الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين, في رياض الصالحين في باب وجوب الصوم وبيان فضله:
عن أَبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْماً في سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ بَاعَدَ اللهُ بِذَلِكَ اليَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفَاً))متفقٌ عَلَيْهِ البخاري (2840)، ومسلم (1153).
وعن أَبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))متفقٌ عَلَيْهِالبخاري (38)، ومسلم (175).
هذان الحديثان الشريفان فيهما بيان فضيلة الصوم على وجه العموم، وفيهما فضيلة صيام رمضان على وجه الخصوص حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من صام ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله" في سبيل الله قيل: أي في الجهاد في سبيل الله، فيجتمع عليه مشقتان؛ مشقة الجهاد ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ﴾[البقرة: 246] ومشقة الصيام ويصبر عليهما.
وقيل: المقصود في سبيل الله، أي ابتغاء وجهه وطلبًا لرضاه وطاعة له ـ جل في علاه ـ وهذا المعنى أقرب فيما يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ لأن الجهاد من الأحوال التي يكون فيها الإنسان مرغبًا بالفطر؛ ليتقوى على القيام بما يشتغل به من مقارعة أعداء الله، والذب عن دينه والصد ومجابهة من يصد عن سبيله.
فالأقرب في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله" أي ابتغاء وجهه ورغبة فيما عنده وطاعة له "إلا باعد الله" بذلك اليوم أي بسبب صوم ذلك اليوم "وجهه عن النار سبعين خريفًا" وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "باعد" المباعدة هي المفارقة، وذكر هذا العدد وهو قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "سبعين خريفًا" يعني مسافة السير سبعين سنة، فالخريف المراد به السنة، وهذا يبين عظيم الفضل الحاصل بالصوم، وأنه أجر جزيل عظيم، وهذا في الصيام فرضًا كان أو نفلًا.
ومعلوم أنه إذا كان الصوم فرضًا كان أجره أعظم، فإن أحب ما يتقرب به العبد إلى ربه ما افترضه عليه فهذا الأجر يبين ما الذي يدركه الإنسان بصومه، طاعة لله وإخلاصًا له ، وفي هذا من حفظ النفوس وتشجيعها وتنشطيها على التقرب إلى الله ـ تعالى ـ والإخلاص في تلك الطاعات ما هو ظاهر بين.
وأما قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» التنبيه إلى أن الصوم لا يشترك الناس في أجره على حد سواء، بل هم متفاوتون فيه بقدر ما يقوم في قلوبهم من حسن النية وسلامة القصد، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر عملين قلبيين؛ لإدراك هذا الفضل الذي ذكره في صيام رمضان من صام رمضان إيمانًا هذا عمل قلبي، واحتسابًا هذا عمل آخر وهو عمل قلبي، "غفر له ما تقدم من ذنبه" فقيد حصول الثواب بمغفرة الذنوب أن يكون الصوم مقترنًا بهذين الوصفين؛ الأول إيمانًا ومعنى الإيمان هو التصديق والإقرار بما جاء من فرض الصيام، وفضل ذلك العمل والاحتساب هو طلب الأجر في ذلك العمل من الله ـ عز وجل ـ هذا معنى الإيمان والاحتساب.
الإيمان هو الإقرار بالقلب أن الله فرض هذا الصوم، والاحتساب أنك لا تطلب أجر هذا الصوم وما تلقاه فيه من مشقة إلا من الله ـ عز وجل ـ وإذا تحقق هذان الوصفان، فإنك موعود بفضل عظيم "غفر له ما تقدم من ذنبه" والمغفرة تتضمن العفو والتجاوز والستر، فإن المغفرة يحصل بها للإنسان أمران:
الأول: أن الله لا يؤاخذ على ما كان من سيء العمل لا يعاقبه يعفو عنه يتجاوز.
والأمر الثاني: أنه يستره ولا يفضحه، فغفر له ما تقدم من ذنبه، أي يتجاوز الله عن ذنبه ويستره به وهذا يدل على أن الحسنات مما يحط الله ـ تعالى ـ بها السيئات مهما عظمت، فإنه قد قال: غفر له ما تقدم من ذنبه، كل ما تقدم من ذنب يغفره الله ـ عز وجل ـ وهذا فضل الله ـ عز وجل ـ وجزيل إحسانه وكريم عطائه لمن يمتثل أمره إيمانًا واحتسابًا.
وهذا فيما يظهر من العموم أنه يشمل الصغائر والكبائر التي تاب منها الإنسان التي لم يصر عليها الإنسان، أما ما كان مصرًا عليه من الكبائر، فإنه لا يدخل في المغفرة، فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على تحقيق هذه الأوصاف، وأن يجعلنا ممن يصوم إيمانًا واحتسابًا, وأن يباعد بيننا وبين النار سبعين خريفًا في كل يوم نصومه طاعة له ورغبة فيما عنده, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.