المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
مستمعينا الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلا وسهلا ومرحبا بكم في مستهل هذا اللقاء المبارك من برنامجكم "استفهامات قرآنية"
في مطلعه يسرنا أن نرحب بضيفه صاحب الفضيلة الأستاذ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة القصيم، أهلا وسهلًا ومرحبًا بكم شيخنا الكريم.
الشيخ: حياكم الله! أهلا وسهل بالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأسأل الله لي ولكم العلم النافع والعمل الصالح.
المقدم: حياكم الله شيخنا الكريم، استفهامنا القرآني في هذه الحلقة ورد في محكم التنزيل ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾[البقرة: 258]
شيخنا الكريم! لو تحدثنا عن أداة الاستفهام المستخدمة في هذه الآية الكريمة، وفي مطلع هذه الآية الكريمة؟
الشيخ: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
فأداة الاستفهام المستعملة في هذه الآية في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾[البقرة: 258] هي: الهمزة، وهي أصل أدوات الاستفهام، أمُّ الباب كما يقال، وقد دخلت الهمزة في هذا السياق على نفي.
المقدم: وما يتعلق -أحسن الله إليكم- بالغرض من الاستفهام في هذه الآية؟
الشيخ: غرض الاستفهام في هذه الآية هو التعجيب من هذه المحاجة التي حاج بها هذا الخصم لإبراهيم -u-، وقيل: هي للتقرير، وقيل: هي للنفي، فإن همزة الاستفهام إذا دخلت على حرف نفي صيرت النفي تقريرًا، وكل ذلك في غالب سياقاتها ، كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾[الشرح: 1]، ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾[الزمر: 36]، كل ذلك لتقرير معنى هذه الآية، فمعنى ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾[الشرح: 1]، أي: قد شرحنا لك صدرك، ومعنى قوله –جل وعلا-: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾[البقرة: 258]، أي: قد علمت وقد أخبرت، هكذا قال جماعة من أهل العلم في كون هذا الاستفهام للتقرير، وقيل: للتعجيب، وقيل: لإنكار ما كان من هذا فيما يتصل في جحوده واستكباره.
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا الكريم، ألا يمكن أن يكون أسلوبا تشويقيًّا من القرآن الكريم؟
الشيخ: بلى، الاستفهام في الغالب يأتي لحفز النفوس إلى معاني ما ورد فيه الاستفهام، فيكون مضمنًا معنى التشويق للتطلع لهذا الخبر، والنظر إليه، وإصغاء السمع لما تضمنه من العبر والعظات والهدايات.
المقدم: أحسن الله إليكم شيخنا الكريم، نواصل رحلة التأمل والتدبر مع مستمعينا الكرام مع هذا الاستفهام القرآني المبارك.
لو تحدثنا -أحسن الله إليكم- عن هذا السياق القرآني الوارد في هذا الاستفهام؟
الشيخ: هذه الآية الكريمة سبقها خبر إلهي، قد اختص الله تعالى به أولياءه، فقال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ﴾[البقرة: 257]، بعد أن أخبر الله تعالى عن عظيم ولايته لعباده المؤمنين، وعن أثر ذلك في كونه يهديهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور، وما يقابل ذلك في شأن أعدائه، والذين لم يؤمنوا به، والذين خرجوا عن الصراط المستقيم، وأنه قد استحوذت عليهم الشياطين فأخرجتهم من كل نور إلى كل ظلمة، ذكر الله تعالى مثلًا ليتضح به نوعا الولاية؛ ولاية الله لأوليائه وعباده، وولاية الطاغوت لمن طغى وخرج عن الصراط المستقيم، فقص الله تعالى هذا الخبر، ما كان من إبراهيم -u- في محاجته لهذا الطاغية الباغي الذي كفر بالله، وادعى أنه رب العالمين، فقال الله تعالى في بيان ما جرى بين إبراهيم وهذا المستكبر قال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ﴾[البقرة: 258]، خاصم إبراهيم، فالمحاجَّة المراد بها المخاصمة في أي شيء، خاصمه في ربه أي: في رب إبراهيم وفي رب هذا الذي خاصمه، وهذا من أكبر العناد والاستكبار، وذكر الربوبية على وجه الخصوص لأن الإقرار بها مركوز في الفطر، فلا ينكر إلا استكبارًا وجحودًا وإعراضًا عن الهدى وإمعانا في العناد والكفر ﴿أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾[البقرة: 258]، بيان للباعث والسبب الذي أوقعه في هذه المخاصمة وهذا التكذيب أن الله منَّ عليه بما منَّ عليه من هذا المكان وهذه القدرة فطغى، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾[العلق: 6-7]، فطغى، هذا بسبب ما أتاه الله تعالى من القدرة والملك، حيث قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾[النازعات: 24]، فادعى الربوبية، ودليل ذلك أنه ناقشه إبراهيم فيما هو من آثار الربوبية، حيث قال إبراهيم -u-: ﴿إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾[البقرة: 258] ربي هو الذي يملك الإحياء والإماتة، وهذا من مقتضيات الإيمان بأن الله رب العالمين، فمن مقتضيات الإيمان بربوبية الله اليقين بأنه –سبحانه وبحمده- الذي يحيي ويميت، يهب الحياة ويسلبها جل في علاه.
قال هذا الجاهل المستكبر: ﴿قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾[البقرة: 258]، وهو يعرف أنه لا يملك الإحياء والإماتة؛ لأن ما ذكره إبراهيم -u- من الإحياء والإماتة ليس هو تعاطي أسباب الإحياء وتعاطي أسباب الإماتة، بل إيجاد الحياة، وإيجاد الإماتة، وهذا كما قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾[الملك: 2]، فلما كان منه هذا الاستكبار في الإقرار بأن الله تعالى المحيي المميت على المعنى الذي أراده إبراهيم وهو هبة الحياة وسلبها، لا تعاطي أسباب الحياة والموت، قال إبراهيم: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ﴾[البقرة: 258]، الله الذي يعبده، وانظر كيف انتقل إلى ذكر الألوهية، وكان قد قال في أول الأمر: ﴿قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾[البقرة: 258]، قال إبراهيم: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ﴾، ولم يقل: فإن ربي، وذلك لأجل تقرير أن ما سبق من دليل الربوبية وما سيأتي هو دال على أنه الله الذي لا يعبد سواه.
فبذلك أبطل ما كان يدعيه هذا من الربوبية، وأبطل ما كان يدعي هذا الطاغية من الألوهية، قال إبراهيم: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ﴾[البقرة: 258]، يأتي بالشمس من المشرق الذي هو جهة الشرق، وهذا شيء يشاهده الناس، فإذا كنت كما تقول من أنك رب وإله ﴿فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾[البقرة: 258]، فحوَّل هذا المسار، عند ذلك قال تعالى: ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾[البقرة: 258]، أي: لم يحر جوابًا ولم يملك ردًّا، بل انقطعت حجته واضمحل قوله، ولم يملك ما يجيب به إبراهيم u.
وصفه بالكفر لعظيم عناده واستكباره، وأنه أصرَّ رغم قيام الدلائل الواضحة والحجج والبراهين على صدق ما كان يدعو إليه إبراهيم -u- من عبادة الله وحده لا شريك له ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾[البقرة: 258]، وما الذي منعه من الإيمان بعد قيام تلك البراهين وتلك الحجج، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[البقرة: 258]، الذي منعه الظلم، وهو أعظمه، وهو الشرك بالله حيث سوى نفسه بالله الذي لا إله غيره، كما قال تعالى فيما قص على لقمان: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾[لقمان: 13].
فينبغي للمؤمن أن يعرف ما بثَّه الله من هذه الآية الدالة على عظيم قدره، وعلى استحقاقه للعبودية، فقد بث الله آيات في الآفاق وفي الأنفس دالة على أنه الحق، فينبغي للمؤمن أن تنفتح عين بصيرته، ويستدل بذلك على عظيم قدر ربه، فلا يكون منه إلا الاعتبار والاتعاظ، وليحذر من أولئك الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾[يوسف: 105]
أجارنا الله وإياكم من حالهم، ورزقنا قلوبًا بصيرة، وأعمالًا صالحة، وسلك بنا السبيل المستقيم، وأجارنا من الخزي، جعلنا من أوليائه الذين يخرجهم من الظلمات إلى النور.
المقدم: إذًا بهذه الدعوات المباركة مستمعينا الكرام نصل وإياكم إلى ختام حلقتنا من برنامجكم اليومي "استفهامات قرآني"، كان ضيفنا فيها فضيلة الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة القصيم، فشكر الله له والشكر يتواصل لكم أنتم مستمعينا الكرام على حسن الإنصات وكريم المتابعة، ولزميلي مسجل هذا اللقاء عثمان بن عبد الكريم الجويبر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.