍ ولا عذاب، وقد يدخل الجنة بغير حسابٍ ولا عذاب بسؤال الله ـ عز وجل ـ ودعائه، فإن عكاشة بن محصن سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يسأل الله له أن يكون منهم أي ممن يدخل الجنة من غير حسابٍ ولا عذاب، فينبغي أن يحرص المؤمن على أن يكون من هؤلاء، هذا القسم الأول ممن يدخل الجنة، وهم من يدخلها بغير حسابٍ ولا عذاب.
-القسم الثاني ممن دخل الجنة: هم من يحاسبون فترجح حسناتهم على سيئاتهم فيدخلون الجنة، نسأل الله ـ تعالى ـ من فضله، وهؤلاء قومٌ أتوا بحسنات رجحت على سيئاتهم فاستحقوا بفضله وكرمه وعظيم إحسانه الجنة فدخلوها.
-والقسم الثالث من يدخل الجنة: إما بعفو الله ـ عز وجل ـ وهم من تساوت حسناتهم وسيئاتهم أو من رجحت سيئاتهم على حسناتهم، إما بالعفو وإما بالحسنات الماحية وإما بتمحيص أصحاب السيئات، وتنقيتهم من سيئاتهم حتى يدخلوا الجنة، وبه يُعلم أنه إذا نفي دخول الجنة عن من قام به موجب دخول الجنة أي سبب دخول الجنة وهو الإسلام والتوحيد وهو أنه من أهل الإيمان في الجملة، فإن عدم دخوله الجنة ليس نفيًا للدخول المطلق بالكلية بل هو نفيٌ إما عن الدخول الأول وإما عن الدخول الذي يكون سالمًا من المؤاخذة.
هذا معنى قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ» أهل التوحيد من أهل الإسلام يدخلون الجنة بلا ريب ولا شك، وعلى هذا دلت الأدلة في الكتاب والسنة وأجمع عليه علماء الأمة، لكن من جاء في حقه وعيدٌ بعدم دخول الجنة يُحمل ذلك على أنه وجد فيه مانع يمنعه من دخول الجنة، فلا بد من زوال هذا المانع إما بعفو الله ومغفرته وإما بما يقدره الله ـ تعالى ـ له من شفاعة الشافعين، وإما بما يكون من حسناتٍ ماحية تزيل سيء العمل ويدخل به الجنة حديث صاحب البطاقة الذي يأتي ببطاقة ويأتي بسجلات من السيئات وسيء العمل، فترجح بطاقته على تلك السيئات، وإما أن يكون ذلك بعد التمحيص والمؤاخذة.
وبه يُعلم أن هذا النفي لدخول الجنة الوارد في الحديث، وفي أمثاله لا يتنزل على الأعيان في حق من قامت بهم تلك الأعمال، إنما يقال إن من قام به العمل يُخشى عليه ويُخاف عليه أن يكون ممن تشمله هذه العقوبة، فإذا وجد قاطعٌ أو وجد آكل ربا أو وجد من توعد بالعقوبة بالنار أو بعدم دخول الجنة فإنه لا يُحكم للمعين بذلك؛ لأن هذا لا يُعلم ما ينتهي إليه الأمر فقد يتوب فيتوب الله عليه، وقد يكون له من الأعمال الماحية ما يزيل ذنبه ويعفى عنه بسببه وينغمر سيء عمله بما عنده من صالح وإما أن يعفو الله عنه وإما أن تدركه شفاعة من يأذن الله تعالى له بالشفاعة.
المهم أن الأسباب الماحية للسيئات قد تكون فيه فيكون هناك مانعٌ من أن يتنزل عليه هذا العقاب وهذه المؤاخذة، والتنبيه إلى هذا للإجابة عن إشكال ضلَّ فيه طائفتان وهو هذا النفي هل يُعمل به بالمطلق في كل من قام به الوصف أو أنه يُلغى فلا يعتبر، كلا الطريقين طريق مذموم، والطريق القويم المستقيم هو فهم النصوص بمجموعها، ويقال إن هذا الوعيد في حق من قام به هذا الفعل لكن تحققه في الأعيان لا بد فيه من توافر الشروط وانتفاء الموانع، فقد يوجد فيه مانع.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «قَاطِعٌ» المراد به قاطع رحم ويشمل أيضًا كل من قطع ما يجب عليه من حقوق الخلق الواجبة؛ لأن القاطع يشمل ذلك كله، وقطيعة الرحم هي رأس ذلك وأعلاه، ومن قطع رحمه قطع حق غيره.
وقد بين في الرواية الأخرى في رواية سفيان أن المراد بالقاطع هنا قاطع رحم وعلى هذا عامة أهل العلم في بيان معنى الحديث وشرحه، فقوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ» يعني قاطع رحم، والرحم التي يُعاقب على قطعها هي الرحم التي يجب صلتها وهي كل من بينك وبينه ولادة ممن تجب له الصلة من القرابات قريبًا أو بعيدًا على حسب الصلة، ولا شك أن الرحم إما أن توصل وإما أن تقطع والوصل درجاتٌ ومراتب والقطيعة أدناها هو قطع ما يجب لها، هذا أدنى المراتب فإذا تجاوز ذلك إلى الإساءة وإلى إيصال الأذى كان ذلك زيادة في القطيعة إذ أن قطع ما يجب للرحم من الصلة كان موجبًا للعقوبة فكيف بما زاد على ذلك من الإساءة.
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما أنذر قريشًا وحذرهم وبين لهم أنه لا يغني عنهم يوم القيامة عند الله شيئًا، ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها»صحيح مسلم (204) أي سأؤدي ما يمكن أن أؤديه من أسباب صلتها والرحم التي توصل توصل بأنواعٍ من الصلة على اختلاف الرحم قربًا وبعدًا بالسلام والزيارة والهدية وسلامة القلب وحسن القول وطلاقة الوجه وبذل الجاه والإعانة بالمال وغير ذلك مما يكون من الوصل، وهذا درجات ومراتب.
فإذا قطع الإنسان كل ذلك عن رحمه كان ذلك قاطعًا، وإذا أضاف إلى ذلك أن يصلهم بالإساءة وأن يوصل إليهم الأذى كان ذلك نقيض ما أمر الله تعالى به وهو أشد من القطيعة، فالرحم إما أن توصل وإما أن تقطع وإما أن تؤذى، وأذيتها موجبة للعقاب الأليم في الدنيا والآخرة، فما من ذنبٍ يوجب تعجيل العقوبة من البغي وقطيعة الرحم.
ولذلك نبغي للمؤمن أن يحرص على صلة رحمه وأن يجتنب ما يكون من أسباب القطيعة، ومما يذكر في قطيعة الرحم أن كل من قصر في حق قراباته، فإنه لا يستحق من الوصل ما يستحقه الواصل، ولهذا ذكر بعض أهل العلم أن الوعيد الوارد في هذا الحديث في قوله: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَاطِعٌ» هو في حق الرحم التي تجب صلتها والتي لها حق الصلة، أما من كانت من الرحم قد أوجبت ما يوجب قطعها لمصلحة أو لحاجة فإنها لا تدخل في هذا الحديث.
والذي يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ هو الندب إلى صلة الرحم على وجه الإجمال، ولهذا ذكر العلماء أن الرحم توصل ولو كانت كافرة، فوصل الرحم واجب حتى مع الرحم الكافرة، ولكن الوصل درجات ومراتب.
وجاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيح من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعون، أحسن إليهم ويسيئون إليَّ وأحلم عليهم ويجهلون علي، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إن كنت كما تقول فكأنما تسفهم المل» يعني سيلحقهم من العذاب والعقاب نظير ما يلحق من أكل الرماد الحار من الألم والعقوبة ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك»صحيح مسلم (2558) يعني ما استمررت فندبه إلى الاستمرار ولم يحثه أو يبين له أنه لا يصلهم، بل ندبه إلى الاستمرار، وحمله جماعة من أهل العلم الوصل في هذه الصورة على الاستحباب لا على الوجوب.
الحديث فيه جملة من الفوائد:-
من فوائده: أن الجنة يمنع من دخولها أعمال.
وفيه من الفوائد: أن من الأعمال الموجبة لعدم دخول الجنة قطيعة الرحم أعاذنا الله تعالى وإياكم.
وفيه من الفوائد: أن عدم دخول الجنة التي توعد بها قاطع الرحم دليلٌ على أن قطيعة الرحم من كبائر الذنوب؛ لأن كل ذنب ذكر في عقوبته الأخروية أنه لا يدخل الجنة فهو من كبائر الذنوب.
هذا بعض ما في هذا الحديث من الفوائد والمسائل أسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقني وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد