الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـفي باب وجوب الصوم وبيان فضله:
عن أَبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قَالَ: قَالَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((للصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ)). البخاري (1894)، ومسلم (1151)
هذا الحديث الشريف يخبر فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ثواب الصائم، وعما يدركه من الأجر بصومه سواء كان صومًا واجبًا أو كان صومًا متطوعًا به، فإن الأجر المذكور في الفرائض من الصوم وفي النفل، وإن كان أجر الفرض أعظم إلا أن النفل يشترك معه في أصل الفضل المذكور في هذا الحديث يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "وللصائم" أي الذي تعبد الله ـ تعالى ـ بالإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس "فرحتان" يفرحهما؛ الفرح هو لذة في القلب لإدراك محبوب، هذا هو الفرح شعور يعتري القلب إذا أدرك الإنسان ما يحب، وهذا خبر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الصائم مهما لقي في صومه من المشقة والعنت والكلفة والتعب، والخروج عن المألوف بترك المشتهيات والمحبوبات إلا أن الله ـ تعالى ـ يعقبه فرحتين وليس فرحة واحدة؛ فرحة عاجلة في الدنيا، وفرحة أجلة في الآخرة.
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيان هاتين الفرحتين قال: "إذا أفطر فرح" أي إذا أنهى صومه بالفطر بغروب الشمس فرح، وفرحه بالفطر عند غروب الشمس له أسباب، والناس في هذا متفاوتون أعلى المراتب أن يفرح بأن الله ـ تعالى ـ وفقه لصيام هذا اليوم، ويفرح أن الله أعانه على ترك ما ينقص به أجر صومه، ويفرح أن الله ـ تعالى ـ سيجزيه على هذا الصوم من الأجر والمثوبة ما يؤمله، مما جاءت به النصوص في الكتاب والسنة، ويفرح؛ لأن الله ـ تعالى ـ أحل له ما منعه من المشتهيات والمحبوبات فالنفس تفرح بإدراك ما تحب من المآكل والمشارب وسائر المشتهيات التي يمنع منها في الصوم.
كل هذه من موجبات الفرح التي يفرح بها المؤمن، والناس متفاوتون منهم من يفرح؛ لأجل إباحة الفطر ومنهم من يفرح؛ لأجل هذه المعاني وكلما زاد سبب الفرح بالطاعة والإحسان، كان أعظم أجرًا، وكان الفرح عبادة، فالفرح في هذه الحال إذا فرح أن الله أعانه على الصوم، وان الله سلم صومه من النواقص أُجر على هذا، فيكون أجرًا زائدًا على أجر الصوم، وهذا دليل على أن الحسنة تجذب صاحبتها، وتجر أختها، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس: 58] اللهم اجعلنا منهم، ممن يفرح بفضل الله ورحمته.
أما الفرح الثاني" قال: "وإذا لقي ربه فرح بصومه" إذا لقي ربه أي إذا لقيه لمجازاته وإثابته، ومحاسبته على عمله، فرح بصومه الذي تقرب إلى الله ـ تعالى ـ به في الدنيا، لماذا يفرح؟ لما يرى من عظيم الأجر والمثوبة، كما قال الله ـ تعالى ـ في المجاهدين الشهداء، قال ـ تعالى ـ: ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾[آل عمران: 170] فجعل فرحهم بما أفاض الله ـ تعالى ـ عليهم من الإثابة والأجر على ما كان من عملهم، وكذلك الصائم يفرح يوم القيامة عند لقاء ربه بصومه الذي أتعبه وتقرب به إلى ربه، فيرى بذلك الأجر العظيم والثواب الكبير على هذا العمل، فيصر به ويفرح، وهذا هو الفرح الباقي الذي لا حزن بعده وهذا هو الفوز العظيم الذي إذا ناله الإنسان كان من الفائزين، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾[آل عمران: 185] ولهذا ينبغي للإنسان أن يستحضر مثل هذه المعاني عندما يلقى شيئًا من العنت، أو المشقة بالصوم أو التعب يحتسب الأجر عند الله؛ فإنه من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، الاحتساب أن تطمع في ثواب عملك عند ربك ـ جل في علاه ـ وألا ترجوه ولا تطلبه من أحد في الدنيا، أعاننا الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته وبلغنا هذا الفرح بأعلى ما يكون من فضله وإحسانه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.