الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ باب في مسائل من الصوم:
عن لَقِيط بن صَبِرَةَ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قُلْتُ: يَا رسول الله، أخْبِرْني عَنِ الوُضُوءِ؟ قَالَ: ((أسْبغِ الوُضُوءَ، وَخَلِّلْ بَيْنَ الأَصَابِعِ، وَبَالِغْ في الاسْتِنْشَاقِ، إِلاَّ أنْ تَكُونَ صَائِماً))رواه أَبُو داود والترمذي، وقال: ((حديث حسن صحيح)) أبو داود (142)، والترمذي (788)
هذا الحديث تضمن أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإسباغ الوضوء فقال: "أسبغ الوضوء" وإسباغ الوضوء هو تمرير الماء إلى كل العضو المأمور بغسله أو مسحه، فإن الإسباغ هو تمام تبليغ الماء للعضو ولو مرة واحدة، فالإسباغ في غسل اليدين على سبيل المثال هو أن يأتي الماء على جميع اليد التي أمر الله ـ تعالى ـ بغسلها إلى المرفق، وهكذا في غسل الوجه والقدمين، وإسباغ الوضوء فرض في الوضوء لا يصح الوضوء إلا بذلك، فقد رأى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ رجل على ظهر قدمه مثل الظفر لم يصيبه ماء، يعني قدر الظفر لم يصبه الماء، فأمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يعيد الوضوء أمره بأن يحسن وضوئه وفي رواية أمره بإعادة الوضوء والصلاة.
فينبغي أن يعتني الإنسان في أمر الوضوء بإسباغه تبليغ العضو الذي أمر بغسله يجب عليه أن يبلغ الماء جميع العضو، وقد جاء فيه من الفضل أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ألا أخبركم بما يحط الله تعالى به الخطايا ويرفع الدرجات قالوا: بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره"صحيح مسلم (251) يعني في الأوقات التي يكره فيها الإنسان أن يستوعب العضو بالغسل أن يبلغ الماء كل عضو الطهارة كأن يكون برد فيخشى من البرد فيقصر في غسل أعضاء الطهارة أو أن يكون الماء حارًا فيقصر كلاهما من المكاره إسباغ الوضوء على المكاره.
ففي هذا الفضل العظيم الذي ذكره النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبه إلى عضوين قد يقع فيهما إخلال من جهة الإسباغ، قال: "وخلل بين الأصابع" والتخليل بين الأصابع هو تبليغ الماء ما بين أصابع اليدين والرجلين، فالأصابع تشمل أصابع اليدين وأصابع الرجلين والتخليل هو إيصال الماء إلى ما بينهما، وتخليل الأصابع يتحقق به الإسباغ المأمور به وهو على نحوين يعني من حيث الحكم على قسمين؛ تخليل واجب، وتخليل مستحب.
التخليل الواجب هو أن تبلغ الماء ما لا يمكن تبليغه إلا بالتخليل يعني إذا كان ما بين الأصابع على وجه لا يمكن أن يصل الماء إلا بأن يخلل فيجب التخليل بأن تكون الأقدام مثلا التصقت أو الأصابع التصقت، لأي سبب من الأسباب أحيانا لاسيما إذا كان الإنسان يلبس جورب قد تلتئم أصابع قدميه فإذا صب الماء ما وصل ما بين الأصابع، فيحتاج أن يخلل التخليل في هذه الصورة واجب.
وقد يكون مستحبًا فيما إذا كان الماء قد بلغ؛ لكنه من باب الحرص على التبليغ لكل المأمور بغسله فهذا يكون مستحبًا.
ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "وبالغ في الاستنشاق"، الاستنشاق جذب الماء بالأنف هذا الاستنشاق يعني تجذب الهواء فيصعد الماء، فالاستنشاق هو جذب الماء بالأنف والمبالغة فيه هو تبليغ الماء إلى أعالي الأنف هذا من السنن المأمور بها في الوضوء إلا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ استثنى الصائم قال: "إلا أن تكون صائمًا" ففي حال الصيام لا يسن المبالغة في الاستنشاق لماذا؟ لأن ذلك قد يكون سببًا لتسرب شيء من الأنف إلى الجوف، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إلا أن تكون صائمًا" سواء كان صوم فرض أو نفل فيترك الصائم المبالغة في الاستنشاق.
ومثله في الحكم المضمضة، فإنه قد جاء في بعض الأحاديث قال: "ومضمض وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا"سنن أبي داود (142) فالمبالغة في المضمضة أيضًا، والمضمضة هي إدارة الماء في الفم ولو كان في أدنى ما يكون لا يلزم أن يبلغ إلى أقاصي الفم، فالمبالغة في المضمضة والاستنشاق مما يتحرز منهم الصائم، فلو أنه بالغ فإن صومه صحيح، ولو تسرب شيئًا إلى جوفه من غير اختياره، فإن ذلك لا يضره؛ لأن كل ما وقع من المفطرات من غير اخيار الإنسان، فإنه لا إثم عليه فيه ويدل لذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا نسي أحدكم فأكل أو شرب فليتم صومه" البخاري (1933)،ومسلم (1155) فأسقط النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المؤاخذة في مثل هذا ولم يأمر بالقضاء؛ لأنه غير مختار.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:
استحباب إسباغ الوضوء فيما إذا كان فيما زاد على التبليغ ووجوبه فيما كان استيعابًا للعضو.
وفيه: الندب إلى تخليل الأصابع على النحو الذي ذكرنا من الوجوب والاستحباب.
وفيه: الندب إلى الاستنشاق المبالغة في الاستنشاق في غير حال الصيام.
وفيه: أن الصائم ينبغي أن يحترز من أن يصل شيء إلى جوفه، فيبعد عن كل ما يكون سبب لوصول شيء إلى جوفه سواء كان بالاستنشاق أو بالمضمضة أو بالاستنشاق أو بغير ذلك من الأسباب التي يتسرب منها شيئًا إلى الجوف، ومن ذلك قطرة الأنف وقطرة العين وقطرة الأذن إن استغنى الإنسان عنها فليتجنبها؛ لعموم قوله: "إلا أن تكون صائمًا"، لكن لو كان احتاج إلى قطرة عين أو قطرة أنف أو قطرة أذن فليستعمل منه القدر الذي لا يصل إلى حد المبالغة، فإن تسرب شيء إلى جوفه من غير اختياره، فلا يؤثر على صحة صومه، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.