الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين, في رياض الصالحين في باب وجوب الصوم وبيان فضله:
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ، فُتِحَتْ أبْوَاب الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أبْوَابُ النَّارِ، وَصفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ))متفقٌ عَلَيْهِ. البخاري (1899)، ومسلم (1079)
هذا الحديث الشريف تضمن إخبار نبويًا عن أمر غيبي، وهو ما خص الله ـ تعالى ـ به هذا الشهر المبارك من حكمه الكوني القدري حيث إنه ـ جل وعلا ـ خص رمضان بنوعين من الخصائص: خصائص قدرية قضاها الله ـ تعالى ـ وقدرها تكون في هذا الشهر، وخصائص دينية شرعية: حكم بها ـ جل وعلا ـ أن تكون في هذا الشهر.
فالحديث تضمن ذكر ثلاث خصائص قدرها الله ـ تعالى ـ في هذا الشهر تشريفًا له وإكرامًا وإعانة لعباده على ما فيه خير دينهم ودنياهم، فأخبر عن ثلاثة أمور: قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا جاء رمضان" أي إذا دخل وحضر، وهذا من أول دخوله من أول لحظاته إلى آخر لحظاته، فهذا الفضل المذكور في هذا الحديث في كل الشهر في ليله ونهاره من دخوله إلى خروجه "فتحت أبواب الجنة" أي فتح الله ـ تعالى ـ أذن الله ـ تعالى ـ بفتح أبواب الجنة، والجنة هي دار النعيم الكامل الذي أعد الله ـ تعالى ـ فيها لعباده الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر نسأل الله من فضله.
ولها أبواب ثمانية يأذن الله ـ تعالى ـ بفتحها، وذلك لكثرة ما يكون من أسباب دخولها، فالأعمال الصالحة هي مفاتيح أبواب الجنة، فإن الجنة أبوابها سميت بالأعمال، باب للصلاة وباب للصيام وباب للصدقة وباب للجهاد، وهلم جر، وباب لبر الوالدين، فالوالد أوسط أبواب الجنة، كل هذه أبواب من أبواب الجنة لها أعمال، فلكثرة العمل الصالح في هذا الزمن المبارك، تفتح أبواب الجنان نسأل الله من فضله.
ولهذا المحروم من يحرم التوفيق في هذا الشهر المبارك، وتغلق أبواب النيران وذلك إيذان بقلة ما يكون من العصيان، وقلة ما يكون من مخالفة الرحمن في هذا الشهر المبارك، فإنها تغلق أبواب النيران والنار هي الدار التي أعدها الله ـ تعالى ـ لأهل الكفر والنفاق والمعصية، فإنها دار ـ أعاذنا الله تعالى وإياكم منها ـ لها سبعة أبواب، وهذا أقل من أبواب الجنة مع أن أهل النار أكثر من أهل الجنة من جهة العدد، قال ـ تعالى ـ: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾[الأنعام: 116]، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[الشعراء: 8]، لكن من فضل الله وسعة بره من أهل الإيمان والتقى والصلاح أن جعل أبواب الجنة أكثر, "تغلق أبواب النيران" إيذانًا بقلة العصيان، وقلة أسباب دخول النار، ثم ذكر ثالث هذه الخصائص القدرية لهذا الشهر فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "وصفدت الشياطين" صفدت التصفيد هو الحبس، ولذلك في بعض الروايات سلسلت الشياطين، فتحبس الشياطين عن أن تصل إلى الشر الذي كانت تصل إليه في غير رمضان، وهذا لا يعني أن الشيطان لا عمل له.
الشيطان له عمل في رمضان وفي غيره، لكن في رمضان يقل تأثيره على الإنسان بفضل ما يكون من إعانة الرحمن بالصيام وصالح العمل الذي يضيق عمل الشيطان، فإن الشيطان كلما غفل الإنسان تمكن منه قال الله ـ تعالى ـ: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾[المجادلة: 19] فبقدر ما مع الإنسان من ذكر الله بقوله وقلبه وعمله يبعد عنه الشيطان، ويقل عمله فيه.
فسلسلت الشياطين سلسلتها بما يكون من صالح العمل، فتصفد الشياطين حقيقة، ولا تصل إلى الشر الذي كانت تصل إليه في غير رمضان؛ لكن هذا لا يعني ألا يكون للشيطان وسوسة، أو عمل بل له عمل لكن عمله أقل من سائر الزمان، وهذا من إعانة الله ـ عز وجل ـ لعبده على الصالح من العمل فإن من أعظم ما يقعد الإنسان عن العمل الصالح ما يكون من وسوسة الشيطان وكيده، قال الله ـ تعالى ـ فيما أخذه الشيطان على نفسه ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الأعراف: 16] الطريق الموصل إليه ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾[الأعراف: 17] أي لا تجد أكثرهم عابدين، الشكر المقصود به هنا العبادة، لا تجد أكثر الناس عابدين، بسبب هذا الكيد الكبار، والعمل المتواصل في صد الناس على سبيل الله.
فلذلك ينبغي للإنسان أن يفرح بهذا العون الإلهي، فيقدم على الطاعة يقدم على الإحسان، يقدم على البر يكف عن العصيان، يكثر من الاستغفار، يتقرب بسائر ألوان الصالحات والقروبات، فإن ذلك من عون الله تعالى لعبده الذي وفقه إلى كل خير.
هذا الحديث فيه من الفوائد:
إعانة الله ـ تعالى ـ على عبده.
وفيه: أن الجنة لها أبواب وأن النار لها أبواب.
وفيه: أن الشياطين في مواسم البر والطاعة والخير يقل تأثيرها ويقل عملها.
وفيه: جواز تسمية هذا الشهر برمضان يعني لا يلزم أن تقول: شهر رمضان، فقد كره جماعة من أهل العلم أن يطلق هذا الاسم مجردًا عن ذكر الشهر؛ لأن الله ـ تعالى ـ سماه شهرًا، قال: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾[البقرة: 185] فقالوا: يكره أن يدعا هذا الشهر برمضان بدون ذكر الشهر ولكن الصحيح أنه يجوز ذلك، ولا حرج فيه ولا كراهة، فهذا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة".
أسال الله لي ولكم العون على الطاعة والإحسان، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى من الأعمال في السر والإعلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.