المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجَّلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مستمعينا الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله، وأهلا بكم في برنامجكم "استفهامات قرآنية".
في مطلع هذا اللقاء المبارك، يسرنا أن نرحب بضيفه صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور خالد المصلح الأستاذ بقسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة القصيم، أهلا وسهلًا ومرحبًا بكم شيخنا الكريم.
الشيخ: مرحبا بك، حياك الله وحيا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المباركين، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
المقدم: اللهم آمين، استفهامنا القرآني الذي سنتأمله -بمشيئة الله تعالى- في هذه الحلقة ورد في آيات إيمانية عظيمة ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك: 2]، فحدثنا شيخنا الكريم عن سياق هذا الاستفهام الوارد في هذه الآية الكريمة.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
هذا الاستفهام جاء في سياق بيان الغاية من الخلق، يقول الله تعالى في سورة الملك: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك: 2]
إن هذا الاستفهام جاء في هذا السياق الذي يبين فيه الله تعالى السبب والعلة والغاية من إيجاد الخلق، وأنه اختبارهم، فجاء ذلك بهذا السياق وبهذه الصيغة ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك: 2].
المقدم: لو تكلمنا -أحسن الله إليكم- عن أدوات الاستفهام المستخدمة في هذه الآية الكريمة؟
الشيخ: أداة الاستفهام هي: أي، وهي من الأدوات التي تندرج ضمن الأسماء، فأدوات الاستفهام منها ما هو حروف، ومنها ما هو أسماء وقوله: ﴿أَيُّكُمْ﴾[الملك: 2] الأداة المستخدمة هي: أي.
المقدم: الغرض من الاستفهام أحسن الله إليكم في هذه الآية الكريمة؟
الشيخ: الغرض من الاستفهام في هذه الآية الكريمة هو بيان موضوع الاختبار، وأن موضوع الاختبار الذي يختبر به الخلق ويبتلون هو أيهم أحسن عملًا، فالاستفهام هنا على وجهه، وهو بيان الموضوع الذي اختبروا به، فإن موضوع الاختبار في هذه الدنيا هو بيان من يسبق إلى تحقيق الغاية من الوجود، ومن يتخلَّف عن ذلك وتحقيق الغاية من الوجود هو بإحسان العمل ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك: 2].
المقدم: شيخنا الكريم لو تكلمنا كذلك وتحدثنا عن المعنى الإجمالي لهذه الآية الكريمة وما ورد فيها من استفهام.
الشيخ: هذه الآية الكريمة يخبر الله تعالى فيها عن خلقه، وأنه خلق الموت والحياة أي أوجد الله تعالى الموت والحياة، وهذا حال ما يجري على كل خلق الله –عز وجل-ممن خلقهم في هذا الكون، فهم أحياء وأموات فيهب الله تعالى الحياة للأشياء على حسب ما تقتضيه مصالحها وحالها، ويسلب الحياة بالموت الذي ينزله بهذه المخلوقات، ثم بين الله تعالى الغاية من الإحياء والإماتة، فأمات الله تعالى من شاء وما شاء وأحيا من أراد وما أراد إلى أجل معلوم؛ ليبلو الناس ويختبرهم، كما قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك: 2]، ليختبر الخلق، وينظر ما يكون من تحقيقهم الغاية من خلقهم من جهة العمل فقال: ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك: 2]، أي: أيكم أيها الناس أطوع لله تعالى وأسعى في طلب مرضاته جل في علاه.
فالإحياء والإماتة كله دائر على تحقيق هذه الغاية، وهو ابتلاء الناس واختبارهم فيما خلقوا من أجله، وهو تحقيق العبودية لله تعالى، وهذا نظير قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات: 56]، فحسن العمل إنما يكون بتحقيق العبادة لله –عز وجل-.
المقدم: شيخنا الكريم ذكر الموت والحياة في هذه الآية الكريمة هل له اتصال وتماس بهذا الاستفهام القرآني؟
الشيخ: نعم؛ لأنه بيان لغاية هذا الفعل، الله تعالى يخبر عن أنه خلق الموت والحياة ثم بين ما العلة والغاية من هذا الخلق، وأنه اختبار الخلق يحييهم جل في علاه ليختبرهم بما فرضه عليهم من توحيده –سبحانه وبحمده-وإقامة عبادته جل في علاه، ثم يميتهم، ثم يكونون مرهونين بأعمالهم في موتهم ويبعثهم لحياة أخرى ليحاسبهم على ما يكون من أعمالهم، فيظهر بعد ذلك من هو أحسن عملًا.
فقوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك: 2]
الاستفهام هو بيان غاية هذا الخلق الذي شمله الموت والحياة.
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا الكريم! لو تكلمنا عن الدلالات والمعاني والهدايات التي جاءت في هذا الاستفهام بهذه الآية الكريمة.
الشيخ: الله تعالى بيَّن أن الغاية من الخلق هي ظهور وتبين السابق بحسن العمل، فما هو حسن العمل؟
حسن العمل بيَّنه ربنا –جل وعلا-في كتابه وسنة رسوله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، حسن العمل يرتكز على أمرين؛ على باطن وظاهر، الباطن بالإخلاص له جل في علاه، والظاهر بمتابعة النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ولذلك جاء في تفسير هذه الآية الكريمة عن الفضيل بن عياض أنه قال في قوله تعالى: ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك: 2]، قال: أخلصه وأصوبه أي: أخلص العمل لله –عز وجل-، وأصوبه من جهة اتباع النبي –صلى الله عليه وسلم-، ولا يقوم عمل على حسن، بل على أبلغ ما يكون من الحسن إلا بتحقيق هذين الأمرين، أن يكون خالصًا لله، ذلك بأن يكون العامل يبتغي بعمله وجه الله –عز وجل-، لا يرجو سواه، فإن العامل إذا حقق ذلك أدى ما فرض الله تعالى عليه، فإن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته، وكان أول نداء دعا الله تعالى فيه الناس في القرآن الكريم أن يعبدوه وحده لا شريك له، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 21]، والمطلوب من العبادة هنا هو إخلاص العمل له –جل وعلا-، قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾[النساء: 36]، وقال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾[الإسراء: 23]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعام: 162-163]، والآيات في بيان ضرورة الإخلاص لكل عمل حتى يكون مقبولًا، وحتى يبلغ أوجه الحسن متوافرة كثيرة، فالقرآن دائر على تقرير هذا المعنى ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾[البينة: 5].
وأما الجزئية الثانية التي يتحقق بها حسن العمل فهو متابعة النبي –صلى الله عليه وسلم-وقد قرر ذلك في القرآن قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[الحشر: 7]، وقال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾[الشورى: 21]، وقد قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[الأحزاب: 21]، فلا يمكن أن يكون العمل حسنًا ولا يكون أحسن العمل إلا إذا كان على وفق ما كان عليه عمله صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-في بيان ذلك: «من أحدث في أمرِنا ما ليس منه فهو رَدٌّ»[صحيح البخاري(2697)، ومسلم(1718)]، مرتكز قبول العمل أن يكون لله خالصًا، وأن يكون لسنة النبي –صلى الله عليه وسلم-متبعًا، وبذلك يتحقق النجاح والنجاة في لقاء الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف: 110]، فالصلاح في العمل والحسن بالإخلاص والمتابعة، رزقنا الله تعالى الإخلاص له والتأسي والاهتداء بهدي النبي –صلى الله عليه وسلم-.
المقدم: اللهم آمين، شكر الله لكم صاحب الفضيلة على هذا البيان المبارك والمسدد في الحديث عن هذا الاستفهام القرآني ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك: 2]
الشيخ: وأسأل الله تعالى لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يرزقنا حسن القول والعمل، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المقدم: وصلنا وإياكم مستمعينا الكرام إلى ختام هذه الحلقة من برنامجكم "استفهامات قرآنية".
شكر ودعاء وتقدير لضيفنا الكريم صاحب الفضيلة الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم. الشكر يتواصل لأخي وزميلي مسجل هذا اللقاء عثمان الجويبر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.