المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وإمام الصائمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مستمعينا الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تقبل الله صيامكم وقيامكم وصالح أعمالكم، مرحبا بكم في هذا اللقاء المبارك من برنامجكم "استفهامات قرآنية".
في مطلع هذا اللقاء يسرنا أن نرحب بضيفه صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور خالد المصلح الأستاذ بقسم الفقه بجامعة القصيم، أهلا وسهلًا ومرحبًا بكم شيخنا الكريم.
الشيخ: حياكم الله، مرحبا بك وبالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأسأل الله لي ولهم التوفيق والسداد.
المقدم: استفهامنا القرآني في هذه الحلقة مستمعينا الكرام والذي سنسلط الضوء عليه ﴿أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾[النور: 22]، والتي وردت في آية قرآنية عظيمة.
شيخنا الكريم! لو تكلمنا هنا عن سياق هذا الاستفهام القرآني، وعن سبب نزوله.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد.
فهذه الآية الكريمة جاءت في سورة النور ضمن ما قصه الله تعالى من نبأ حادثة الإفك، وحادثة الإفك حادثة كبرى وقعت في زمن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-برَّأ الله تعالى فيها زوج النبي –صلى الله عليه وسلم-وأم المؤمنين عائشة مما تكلم فيه من تكلم من أصحاب الإفك والمنافقين الذين تورطوا بهذه الفرية العظيمة والحادثة التي كان لها تأثير كبير على النبي –صلى الله عليه وسلم-وأصحابه.
يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[النور: 22]
الله تعالى في هذه الآية نهى أصحاب الفضل وهم أصحاب المال والسعة الذين وسع الله تعالى عليهم في أرزاقهم أن يمنعوا أولي القربى وأصحاب الحوائج والمهاجرين ما يكون من الفضل الذي عندهم بالأيمان، فإنه قال تعالى: ﴿وَلا يَأْتَلِ﴾، أي: لا يحلم ﴿أُوْلُوا الْفَضْلِ﴾[النور: 22]، وأولو السعة من أن يعطوا المساكين وأولي القربى والمهاجرين، ويتضح المعنى بصورة أكبر وبصورة أوضح بمعرفة سبب نزول هذه الآية، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما[القصة بطولها أخرجها البخاري(4757)، ومسلم(2770)] من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- في قصة الإفك وفيها قالت: "فلما أنزل الله هذا في براءتي -برأها الله تعالى- قال أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته بأبي بكر، كان ابن خالة أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، قال أبو بكر ومسطح كان قد تكلم في شأن عائشة بما عوقب به، وذلك بالحد الذي فرضه الله تعالى على أصحاب التورط بعرض النبي –صلى الله عليه وسلم-، فقال أبو بكر: والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعدما قال في عائشة، حلف ألَّا ينفق على مسطح وكان من أولي القربى بالنسبة لأبي بكر، وهو من المساكين، وهو أيضًا من المهاجرين، فأنزل الله تعالى الآية: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾[النور: 22]، ثم ندبهم بعد منعهم من الحلف ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا﴾[النور: 22]، يعفوا أي: يتجاوزوا، والصفح هو الإعراض، فأمر الله تعالى بأمرين؛ في مقابل إساءة من أساء من الفقراء وذوي القربات والمهاجرين في سبيل الله في هذه الآية بالعفو وهو التجاوز والصفح، وهو الإعراض وعدم تذكر الإساءة، ثم قال تعالى في حض النفوس على الإقبال على الامتثال لأمره قال تعالى: ﴿أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾[النور: 22]، قال أبو بكر رضي الله عنه وهو الصدِّيق الذي لا يقدم شيئًا على أمر الله ورسوله قال: بلى والله، إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يُجري عليه، أي: أرجع إليه كل النفقة التي كانت تجري عليه قبل ما قال في عائشة رضي الله تعالى عنها.
المقدم: وهذه هي الحكمة من إنزال هذا القرآن الكريم، أن يكون هناك تطبيق لتعاليمه على أرض الواقع، وأن يكون جزءًا عظيمًا من أخلاقنا.
الشيخ: وهذا النموذج ظاهر في حياة الصحابة، فكانوا يأخذون القرآن على أنه رسالة وخطاب من الله لهم، فيجدوا أثر ذلك في نفوسهم وأحوالهم وأعمالهم رضي الله تعالى عنهم.
المقدم: بل يكون كل أخلاقنا تتعامل بتعاليم القرآن الكريم.
الشيخ: نسأل الله أن يجعلنا كذلك، وقد كان إمامنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-على هذا النحو، سئلت عائشة عن خلقه قالت: «كان خلقه القرآن –صلى الله عليه وسلم-»[صحيح، أخرجه أحمد في مسنده(24601)]
المقدم: شيخنا الكريم! لو تكلمنا عن أداة الاستفهام المستخدمة في هذه الآية الكريمة، وكذلك الغرض من الاستفهام؟
الشيخ: أما أداة الاستفهام فهي الهمزة، وهي أمُّ الباب ﴿أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾[النور: 22]، وأما غرضه وغايته فهو الحث والتحضير على الإقبال على ما ندب الله تعالى إليه من ترك الأيمان لمنع النفس من الإحسان، والأمر بالعفو والصفح، فقال تعالى: ﴿أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾[النور: 22]، امتثالهم لما أمرتم به وترككم لما نهيتم عنه من الحلف في ترك الإحسان سيكون سببًا لنيل مغفرة الله تعالى ﴿أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾[النور: 22]، ثم جاء التحضيض بذكر أسمائه الموجبة للإقبال عليه والامتثال لأمره، قال: ﴿وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[النور: 22]، فهذا الاستفهام للتحضيض والحث والعرض، ولا شك أن النفس الإيمانية التي تصدِّق بهذا لا يمكن أن تتواني عن امتثال أمر الله –عز وجل-، والإقبال على موجبات مغفرته ورحمته، فقد جعل الله تعالى لمغفرته أسبابًا، وجعل لها طرقًا تنال بها، وهو واسع المغفرة جل في علاه.
ومن أسباب المغفرة والعفو والصفح الذي يناله العبد من ربه أن يعامل الخلق بذلك، فإن معاملة الخلق بهذا السلوك وهذا الخلق موجب لعطاء الله –عز وجل-، فكما تغفر أنت يا أخي الكريم ويا أختي الكريمة لمن أخطأ في حقك، سواء في مال أو عرض أو بدن أو غير ذلك من أوجه الأخطاء المادية والمعنوية والحسية أو المعنوية فإن الله تعالى يغفر لك، فكما تغفر عن المذنب إليك فإن الله يغفر لك، وكما تصفح عنه يصفح عنك الله تعالى عنك.
المقدم: ولعل أيضًا هذه الأيام المباركة من شهر رمضان فرصة سانحة جدًّا لأن يتسامح المسلم مع إخوانه إن كان هناك على مدار العام خلافات وغير ذلك.
الشيخ: نعم، والآية الكريمة تقرر هذا المعنى بشكل واضح، معنى أن الجزاء من جنس العمل، وهذه قاعدة شرعية واضحة دلت عليها الأدلة، فإن الجزاء من جنس العمل شرعًا وقدرًا، وقد جاءت النصوص متضافرة على هذا المعنى، فمن أحب المغفرة أن يغفر الله له فليغفر للناس، «من ستر مسلمًا ستره الله»[صحيح البخاري(2442)، ومسلم(2580)]، «من يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة»[صحيح مسلم(2699)]، «من نفَّث عن مؤمن كُربة من كرب الدنيا نفَّث الله عنه كربة من كرب يوم القيامة»[صحيح البخاري(2442)، ومسلم(2580)]، «مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ »[أخرجه أبو داود في سننه(3460)،وقال البوصيري في الزوائد 2/173: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم] هذا في الصالحات.
وفي السيئات: «من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته»[أخرجه الترمذي في سننه(2032)، وحسنه]، «مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ »[أخرجه الترمذي في سننه(1940)، وحسنه. وقال الحاكم:صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، ووافقه الذهبي]، «مَا مِنَ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ »[أخرجه أبوداود في سننه(4884)، وضعفه الألباني ]، ومن سمح عن مسلم وعفا عنه عفا الله تعالى عنه، و«الراحمون يرحمهم الرحمن»[ أخرجه الترمذي في سننه(1924)، وقال:هذا حديثٌ حسنٌ صَحِيحٌ.]، و«إنما يرحم الله من عباده الرحماء»[أخرجه البخاري في صحيحه(1284)، ومسلم(923)]، ومن أنفق أنفق الله عليه، ومن أوعى أوعى الله عليه، وهكذا فالجزاء من جنس العمل.
فلنبادر إلى كل إحسان، وأن نأخذ بأسباب الخير ولنرجو من الكريم المنان الفضل؛ فهو الذي يعطي على القليل الكثير نسأله من فضله.
المقدم: اللهم آمين، نسأل الله –عز وجل-أن تشملنا نفحات مغفرته في هذا الشهر الكريم، شكر الله لكم صاحب الفضيلة.
الشيخ: الحمد لله، وأشكر الله تعالى على ما يسَّر، وأسأله المزيد من فضله، وأن يوفِّقنا إلى كل خير في القول والعمل وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المقدم: وصلنا وإياكم -مستمعينا الكرام- إلى ختام هذه الحلقة من برنامجكم "استفهامات قرآنية"، كان ضيفها صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح الأستاذ بقسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة القصيم، الشكر يتواصل لأخي وزميلي مهندس هذه الحلقة ومسجلها عثمان بن عبد الكريم الجويبر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.