الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في كتابه رياض الصالحين في باب عقوق الوالدين وقطيعة الرحم:
عن أَبي عيسى المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ عن النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قَالَ: «إنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأمَّهَاتِ، وَمَنْعاً وهاتِ، وَوَأْد البَنَاتِ، وكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإضَاعَةَ المَالِ» وهذا حديث متفقٌ عليه.البخاري (5975)، ومسلم (593)
هذا الحديث اشتمل على النهي عن أمور وفرق بينها في المرتبة والمنزلة فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إنَّ اللهَ ـ تَعَالَى ـ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأمَّهَاتِ» وهذا هو الشاهد من الحديث وعقوق الأمهات هو قطع ما يجب لهن من البر والإحسان والصلة، وخصَّ الأمهات بالذكر لأن الأمهات أعظم حقًا من الآباء وإلا فعقوق الأمهات وعقوق الآباء كله من كبائر الذنوب وعظائم الإثم لكن عقوق الأمهات أغلظ؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما سئل: من أحق الناس بحسن صحابتي قال: «أمك ثم أمك ثم أمك قال: ثم أبوك»صحيح البخاري (5971)، وصحيح مسلم (2548) فحق الأم أعظم ولذلك نصَّ عليها وهي أحق بالبر من الأب وكلاهما مستحقٌ له ولذلك نص عليه.
وقيل: إن سبب تخصيص الأمهات بالذكر هنا؛ لأن العقوق للأمهات أكثر وقوعًا منه في عقوق الآباء فلذلك نص عليه، وسواء كان هذا أو هذا وكلاهما له وجه، فالتخصيص إنما أراد به تغليظ هذه الصورة من العقوبة وتغليظ صورة من الكبائر لا يعني أن ما دونها ليس بكبير.
فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما سئل عن أي الذنب أعظم؟ قال في عد ذلك قال: «أن تزاني حليلة جارك»صحيح البخاري (4477)، ولا خلاف بين أهل العلم أن الزنا محرم، لكن الزنا بحليلة الجار أعظم جرمًا وأكبر ذنبًا فكذلك عقوق الأمهات أعظم من عقوق الآباء وإن كان الجميع كبيرًا من الذنوب وعظيم من الإثم، والأمهات هنا يشمل الأمهات المباشرات ومن علون، فالأم والجدة ونحو ذلك ممن يدخل في وصف الأم داخلٌ في قوله صلى الله عليه وسلم عقوق الأمهات.
قال: «وَمَنْعاً وهاتِ» والمراد به البخل والشح الذي يحمل الإنسان على منع ما يجب عليه من الحق والمطالبة بما ليس له من الحقوق، هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْعاً وهاتِ».
وقوله: «وَوَأْد البَنَاتِ» أي قتلهن والوأد محرم لكل ولد، وإنما ذكر البنات لكثرته وشيوعه بين المشركين في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقوله: «وكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإضَاعَةَ المَالِ» هذا دون المرتبة الأولى في غلظ المنع والتحريم ولذلك فرق فقال: حرم عليكم، وهنا قال: «وكَرِهَ لَكُمْ»، وكلاهما مما ينبغي للمؤمن أن يتجنبه، قيل وقال هو الاشتغال بالقول الذي يخرج بالإنسان عن حفظ لسانه، ويخرج به عن القول السديد، ومن ذلك أن ينقل كل ما يصل إليه من حديث.
وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع»صحيح مسلم (5)، وأما كثرة السؤال فالمقصود به كثرة السؤال عما لا ينفع السؤال عنه أو ما في السؤال عنه تغليظٌ وتشديد أو ما في السؤال عنه إلحاقٌ للمشقة بالمسئول سواء كان ذلك في الأمور المعنوية في الأمور الدينية أو الأمور الدنيوية وسواء كان في الأمور الخاصة أو الأمور العامة.
وإضاعة المال وكره لكم إضاعة المال أي كره تبديده وإفساده بوضعه في غير موضعه أو عدم حفظه والقيام عليه بما يصلحه، فإن ذلك كله من إضاعة المال، فإضاعة المال ألا يقوم بما يصلحه ويحفظه أو أن يضعه في غير موضعه بأن يبذر أو يفسد في ماله بإسرافٍ أو بصرفه في محرم، فذلك كله من إضاعة المال والمال هنا يشمل كل ما يتمول مما ينتفع به سواء كان نقدًا أو كان طعامًا أو كان متاعًا أو كان عقارًا أو كان منقولًا، فكل مال يجب حفظه وصيانته من الإضاعة.
هذه جملة من الأمور التي ذكرها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث، والتفريق بين التحريم والكراهة هو لبيان غلظ المرتبة الأولى وأن المرتبة الثانية أقل ضررًا وفسادًا وإن كانت مما كرهه الله، وكره الله تعالى للشيء يفيد منعه وتحريمه، ولذلك لما ذكر الله ـ تعالى ـ جملة من الموبقات وسيء الأعمال من القتل والزنا وأكل المال بغير حق قال: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾[الإسراء:38]، وليس المراد بالكراهة هنا الكراهة الاصطلاحية التي هي الندب إلى ترك الشيء مع عدم المعاقبة على فعله، بل المقصود به التحريم الذي يفيد المعاقبة على فاعل ذلك.
فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإضَاعَةَ المَالِ» هو مما يشمل المحرم والمكروه من ذلك، وأما الأول فإن جميعه محرم، فكل عقوق محرم وكل شح وبخلٍ عما يجب وتطلعٍ إلى ما لا يستحقه الإنسان محرم ووأد البنات محرم بخلاف ما يتعلق بالمرتبة الثانية، فالمرتبة الثانية مما ذكره ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد يكون منها ما هو مأذونٌ فيه أو يتسامح فيه، فلذلك قال: «وكَرِهَ لَكُمْ: قِيلَ وَقالَ».
فمن القيل والقال ما يكون مكروهًا ومنه ما يكون محرمًا، ومن كثرة السؤال ما يكون مكروهًا وما يكون محرمًا ومن إضاعة المال ما قد يكون محرمًا وما يكون مكروهًا بخلاف المرتبة الأولى التي جزم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها بالتحريم.
وعلى كل حال هذا الحديث يفيد جملة من الفوائد حسن تعليم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجمع النظائر إلى نظيرها وبيان مرتبتها في التحريم والنهي، وفيه غلظ عقوق الأمهات وأن عقوق الأمهات أعظم ذنبًا ووزرًا من عقوق الآباء.
وفيهالتحذير من الشح والبخل والتحذير من وأد البنات وقتلهن وبيان أن هذه الأمور الثلاثة تشترك في التحريم وإن كانت متفاوتة فأغلظ هذه الثلاثة الأمور هو وأد البنات لما فيه من قتل النفس التي حرم الله ـ تعالى ـ بغير حق ويليه الشح ثم عقوق الأمهات، والشح قدم على عقوق الأمهات؛ لأن الشح ينتج عنه عقوق الوالدين.
وعلى كل حال لم تذكر هذه المذكورات على وجه الترتيب لمنزلتها وإنما تعرف منازلها بالنظر إلى ما جاءت به النصوص، وفيه أيضًا التحذير من اشتغال الإنسان بما لا ينفعه من القول وأنه ينبغي له أن يمسك عن أكثر القول فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» صحيح البخاري (6018), وصحيح مسلم (47).
وفيه أن كثرة المسائل مما يعاب على الإنسان ومما يريده المحرم ويوقعه في الوزر، فقد كره لنا ربنا جل في علاه كثرة السؤال وكذلك فيما يتعلق بإضاعة المال وواجبٌ على كل مؤمن أن يحتاط لنفسه باجتناب ما حرمه الله وأن يحتاط لنفسه بالبعد عن كل ما كرهه الله ـ تعالى ـ ورسوله، فالنجاة في لزوم أمر الله ورسوله والسير على ما يحبه الله ورسوله ومجافاة ومجانبة كل ما حرم الله ـ تعالى ـ ورسوله.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وصلى الله وسلم على نبينا محمد.