قد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب بر أصدقاء الأب والأم والأقارب والزوجة ومن يُكرم:
عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: أن النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ: «إنّ أبَرَّ البرِّ أنْ يَصِلَ الرَّجُلُ وُدَّ أبيهِ«صحيح مسلم (2552).
وفي رواية عبد الله بن دينار أن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ لقي رجلًا من الإعراب في طريق مكة فسلم عليه، فحمله عبد الله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كان يشد بها رأسه، فقال ابن دينار فقلنا له: «أصْلَحَكَ الله، إنَّهُمُ الأعرَابُ وَهُمْ يَرْضَوْنَ باليَسير»، فقال عبد الله بن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «إن أَبَا هَذَا كَانَ وُدّاً لِعُمَرَ بنِ الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ثم قال: وإنِّي سَمِعتُ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم، ـ يقول:إنَّ أبرَّ البِرِّ صِلَةُ الرَّجُلِ أهْلَ وُدِّ أبِيهِ».
وهذه القصة التي ذكر فيها عبد الله ـ رضي الله عنه ـ هذا الحديث النبوي فيها الإخبار بأن بر الأب لا يقتصر على الإحسان إليه وحده، حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إنَّ أبرَّ البِرِّ صِلَةُ الرَّجُلِ أهْلَ وُدِّ أبِيهِ»وفي الرواية الأخرى: «إنّ أبَرَّ البرِّ أنْ يَصِلَ الرَّجُلُ وُدَّ أبيهِ«. والبر هو المعروف والإحسان، وهو اسم يطلق على كل مل صالح ظاهر أو باطن، وقد جمع الله ـ تعالى ـ ذلك في قوله ـ تعالى ـ: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾[البقرة:177].
فالبر يشمل كل عمل صالح، فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إنَّ أبرَّ البِرِّ»يعني أعلى ما يكون من العمل الصالح المتعلق بالإحسان إلى الوالدين، فالبر هنا المراد به الإحسان إلى الوالد إذ إن البر يقوم على أداء حق الوالد وهذه الدرجة الدنيا، ثم يعلو بالإحسان إليه بالقول أو العمل بالحال أو بالجاه أو بالمال، بكل ما يمكن من أوجه الإحسان.
فذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث أولى أوجه البر، أحسن أوجه البر، أعلى أوجه البر للوالد قال: «إنَّ أبرَّ البِرِّ صِلَةُ الرَّجُلِ أهْلَ وُدِّ أبِيهِ»أي أن يصل الرجل من بينه وبين أبيه محبة، فقوله: ود أبيه أي من يحبه أبوه، من قراباته، أو من أصدقائه، ومعارفه أو ممن لهم معه صلة ود وحب مهما كان ذلك النوع من الصلة لأي سبب كانت تلك الصلة، فإن من بر الوالد بر ذويه، وقراباته، وأصدقائه، وأهل وده وحبه. ولم يبين نوع الصلة لأن الصلة تشمل إيصال الإحسان القولي أو العملي، ويشمل إيصال الإحسان للشخص نفسه أو لمن يتصلون به، فإن ذلك كله مشمول بالحديث فقوله: «إنَّ أبرَّ البِرِّ صِلَةُ الرَّجُلِ أهْلَ وُدِّ أبِيهِ»أي أن يحسن إلى من يحبهم أبوه، سواء أن كان الإحسان مباشر لهم لو لمن يسرون بالإحسان إليه.
ويشهد لهذا المعنى في السعة الخبر والقصة التي ذكرها عبد الله بن دينار أو الراوي عن ابن عمر في موقفهم عن هذا الإعرابي, فإنه أكرمه بحمله على الحمار الذي كان يركبه مع حاجته إليه، وبإعطائه العمامة التي كانت على رأسه مع حاجته إليها، حتى عاتبه من معه فقالوا: "أصلحك الله إنهم الإعراب يرضون باليسير" وفي رواية أخرى قالوا: غفر الله لك. فالمقصود أن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وصل هذا بالعطاء المباشر، لكن لم يكن الوصل لود أبيه مباشرة أي لمن يحبه أبوه وهو عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ مباشرة بل كان لولده، ولهذا قال: إن أبا هذا كان ودًا لعمر، فدل هذا على العموم الذي دل عليه الحديث وأن وصل ود الأب لا يقتصر على المودود نفسه بل عليه، بل يشمله ويشمل من يسر بوصله من ذويه وقراباته.
الحديث فيه من الفوائد أن بر الوالد أوسع من أن يكون متصلًا به مباشرة بل يشمله ويشمل كل ما يدخل السرور عليه، وفيه من الفوائد أن بر الأم يكون بوصل قراباتها وأهل ودها أيضًا؛ لأن الأم أولى بالبر من الأب حيث قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جواب من سأله: «مَنْ أحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أبُوكَ» صحيح مسلم (2548)، فإذا كان من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه فكذلك من أبر البر في شأن الأم أن يصل الرجل أهل ود أمه، وذكر الرجل والأب هنا على سبيل الغالب وإلا فالحكم يشمل بر الرجل وبر المرأة لأبيه ولأمه، وكذلك بر سائر من لهم حق من القرابات بصلة ذويهم، فإنه يكون من وصلهم لعموم الحديث.
المقصود أن صلة أهل ود الأم كصلة أهل ود الأب وأكد في تحصيل الفضل، وفي بلوغ أبر البر. وفيه من الفوائد أن البر لا ينتهي بموت الإنسان أي أن البر لا ينتهي بموت الوالد أبًا أو أمًا بل يكون بعد موتهما أيضًا. وفيه أن بر الوالد لا يقتصر على شهوده وحضوره، بل يكون حتى في غيبته فإنه إذا أكرم أهل ود أبيه في غيب أو أهل ود أمه في غيبتهم حتى في حال حياتهم يكون قد بلغ ما ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث من أن ابر البر أن يصل الرجل ود أبيه.
هذه بعض الفوائد المتعلقة بهذا الحديث ونسأل الله ـ تعالى ـ أن يعيننا على القيام بحقه، وأن يستعملنا فيما يحب ويرضى، وأن يرزقنا بر والدينا أحياء وأمواتًا على الوجه الذي يرضى به عنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.