الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين في باب الجود وفعل المعروف والإكثار من الخير في شهر رمضان:
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "كَانَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا دَخَلَ العَشْر أحْيَا اللَّيْلَ وَأيْقَظَ أهْلَهُ، وَشَدَّ المِئْزَرَ".متفقٌ عَلَيْهِ.صحيح البخاري (2024)، وصحيح مسلم (1174).
هذا الحديث الشريف تخبر فيه عائشة ـرضي الله تعالى عنها ـ عن حال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في العشر الأخير من رمضان.
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في رمضان على حال مختلفة من الاجتهاد والجد عنه في سائر أيام الزمان، وإن كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعبد الناس ربه؛ لكنه يزداد عبادة وطاعة في شهر رمضان، وفي العشر الأخير منه يجتهد ما لا يجتهد في غيره, كما جاء ذلك عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ في وصف حاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصحيح قالت: "كان يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيره"صحيح مسلم(1165).
وجاء تفصيل ذلك وبيانه فيما يتعلق بصفة اجتهاده ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث؛ حيث فصلت ذلك فقالت: "كان إذا دخل العشر" أي العشر الأخير من رمضان, ودخولها يكون بغروب شمس اليوم العشرين، إذا غربت شمس يوم العشرين من رمضان، فقد دخلت العشر الأواخر من رمضان ودخول هذه الليالي في أول ليلة منها هي ليلة الواحد والعشرين، وعمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي ذكرته عائشة ـ رضي الله عنها ـ في هذه الرواية ثلاثة أمور: "أحيا ليله وأيقظ أهله وشد المئزر".
"أحيا ليله" أي عمر الليل بما يحييه وهو الطاعة والإحسان وصالح الأعمال، فإحياء الزمان، إنما يكون بفعل ما فيه الحياة، حياة القلوب وحياة الأرواح، والحياة الطيبة التي يأنس بها الإنسان، وينشرح بها صدره ويطمئن بها قلبه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾[الأنفال: 24] فإحياء الليل عمارته بصالح العمل واجبًا كان أو مستحبًا.
فمن الواجب الصلوات المكتوبات، ومن المستحب القيام وغير ذلك من الأعمال الصالحة، فقولها: "أحيا ليله" أي شغله بصالح العمل، ولم تذكر نوعًا من العمل بعينه، بل أطلقت فقالت: "أحيا ليله" وقد ندب النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى أعمال خاصة في ليالي هذه العشر، فمن ذلك قيام هذه الليالي طلبًا لليلة القدر، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»صحيح البخاري (1901)، وصحيح مسلم (760) فمن أكد الأعمال التي تعمر وتحيا بها ليالي العشر الأخير من رمضان القيام، والقيام هو أن يصلي صلاة الليل، وذلك مع الأئمة إن كان يصلي مع الأئمة حتى ينصرف، فمن قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة.
وإن لم يكن مع الإمام، فإحياء الليل يكون بالصلاة يكون بصلاة ما يسر الله ـ تعالى ـ من الصلوات، وما يفتح الله ـ تعالى ـ عليه من الصلاة والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العشر الأواخر كان قيامه على درجات، فليلة قام ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلث الليل، وفي ليلة قام نصف الليل، وفي ليلة قام أكثر الليل حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح، أي يفوتهم السحور كما جاء ذلك في السنن من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه.سنن الترمذي (806)
ومما جاءت السنة بإشغال النفس فيه في هذه الليالي المباركة الدعاء, فقد قالت عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ تسأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول؟ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فأعفو عني» أخرجه الترمذي وغيره وإسناده جيدسنن الترمذي (3513), وسنن ابن ماجة (3850) وهو دال على مشروعية أن يقول الإنسان هذا الدعاء.
ويدل أيضًا أن هذا الدعاء في هذه الليالي مما يجتهد فيه الناس، وتعمر به هذه الليالي، ولذلك قالت: تسأل عن أي دعاء تدعو، وعن المسألة التي تسألها في هذه الليالي، فدل على ذلك على أنها من ليالي السؤال والطلب، والدعاء من العمل الصالح الذي تشغل به هذه الليالي.
أيضًا تلاوة القرآن؛ فإنها من الأعمال الصالحة التي كان يشتغل بها ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كل رمضان ولما كان يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره، فينبغي أن يزيد من قراءة القرآن في ليل العشر الأواخر من رمضان.
وكذلك الإحسان؛ فإنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه كل ليلة يدارسه القرآن فلرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجود بالخير من الريح المرسلة"متفقٌ عَلَيْهِ البخاري (6)، ومسلم (2308). فدل ذلك على أنه يندب أن يشتغل بالإحسان بذلًا للأموال وما يكون من أوجه إيصال الخير للناس بشتى الصور فهذه كلها أعمال جاء الندب إليها في هذه الليالي.
فينبغي للإنسان ألا يبخس نصيبه من هذه الليالي أن يضرب في كل باب من أبواب الخير ما يكون موجبًا لعطاء الله ـ عز وجل ـ وفضله وجليل إحسانه وكبير منه ـ سبحانه وبحمده ـ ففي هذه الليالي ليلة خير من ألف شهر فيها من العطاء والهبات ما ليس في غيرها من ليالي الزمان، فلنحرص على أن نأخذ بسهم من كل باب من هذه الأبواب ومن ذلك الواجب، فإن صلاة الفرض في هذه الليالي مما يكون أجره أعظم من الفرض في غيرها من ليالي الزمان، فلنجد ولنجتهد ولنحرص على الخير.
قالت ـ رضي الله تعالى عنها ـ: "وأيقظ أهله" يعني ونبه أهله إلى اغتنام هذه الليالي، فالإيقاظ هنا ليس للا سبب أو لغير علة؛ بل سبب ذلك هو أن يغتنم هذه الليالي بالخير والاجتهاد في صالح العمل، وأما آخر هذه الأوصاف التي ذكرتها ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت: "وشد المئزر" للعلماء فيه قولان:
القول الأول:"شد المئزر" أي شمر وجد واجتهد كما في بعض الروايات، وجد وشد المئزر فالمقصود بشد المئزر الاجتهاد والتشمير في طلب الخير في هذه الليالي، وعدم التواني في ذكر الله ـ عز وجل ـ وعبادته والمسابقة والمسارعة إلى الخيرات، كما أمر الله ـ تعالى ـ ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[البقرة: 148]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ﴾[آل عمران: 133]، وقال ـ تعالى ـ: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾[الحديد: 21] كل هذا تحفيز النفوس ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾[الواقعة: 10] جعلنا الله وإياكم منهم، فالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كان يشد المئزر أي يشمر في طاعة الله.
القول الثاني:قال بعض أهل العلم: شد المئزر اعتزال النساء, وهذا وإن كان اللفظ يحتمله, فشد المئزر يطلق على اعتزال النساء وعدم إتيانهن؛ لكن الأقرب ـ والله تعالى أعلم ـ أنه المعنى الأول أنه جد وتشمير واجتهاد في صالح العمل؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المعهود عنه في العشر الأواخر الاعتكاف، فمن الأصل لا يقرب النساء؛ لقول الله ـ تعالى ـ: ﴿وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ﴾[البقرة: 187] فهو ممنوع من ذلك باعتكافه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ليلًا ونهارًا، لكن الذي أرادت ـ والله تعالى أعلم ـ بقولها: "وشد المئزر" أي شمر على عادة الناس في ما إذا اشتغلوا بما يكون من العمل على وجه الجد يشمرون ويشدون أوساطهم, وأزرهم على أوساطهم يستعينون بذلك على القيام بما يقومون به من المهام والأعمال.
فينبغي لنا أيها الإخوة والأخوات أن نجد ونجتهد ونغتنم هذه الليالي المباركة بما ييسره الله ـ تعالى ـ من صالح العمل.
وهذا الحديث فيه جملة من الفوائد أُشير إلى كثير منها في أثناء الحديث منها:
حرص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الخير.
ومنها استحباب إحياء ليالي العشر الأواخر بطاعة الله عز وجل.
ومنها ألا يغفل الإنسان عن أهله، ومن تحت يده ممن ولاهم الله ـ تعالى ـ إياهم من زوجات وأزواج وأولاد وأبناء وبنات وإخوة وأخوات وكل من لا للإنسان عليه سبيل من أهله، فالمرأة تحث زوجها والزوج يحث زوجته والابن يحث أباه والأب يحث ابنه، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾[التوبة: 71] اللهم اجعلنا منهم.
فينبغي لنا أن نتعاون وأن نتواصى وألا نقتصر في الخير على أنفسنا، بل نحث أبنائنا وبناتنا وإخواننا وأخواتنا ووالدينا وكل من له حق علينا ولنا به صلة على البر والتقوى وصالح العمل.
"وأيقظ أهله" أيضًا من فوائده أنه ينبغي للإنسان أن يشمر في طاعة الله ـ عز وجل ـ ويجد ويجتهد لئلا تفوته الخيرات.
وفيه من الفوائد: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على عظيم ما هو عليه من منزلته عند رب العالمين وكبير جاهه وحط وزر ورفع ذكر وعظيم أجر، إلا أنه محتاج إلى العبادة فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجد ويجتهد في هذه العشر ما لا يجد ولا يجتهد في غيره ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يعيننا وإياكم على الصالحات، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.