الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
قال الإمام النووي ـ رحمه الله تعالى ـ في باب الجود وفعل المعروف والإكثار من الخير في شهر رمضان والزيادة من ذَلِكَ في العشر الأواخر منه:
فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ــ قَالَ:" كَانَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أجْوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبْريلُ، وَكَانَ جِبْريلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ فَلَرَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِن الرِّيحِ المُرْسَلَةِ".متفقٌ عَلَيْهِالبخاري (6)، ومسلم (2308).
هذا الحديث الشريف يبين خصلة من خصال سيد الورى نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كمل الله ـ تعالى ـ خصاله, ووفى أدبه حتى قال عنه ـ جل في علاه ـ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم: 4] فأدبه الله ـ تعالى ـ وكمله في خصال الخير وصنوف سجايا البر حتى بلغ الغاية ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل خصلة من خصال الخير وفي كل خلق كريم.
من ذلك الجود وهو من أوسع الصفات في جمع خصال الخير، فالجود يجمع طيب النفس، ويجمع سلامة الصدر ويجمع البذل، ويجمع النجدة، ويجمع شيئًا كثيرًا من خصال الخير، فإذا وصف الإنسان بأنه جواد كان ذلك دليلًا على اجتماع خصال الخير فيه، فكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجود الناس في كل خصال الخير بلغ الغاية والذروة، فهو أكرم الناس وهو أطيب الناس عشرة، وهو أشيع الناس وهو أسرعهم نجدة وهو أنصحهم للخلق، فجمع الله ـ تعالى ـ له تلك الخصال كلها الجود لا يقتصر على البذل من المال بل الجود أوسع من ذلك، فيشمل كل بذل وعطاء وإحسان سواء كان إحسانًا ماديًا بالأموال والطعام وغير ذلك، أو كان إحسانًا معنويًا بطيب الخصال وكريم المعاملة، فكل ذلك كان من خصاله صلى الله عليه وسلم.
وكان أجود ما يكون في رمضان يعني كان يبلغ الغاية في الجود والطيب ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ في رمضان، وذلك أن رمضان شهر مبارك تتحرى فيه صفات الخير وصنوف البر، ورمضان يعان فيه الإنسان على أنواع من الخير لا تكون في غيره، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجود ما يكون في رمضان بماله ونصحه ومعاملته وشجاعته وكريم خصاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طلبًا للأجر واغتنامًا لبركة الزمان ولما في رمضان من الأثر العائد على الإنسان بالعبادة والطاعة، فإنها تؤثر في ذكاء النفوس وسموها وكمال الخصال وعلوها، ثم ينضاف هذا الجود ويزداد حين يلقاه جبريل، وذلك في مجالسة أهل الخير والبر والصلاح، فإن مجالسة الأبرار والأخيار مما يعين الإنسان على صالح العمل ومما يكمل خلقه.
ولذلك قال: "وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل" فاجتمع بركة الزمان ومصاحبة الأخيار من الخلق، ثم انضاف إلى ذلك سبب ثالث، وهو ما يكون في هذه المجالس من ذكر الله ـ تعالى ـ وكان جبريل يلقاه كل ليلة في رمضان يدارسه القرآن.
قال: "فيدارسه القرآن" وكان يلقاه كل ليلة، فاجتمع في هذا المجلس بركة الزمان، وبركة الذكر ومصاحبة الأخيار، فكان ذلك موجبًا لمزيد فضل، قال ـ رضي الله عنه ـ في وصف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "فلرسول الله حين يلقاه جبريل في رمضان ـ مع مدارسة القرآن ـ أجود بالخير من الريح المرسلة" أجود بالخير يعني أكرم في نشر البر وطيب الخصال والبذل والإحسان من الريح المرسلة، والريح سريعة فإذا كانت مرسلة كانت أبلغ في نشر ما يكون من الخير بعموم القطر، وانتشار ما يرغبه الناس من خير من هذه الريح التي جاءت بالبشرى وجاءت بالأمطار.
وهذا يدل على عموم خيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه لا يخص جهة دون جهة، أو أحد دون أحد بل يعم كل أحد.
والحديث فيه جملة من الفوائد:
من فوائده: عظيم ما كان عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من طيب الأخلاق.
وعظيم ما كان عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الجود وأن جوده ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يزيد في رمضان وبمصاحبة الأخيار وبتلاوة القرآن، فهذه كلها أسباب توجب للإنسان أن يزيد في الخير اغتنامًا للزمان وانتفاعًا من ذكر الرحمن، وأيضًا مبادرة إلى صالح العمل بسبب ما يكون من مصاحبة الأخيار كل هذه موجبات للزيادة، فمن أراد الزيادة في الخير، فليحرص على هذه المعاني وهذه الأوصاف.
وفيه: الندب إلى قراءة القرآن في ليل رمضان، فإنه مما كان عليه هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقرآن يتلى في النهار والليل، وقد اختلف العلماء أيهما أفضل القراءة ليلًا في رمضان أو القراءة نهارًا؟ والأفضل الأصلح لقلب الإنسان.
ولكن الأغلب أن القراءة في الليل أكثر نفعًا للإنسان، ولذلك قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا﴾[المزمل: 6] فينبغي أن يكون له نصيب من قراءة القرآن في الليل, ولو كان قليل لا يترك شيئًا من قراءة القرآن في الليل أو سماعه حتى يوافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
ومدارسة القرآن من العمل الصالح، وهو من عمل أكرم الخلق، هذا أشرف الرسل مع أشرف الملائكة يتدارسان القرآن، ومدارسته بتلاوته وتفهم معانيه، وإدراك ما فيه من خيرات للتدبر والتفكر فيه.
وفيه: أنه ينبغي أن يفتش الإنسان عن أثر العمل الصالح في سلوكه وأخلاقه، فالأعمال الصالحة جميعها الصلاة والزكاة والصوم والحج كلها يقصد بها بلوغ كريم الخصال والسمو بأخلاق الإنسان، فلابد أن يفتش عن هذا الأثر.
ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»مسند الإمام أحمد (8952) فإذا كنت تصلي وتصوم وتتصدق وتحج، وليس لهذا أثر في سلوكك وأخلاقك ومعاملتك مع ربك ومع الخلق بالجود والصلاح، ففتش عن خلل في العبادة، لابد أن هناك خلل، إما في الصورة يعني في العمل، وإما في القصد والنية أوجب عدم وجود هذه الثمرة التي هي نتيجة العمل الصالح من ذكاء الأخلاق وسموها.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك, وألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.