الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ باب فضل السحور وتأخيره مَا لَمْ يخش طلوع الفجر:
عن أنس ـ رضي الله تعالى عنه ـ قَالَ: قَالَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((تَسَحَّرُوا؛ فَإنَّ في السُّحُورِ بَرَكَةً))متفقٌ عَلَيْهِ البخاري (1923)، ومسلم (1095).
هذا الحديث الشريف أمر فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسحور, فقال: "تسحروا" والتسحر هو الأكل في وقت السحر، والسحر هو آخر الليل قبل طلوع الفجر، وهو من الأوقات الفاضلة التي يرجى فيها بركة العمل الصالح، ومن أشرف ما تشغل به الأسحار دعاء العزيز الغفار قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾[الذاريات: 18].
ومن العمل الصالح الذي يتقرب إلى الله ـ تعالى ـ به في هذا الزمان المبارك، وهذا الوقت هو الاستعداد والتهيؤ للصوم بالنية والطعام أكلًا وشربًا، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "تسحروا" وهذا أمر منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بالإجماع محمول على الاستحباب، أي أنه أمر ندب فيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ واستحب للأمة أن تستعين الله ـ تعالى ـ على الصيام بما يسر من الطعام، وبعد أن أمر ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: "تسحروا" وهو أمر لعموم الصائمين سواء كان صوم فرض أو صوم نفل قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "فإن في السحور بركة" السحور هو ما يؤكل هو الطعام الذي يؤكل في السحر اسم للطعام الذي يؤكل في السحر.
وقيل: "فإن في السحور بركة" السحور هو فعل الأكل, أي فعل التسحر وكلاهما له وجه, ومعنى صحيح؛ فإن في السحور وهو ما يؤكل في وقت السحر بركة، حيث أنه عون على الصوم وعلى الطاعة وعلى العبادة من جهة، وحيث أنه أيضًا يحصل به من انتفاع البدن ما لا يحصل بغيره من الطعام، فهذا وجه آخر في كون هذا الأكل في هذا الوقت مما وصف بهذا الوصف في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "فإن في السحور بركة" أي فيه عون على الطاعة وهذا من بركته، وفيه نفع للبدن بتقويته وإزالة الآفات عنه، فالأكل في هذا الوقت للصائم مما ينفع بدنه ويقويه.
هذا على وجه السحور بالفتح، وأما على وجه السحور بالضم أي فعل السحور، وهو الأكل في هذا الوقت، فإنه أيضًا بركة، وبركته من جهة امتثال أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطاعته، ومن جهة إتباع سنته ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فإنه كان يتسحر، ومن جهة أنه تقرب إلى الله ـ تعالى ـ في هذا الوقت الشريف المبارك في طاعته فيما ندب إليه الصائمين، وهو بركة أيضًا من جهة ما يدركه الصائم من العون بهذا الفعل، فإنه يعان وليس المقصود بذلك كثرة الطعام، بل البركة تحصل بكل طعام ولو كان قليلًا في هذا الوقت.
ولهذا في بعض رواية الحديث "تسحروا ولو بجرعة ماء"مسند الإمام أحمد (11086)، ولو أن يتسحر أحدكم بجرعة ماء، يعني بأقل ما يكون وجاء في حديث آخر "نعم سحور المؤمن التمر"سنن أبي داود (2345) وهذا فيه إشارة إلى أنه لا يلزم في هذا الوقت من الأكل, أي في السحور أن يكون طعامًا من طبخ ونحوه، بل يكفي فيه أدنى ما يكون مما يستعين الإنسان به على طاعة الله ـ عز وجل ـ بالصيام واستحضار نية الصوم، وأيضًا فيما يتعلق بالعون بهذا الطعام في هذا الوقت المبارك، فكل ذلك مما يدخل في هذا الحديث وفي معناه.
وفي الحديث بيان سمو هذه الشريعة، وأنها تأتي بما يصلح معاش الناس، كما تأتي بما يصلح معادهم تأتي بإصلاح دنياهم، كما تأتي بإصلاح دينهم؛ فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ندب إلى السحور، وهذا فيه صلاح أبدان الناس، وفيه كفايتهم في مأكلهم ومشربهم، وحاجات أبدانهم.
وفيه: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين فضل السحور، وأنه مبارك حيث قال: "فإن في السحور بركة" وهذا بيان ثواب العمل، وبيان ما يعود على الإنسان فيه من النفع في دنياه وفي آخراه، وهذا يحفز النفوس على الطاعة.
وفيه: استحباب السحور وهذا محل اتفاق، وقد جاءت فيه جملة من الأحاديث من أكدها قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم من حديث عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ: "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر"صحيح مسلم (1096) يعني الذي يميز صيام أهل الإسلام عن صيام غيرهم من الأمم "أكلة السحر"، فإنه مما خص الله ـ تعالى ـ به هذه الأمة، وهذا من بركة هذا السحور تميز هذه الأمة على سائر الأمم.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.