الحمد لله رب العالمين وأصلى وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فقد نقل النووي في باب أمر الصائم بحفظ لسانه وجوارحه عن المخالفات والمشاتمة ونحوها:
عن أَبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ، فَإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ))متفقٌ عَلَيْهِصحيح البخاري (1894), وصحيح مسلم (1151).
وعنه ـ رضي الله تعالى عنه ـ قَالَ: قَالَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))رواه البخاريصحيح البخاري (1903)
هذان الحديثان مضمونهما واحد, وهو بيان ما ينبغي أن يكون عليه الصائم من استقامة الحال في القول والعمل، فإن الصوم إنما شرع؛ لتحقيق تقوى الله ـ عز وجل ـ وتقوى الله ـ تعالى ـ سبيل لوقاية كل شر والبعد عن كل سوء، والسلامة من كل نقص في القول والعمل، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 183] ولهذا ندب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصائم إلى أن يجتنب الرفث والصخب، الرفث هو كل قول فاحش بذيء سواء كان في خاصة نفسه أو في كلامه مع غيره الرفث الكلام الفاحش الكلام البذيء، والصخب هو رفع الصوت بذلك أو بغيره مما يرفع فيه الصوت، فكل هذا مما ينبغي للصائم أن يجتنبه، فإن وقع ما يكون سببًا لصخب أو جهل أو قول بذيء من مسابه أو مقاتلة، فإنه ينبغي له أن يمسك عن ذلك.
لذلك قال: "فإن سابه أحد" وفي رواية "فإن شاتمه أحد أو قاتله" يعني كان اعتداء عليه بقول أو فعل "فليقل إني صائم" أي ليذكر المعتدي قولًا أو فعلًا بأنه على حال تمنعه من أن يقابل الإساءة بمثلها وهي حال الصائم، وهذا سمو وعلو بالمنزلة، وهو على وجه الاستحباب؛ لأن الأصل جواز مقابلة الإساءة بمثلها، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾[الشورى: 40] وكما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾[النحل: 26] لكن في حال الصيام يندب للإنسان أن يترك ذلك، وأن يكون على حال من الصيانة لنفسه من مقابلة الإساءة بمثلها على نحو ما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "فليقل إني صائم".
أما قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، فالمقصود أن من لم يمتنع القول الباطل من كذب أو غيبة أو نميمة أو شهادة زور أو سباب أو مشاتمة، أو غير ذلك من القول القبيح الذي يدخل في قول الزور، أو العمل به يعني العمل بالباطل من نظر محرم، أو سماع محرم أو عمل ظاهر أو باطن نهى الله عنه من كبر، أو عجب أو حسد أو حقد إذا لم يمتنع في صومه من سيء القول والعمل، "فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" أي لم يحقق الغاية والمقصود من الصوم هذا معنى قوله: "ليس لله حاجة الله" غني عنا وعن عبادتنا "يا عبادي إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني ولم تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرًا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه"صحيح مسلم (2577).
فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ليس لله حاجة" يعني ليس له غرض، وقصد في هذا الصوم الذي لا يمتنع صاحبه من الإساءة بالقول والعمل، فإنه لم يحقق الغاية، والمقصود من صومه إذ المقصود من الصوم توقي السوء والشر، فالصوم جنة وقاية تقي الإنسان سيء القول والعمل.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص على سلامة صومه من كل محرم في قول أو عمل في ظاهر أو باطن، ثم بعد ذلك ليحرص على أن يكون على حال من طيب الأخلاق وحسن العمل والجود في المعاملة ما يمنعه من مقابلة الإساءة بمثلها، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.