قد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في رياض الصالحين في باب إكرام أصدقاء الأب والأم والأقارب والزوجة ومن يُكرم:
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: خرجت مَعَ جرير بن عبد الله البَجَليّ ـ رضي الله عنه ـ في سَفَرٍ فَكَانَ يَخْدُمُني فَقُلْتُ لَهُ: لاَ تَفْعَل، فَقَالَ: إِنِّي قَدْ رَأيْتُ الأنْصَارَ تَصْنَعُ برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئًا آلَيْتُ عَلَى نَفسِي أنْ لا أصْحَبَ أحَدًا مِنْهُمْ إلاَّ خَدَمْتُهُ.مُتَّفَقٌ عَلَيهِصحيح البخاري (2888) وصحيح مسلم (2513).
هذا الخبر فيما كان بين هذين الصحابيين الجليلين أنس بن مالك خادم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فيه من العبر العظات ما ينبغي أن يوقف عليه، فأنس يقول: خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي وجرير من كبراء العرب، وأشرافهم، وكان مقدمًا في قبيلته، وكان جميلًا في مظهره ومنظره، وكان يقول: ما رآني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا تبسم، وكان في منزلة عالية من المكانة والرفعة، وكان أسن من أنس أكبر سنًا من أنس رضي الله تعالى عنه.
يخبر أنس قال: خرجت مع جرير في سفر، فكان يخدمني يعني كان جرير ـ رضي الله تعالى عنه ـ يخدم أنسًا وهو أصغر منه سنًا، يخدمه في سائر ما يكون من أوجه الخدمة التي تكون في السفر: تهيئة منزل، تهيئة مركب إصلاح ما يحتاج إلى إصلاح، صنع الطعام ونحو ذلك. فكان يخدم أنسًا ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقلت لأنس قال لجرير: لا تفعل يعني ما حاجة تفعل هذا، فقال جرير ـ رضي الله تعالى عنه ـ لأنس: أني قد رأيت الأنصار تصنع لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئًا يعني من الإكرام، والنصرة، والخدمة، والإحسان، والقيام به، والإجلال له والتعظيم له ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ما وقع في نفس جرير من إجلال هؤلاء وتعظيمهم، ومحبتهم لما كانوا قد صنعوا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النصرة والخدمة والفداء بالنفس والأهل والمال والبلد.
قال: آليت أي حلفت، على نفسي أن لا أصحب أحدًا منهم يعني من الأنصار إلا خدمته، يعني إلا قمت بخدمته، تبين جرير ـ رضي الله تعالى عنه ـ السبب في كونه كان يبادر إلى خدمة أنس في السفر، وأن ذلك لأجل ما رآه من عظيم صنعهم برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إكرامًا ونصرة وإجلالاً. فجاز أولئك بما رآه من بر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإكرامه أن يكرم وأن يخدم من خدموه، ونصروه، وأعانوه.
وهذا من تمام محبة جرير للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن هذا لا يكون إلا عن كمال الحب، فإن من أحب شخصًا أحب محبوباته، والأنصار لهم من المنزلة عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما بينه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «الأنصارُ شِعارٌ والنَّاسُ دِثارِ»صحيح البخاري (4330)وصحيح المسلم (1061) والدثار: هو ما يليه البدن، ويباشره من الألبسة. وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في بيان فضل الأنصار: «لا يُحِبُّ الأنصارَ إلا مؤمنٌ، ولا يُبْغِضُهم إلا منافقٌ»صحيح البخاري (3783)، وصحيح مسلم (75) ولهم من المنزلة والمكانة ما هو ظاهر معروف في كتاب الله ـ تعالى ـ وفي سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[الحشر:10].
فهكذا ينبغي أن يكون المؤمن في دعاءه وإحسانه لأولئك الذين نصروا الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنسأل الله أن نكون منهم، وهذا الحديث أو هذا الأثر أو هذه القصة فيها من الفوائد جميل ما بين الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ من صلات وعلاقات، وإخوة. وفيه أن الأسن والأكبر يخدم من دونه إذا كان لذلك موجب، ولا يعد في ذلك مسلبة أو منقصة، وفيه أن كمال حب الرجل وتمامه يحمله على محبة محبوباته، كما جرى من جرير في خدمته للأنصار.
وفيه: أن الإنسان إذا حلف على شيء من الصالح من العمل فإنه ينبغي له أن يفي بذلك، ولهذا لما قال: آليت على نفسي أن لا أصحب أحدًا منهم إلا خدمته، لم يعقب على ذلك أنس رضي الله تعالى عنه.
وفيه: أن الإنسان قد يستعين على نفسه في إلزامها بالعمل الصالح باليمين، ولو لم يكن ذلك واجبًا كما جرى من جرير رضي الله تعالى عنه.
وفيه: إكرام الله ـ تعالى ـ لأنس بن مالك فإنه لما خدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هيأ له من يخدمه، وهكذا الجزاء من جنس العمل فنسأل الله العلم النافع والعمل الصالح، والشاهد في هذا الحديث أن إكرام صاحب الإنسان، إكرام صديق الإنسان، إكرام من يحب الإنسان هو لا يقتصر على الإكرام المباشر بل يكون بإكرام من يحبهم، ومن لهم به صلة من فضل أو إحسان، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.