الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب وجوب الصوم وبيان فضله:
عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: ((لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ)). البخاري (1894)، ومسلم (1151)
تضمن هذا الحديث بيان فضل الصوم، ورفيع منزلته عند الله ـ عز وجل ـ فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبر عن فضيلة ما يعقبه الصوم على الصائم فقال: "لخلوف فم الصائم" الخلوف وما يخلف ويعقب الشيء، والمقصود به ما يكون من تغير رائحة فم الصائم؛ بسبب خلو جوفه من الطعام والشراب.
هذا التغير عند الله ـ عز وجل ـ بمنزلة رفيعة، أي في الإثابة عليه والمجازاة على ما كان سببًا له، وهو الصوم فيكون ثوابه، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المنزلة: "أطيب عند الله من ريح المسك" أي أرفع وأزكى عند الله ـ عز وجل ـ من ريح المسك، وبهذا يتبين عظيم فضل الصوم، فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ذكر في تشبيه بعض ما يكون من العاملين بالصالحات مراتب، فقال في دم الشهيد: "يأتي يوم القيامة وجرحه يثعب دماً اللون لون الدم، والريح ريح المسك"سنن النسائي (3147)، ومسند الإمام أحمد (7302).
وفي الصوم قال: "أطيب عند الله من ريح المسك" فدل ذلك على عظيم منزلته ورفيع درجته، وأنه من العمل الذي يكون فيه الإنسان يبلغ من الأجر، والجزاء من رب كريم مبلغًا عظيمًا يفوق وصف دم الشهيد الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اللون لون الدم، والريح ريح المسك" إذ إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والظاهر فيما يبدو ـ والله تعالى أعلم ـ أن سبب التفضيل بالصوم بهذه المنزلة، وهذه المرتبة هو في الصوم من الخفاء، وكونه من عبادات السر التي لا يطلع فيها على العبد إلا ربه ـ جل في علاه ـ فلا يعلم حقيقة صوم الإنسان إلا الله ـ عز وجل ـ إذ الصوم مبناه على أمرين: إمساك بنية، إمساك عن المفطرات بنية، والنية لا يطلع عليها إلا الله ـ عز وجل ـ وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى»البخاري (1)
وقد استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على كراهية السواك إلى الصائم فيما بعد زوال الشمس؛ لكون هذه الرائحة غالبًا ما تكون إلا في آخر النهار، فكره جماعة من أهل العلم التسوك للصائم بعد زوال الشمس؛ لأنه إزالة لما أثنى الله ـ تعالى ـ عليه، وبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رفيع منزلته عند الله والصواب أن هذا الحديث لا يدل على كراهية السواك للصائم، بل هو دال على فضيلة الصوم، وما يعقبه من الآثار.
وأما هذه الرائحة فهي لا تكون بسبب يعود إلى الفم، بل هي بسبب فراغ الجوف، فمهما استاك الصائم فإنها لا تذهب؛ لأنها رائحة منبعثة من جوفه لا من فمه، ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ندب إلى السواك ندبًا مطلقًا، فقال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"البخاري (887)، ومسلم (252) وفي رواية "عند كل وضوء"البخاري معلقاً باب سواك الرطب واليابس للصائم وهذا يشمل الصائم وغيره.
وفي حديث عامر بن ربيعة ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: "لا أحصي ما رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستاك وهو صائم"سنن أبي داود (2364) فكل هذه النصوص، وهذا المعنى يدل على أنه لا حرج على الصائم أن يستاك أول النهار وآخره، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة ومالك ورواية في مذهب الإمام أحمد، فيستاك الصائم أول النهار وآخره، وقد كره جماعة من أهل العلم استعمال السواك الرطب لما قد يفضي من نفوذ شيء إلى الجوف، فإذا كان الإنسان يحتاط من أن ينفذ إلى جوفه شيء من رطوبة السواك الرطب، فلا بأس باستعماله ولا كراهة فيه، وإن توقاه للسواك اليابس كان أبعد عن أن يتطرق إلى جوفه شيء من السواك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واستعملنا فيما تحب وترضى، وأعنا على الصالح في السر والعلن، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.