الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين:
عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قَالَ : قَالَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَإذَا كَانَ يَومُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ ولا يجهل فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ)). البخاري (1894)، ومسلم (1151)
هذا الحديث الشريف بين فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يجريه المؤمن بصومه، وما ينبغي أن يكون عليه حال صومه، فالصوم جنة أي وقاية من سيء القول والعمل، وهو وقاية للعبد من النار ـ أجارنا الله تعالى وإياكم منها ـ فإن من توقى سيء القول والعمل وقي النار، وحفظ منها وأجاره الله ـ تعالى ـ من أن يناله شيء منها، ثم ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صورة مما ينبغي أن يكون عليه الصائم في توقي الآثام، فقال: "إذا كان صوم يوم أحدكم" يعني إذا جاء أو حصل صوم يوم أحدكم، سواء كان فرضًا أو نفلًا، فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، هذه أمور ثلاثة نهى عنها ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حال الصيام:
"فلا يرفث": أي لا يقع في شيء من الرفث، والرفث هو فاحش القول وسيئه، ويطلق على ما يريده الرجل من امرأته من النساء، أي فلا يقرب ما يكون من شأن النساء، وهذا وذاك كلاهما مما يمنع منه الصائم، فإنه يدع شهوته لله ـ عز وجل ـ فلا يرفث، أي لا يقع في بذيء القول وسيئه من التلاعن والتشاتم والتساب والسخط وسيء القول، فإن ذلك سلاح اللئام هذا هو سبيلهم وطريقهم.
قال: "ولا يصخب" والصخب هو رفع الصوت، وذاك لا يكون إلا في غالب الحال فيما لا يرضى من القول، فإن الصخب يطلق على القول الرديء إذا رفع به الصوت وعلا وانتشر وفشا وظهر، فنهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن القول السيء ولو كان بصوت خافت، وأكد النهي بألا يرفع صوته به.
ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ولا يجهل" وهذا ثالث ما نهى عنه الصائم.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا يجهل" أي لا يقع في شيء من الجهل، والجهل المنهي عنه هنا هو المعاصي بجملته، فإن كل معصية جهل من صاحبها، والمراد بالجهل هنا عدم العمل بالعلم، وليس المقصود عدم المعرفة، فإن الذي لا يعرف لا يأثم؛ إذ الأحكام تتبع العلم، لكن لا يجهل لا يقع في الجهل، والجهل يطلق على عدم العلم، ويطلق أيضًا على عدم العمل بالعلم، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾[النساء: 17] يعني بعدم عمل بالعلم، وهذا كل من تورط في سيئة فإنه جاهل، ولكنه قد يعاقب وقد لا يعاقب، لا يعاقب إذا كان لا يعلم؛ لأن التكليف يتبع العلم ويعاقب إذا علم.
المقصود أن الصائم منهي عن الجهل عن كل المعاصي الظاهرة والباطنة، فالصوم زكاة تقي الإنسان سيء القول والعمل والفاحش من الظاهر والباطن ولا يجهل، ثم بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما ينبغي أن يقابل الإنسان به من أساء إليه قال: "فإن سابه أحد" يعني شاتمه بالقول سواء بلعن، أو بصياح وقبيح قول، أو بغير ذلك مما يقع به المسابة، كالتلاعن "أو قاتله" والقتال يكون بالمدافعة باليد في الغالب، فإذا اعتدى عليك أحد بقول وأنت صائم أو بعمل وأنت صائم، فقابله بتذكيره وتذكير نفسك بحالك.
ولذلك قال: "فليقل إني صائم" فلا أقابل الإساءة بمثلها صائم، أيضًا يفيد أن يحبس الإنسان نفسه عن أن يسيء إلى غيره، ولهذا قوله: "فليقل إني صائم" الفائدة عائدة إلى جهتين: إلى الصائم نفسه بأن يذكر نفسه بما يقتضيه صومه، وأن يذكر هذا الذي سابه أو شاتمه بأنه على حال لا يمكنه فيها أن يقابل الإساءة بمثلها؛ لأن الأصل أنه إذا أساء الإنسان إليك أن تقابله بمثله هذا على وجه الجواز ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾[البقرة: 194]، ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾[الشورى: 40] لكن يترك الإنسان هذا؛ لأجل الصوم حفاظًا عليه وصيانة له وإكرامًا له، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا صومًا ترضى به عنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.