نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب صلة أصدقاء الأب والأم، والأقارب والزوجة، ومن يُكرم:
وعن أَبي أُسَيد مالك بن ربيعة الساعدي ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: بَيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذ جَاءهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالَ: يَا رسولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ برِّ أَبَوَيَّ شَيء أبرُّهُما بِهِ بَعْدَ مَوتِهمَا؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا، والاسْتغْفَارُ لَهُمَا، وَإنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِما، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتي لا تُوصَلُ إلاَّ بِهِمَا، وَإكرامُ صَدِيقهمَا» رواه أَبُوداود.حديث رقم (5142)
هذا الحديث الشريف فيه الخبر عن سؤال هذا الرجل من بني سلمة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فأجابه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "نعم"، أي بقي من بر أبويك شيء تبرهما به بعد موتهما، وعدد له ـ صلى الله عليه وسلم ـ جملة من أوجه البر التي تكون بعد موت الأبوين، وهي أيضًا مما يكون في حياتهما لكن يمتد ذلك حتى بعد موتهما، فالمذكورات في الحديث أغلبها مما يكون في الحياة، أو ما يكون نظيرها في الحياة، ومنها ما يكون في الموت وهو إنفاذ عهدهما أي وصيتهما.
فبعد أن ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الجواب بنعم، عد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ خمسة أبواب من أبواب بر الوالد بعد موته، وابتدأ ذلك بأعظم ذلك نفعًا فقال: الصلاة عليهما، والمقصود بالصلاة هنا الدعاء لهما ومن ذلك صلاة الجنازة عليهما، لكن الصلاة تشمل صلاة الجنازة وتشمل الدعاء لهما على وجه العموم، وقد جاء الحث على ذلك أي على دعاء الولد لوالده بعد موته فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» سنن الترمذي (1376)، فمن أعظم البر الذي ينتفع به الوالد بعد موته الدعاء له وهو ما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صدر ما بقي من بر الأبوين بعد موتهما الدعاء لهما، ويكون في الحياة أيضًا لكن في الممات أعظم وصلًا لانقطاع العمل، وإلا ينتفع الإنسان بدعاء ولده حتى في حياته وهو من أوجه بر والده أن يدعو له في حياته كما قال ـ تعالى ـ: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا[23]وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾[الإسراء:23-24].
فندب الله ـ تعالى ـ إلى هذا الدعاء لهما وظاهره في حياتهما، وكذلك بعد موتهما. ثم ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الاستغفار، فقال: والاستغفار لهما، والاستغفار نوع من الدعاء إذ أنه سؤال المغفرة وطلب التجاوز والصفح والعفو من الكريم المنان جل في علاه. وذكره على وجه الخصوص بعد الدعاء هو من باب عطف الخاص على العام، فالدعاء يشمل كل ما يدعى به من خير الدنيا والآخرة، ثم الاستغفار دعاء خاص وهو سؤال العفو والتجاوز والصفح، ولا يستغني عنه أحد فكلنا لحاجة إلى الاستغفار، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكمل الخلق يقول: أني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة.
فلا غنى بأحد عن الاستغفار ولذلك كان من بر الوالد أن يستغفر له، من بر الوالد أبًا أو أمًا أم يستغفر له بعد موته، وكذلك كما قلنا: في الدعاء يكون في الحياة والممات وهو من أعظم أوجه البر كذلك الاستغفار يكون في الحياة والممات وهو من أعظم أوجه البر. والصلاة عليهما والاستغفار لهما يكون في الصلوات ويكون في غيرها من مواطن إجابة الدعاء ويكون في كل حين، وحال يمكن أن يدعى فيه لهما، فإن ذلك مما يسر به.
وقد جاء في الحديث: إن الرجل ليرى المنزلة العالية فيقول: ربي أنى لي هذا! يعني من أين جاء هذا لي ولم أعمله، فيقول: «باستِغْفارِ ولَدِك لَك»سنن ابن ماجة (3660)، فمن أعظم البر بالوالد الدعاء له والاستغفار له. ثالث ما ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أوجه بر الوالد بعد موته إنفاذ عهدهما من بعدهما إنفاذ عهدهما يعني أمضاء ما أوصيا به بعد موتهما، سواء أن كانت تلك الوصية في أموالهم بعد موتهم في التركة بالثلث ونحوه، أو كان ذلك فيما يتعلق بالتصرف من تزويج من يزوج من البنات ونحوهم، أو القيام على شيء من الأعمال التي أوصى بها بعد موته مما لا يتعلق بالتركة، فالوصية هي تبرع بعد الموت بمال، أو عهد بتصرف في شيء بعد الموت.
فكلاهما يدخل في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَإنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِما»، ونظيره في الحياة إمضاء ما وعدا به أو عاهدا عليه، أو عاقدا عليه فإن ذلك من برهما في حياتهما، لكن فيما يتعلق بالوصية هذا لا يكون برًا بالوالد من أب أو أم إلا بعد موتهما، وينبغي لكل من علم شيئًا من وصية والده أن يتقي الله ـ تعالى ـ فإن إنفاذ وصيته من بره وهو واجب فإن الله ـ تعالى ـ قد أمر بإنفاذ الوصية والقيام عليها قبل التركة كما قال ـ تعالى ـ: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾[النساء:11]، وفي الآية الأخرى: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾[النساء:12].
فينبغي حفظ العهد وإنفاذ وصية الوالد، وترك شح النفس فإنه يقع من بعض الناس شح بما أوصى به والده فيمنع ذلك. رابع ما ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أوجه بر الوالد بعد موته صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، يعني التي هما سبب في صلتهما، أو هما سبب في صلتها فإن ذلك من بر الوالد أن يصل أرحامه من أعمام وعمات، وإخوال وخالات، وأجداد وجدات، وسائر من يكون الوالد سببًا في الاتصال به ولذلك قال: التي لا توصل إلا بهما يعني التي كان سببًا في ثبوتها.
وخامس ما ذكر ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أوجه بر الوالد بعد موته قال: وإكرام صديقهما، إكرام صديقهما بكل ما يحصل به الإكرام من قول أو عمل أو حال فكل ذلك يدخل في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: وإكرام صديقهما. وقد روى مسلم عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ ما فعله بالإعرابي الذي كان أبوه ودًا لعمر حيث أعطاه عمامته، وأركبه مركوبه وكان حمارًا، فلما قيل له في ذلك قال: إن أبا هذا كان ودًا لعمر، ثم قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «إِنَّ أَبرَّ البرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ وُدَّ أَبِيهِ»، فهذا من أبر البر وأوفاه بعد موت الوالد من أب أو أم أن يصل قراباته.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد، من فوائده حرص الصحابة على مجالسة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وأكرم به من مجلس فيه سيد الورى صلى الله عليه وسلم.
وفيه أن مجالسه كانت عامرة بما ينفع من العلم النافع والعمل الصالح، والتوجيه إلى الخير والبر. وفيه مشروعية السؤال عما يحتاج الإنسان إلى أن يسأل عنه من مسائل العلم التي خفيت عليه، فقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾[النحل:43].
وفيه حرص هذا الرجل ـ رضي الله تعالى عنه ـ على بر والده حيًا وميتًا حيث سأل عن بر أبويه بعد موتهما، وما ذاك إلا إكرامًا لهما وصلة لما كان من بر في حياتهما. وفيه مبادرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجواب حيث قال: نعم، وفيه تمام نصحه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث أجاب الرجل بما لم يسأل عنه وذلك ببيان أوجه البر التي يبر بها الوالد بعد موته.
وفيه أن هذه الأعمال المذكورة مما يحصل به بر الوالد بعد الموت، وفيه أن أعظم البر وأعلاه للوالدين بعد موتهما الدعاء لهما، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدمه ذكرًا وفصله بيانًا، فقال: الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وهذان في معنى واحد. وفيه الحث على إنفاذ وصية الوالدين من بعدهما فإن ذلك من برهما، وفيه أن صلة رحم الوالد التي لا توصل إلا بهما من برهما بعد موتهما فينبغي أن يحرص الإنسان على صلة قراباته بعد موت أبيه من عم أو خال أو أعمام الأب أو إخواله فإن ذلك من بر الوالد.
وفيه أن إكرام الصديق من بر الوالد، حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَإكرامُ صَدِيقهمَا»، وهذا موضع الشاهد في الحديث للباب فإكرام صديق الرجل إكرام له، وفيه: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يترك من أبواب الخير التي توصل إلى كمال الخلق وتمام صالحه إلا وقد دل عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم. نسأل الله تعالى العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.