المقدم:بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلاة وسلام على نبينا محمد الأمين وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
أيها الإخوة المستمعون الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبًا بكم إلى هذه الحلقة المتجددة من برنامجكم الأسبوعي "الدين والحياة".
في مطلع حلقتنا هذه أيها الأحبة، نرحب بكم باسمي أنا عبد الله سعد بن عزة، وزميلي الذي سيساندني في تنفيذ وإخراج هذه الحلقة باسم الصحفي، نحن وأنتم جميعًا أيها الأحبة نرحب بضيف هذا البرنامج الدائم الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه في جامعة القصيم، والذي انضم إلينا في هذه اللحظات.
دكتور خالد! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وحياك الله.
الشيخ:وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبا بك أخي عبد الله، وحيا الله الإخوة والأخوات، وأسأل الله أن يجعله لقاء نافعًا مباركًا.
المقدم: اللهم آمين، حياك الله شيخنا العزيز، وحياكم الله أنتم أيها الإخوة والأخوات أينما كنتم، وعلى بركة الله تعالى نبدأ حلقتنا هذه.
أيها الأحبة! موضوعنا اليوم موضوعٌ غاية في الأهمية لكل مسلم ومسلمة، فكما تعلمون أن جميع المخلوقات، الأرض وما عليها من البحار والجبال والمخلوقات كلها والسماوات لا تساوي شيئا بالمقارنة بعظمة الله –سبحانه وتعالى-، فهو الخالق.
تكون كل هذه المخلوقات في قبضته وبين أصابعه يوم القيامة، هو –سبحانه وتعالى- العظيم ليس كمثله شيء وهو القوي الذي لا يضاهي قوتَه شيء آخر، ولكن للأسف بعض البشرية يجهلون قوة الله –عز وجل-وجبروته وعظمته سبحانه فيجترئون على الذنوب والخطايا، ولو علموا عظمته وقدره ما عصوه –سبحانه وتعالى-.
في هذه الحلقة أيها الأحبة سنتحدث عن أمر يوصل الإنسان إلى تعظيم هذا الخالق العظيم.
الله –عز وجل-جعل لنا شعائر من خلالها نظهر عظمة الله –سبحانه وتعالى-ونعظم هذه الشعائر، وتعظيمها يكون تعظيمًا لله –سبحانه وتعالى-.
شيخ خالد! نودُّ في البداية ونحن نتحدث عن تعظيم شعائر الله قبل أن ندخل في صلب الموضوع، نود أن نتعرف على معنى شعائر الله.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية طيبة للجميع، وأسأل الله أن يجعلني وإياكم من المعظِّمين للشعائر.
شعائر الله لفظ مركَّب، مضاف ومضاف إليه، الشعائر جمع شعيرة وهي العلامة، ولذلك يقولون: الشعيرة هي المَعْلَم الواضح وهي في الحقيقة مشتقة من الشعور، وهو الإعلام والإحساس والإدراك.
فشعائر الله هي كل شيء جعل الله تعالى له منزلة ومكانة أشعر بها خلقَه، وأعلمهم بها، وقررها لهم، وأشهرها بينهم، فتشمل بذلك جميع ما أمر الله تعالى به ونهى عنه، فكل شرع الله وما أمر به هو من شعائره.
وقال الحسن البصري مع هذا المعني: "شعائر الله دين الله كله"[تفسير القرطبي:6/37]، فتشمل كل الدين وقيل: بل الشعائر ليست جميع الأوامر والنواهي، إنما هي ما كان ظاهرًا من أوامر الله، ما كان بارزًا بيِّنًا.
ولذلك قيل: شعائر الله هي أعلام دينه الظاهرة التي أمر عباده بأن يتقربوا له بها، ولذلك جاء ذكر شعائر الله في معالم الحج والكعبة، والصفا والمروة من شعائر الله، وعرفه والمشعر الحرام كل هذه من شعائر الله، بل حتى الهدي الذي يتقرب به إلى الله وهي الإبل، قال: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾[الحج: 36]، فهذه عظَّمها الله تعالى وأمرنا بتعظيمها، وجعل تعظيمها ناشئًا عن تقوى القلوب، صادرًا عن صلاحها واستقامتها.
إذًا شعائر الله هي أعلام دينه الظاهرة، وهي كل ما عظمه الله من الأماكن والأزمان والأشخاص والأعمال، هذه هي شعائر الله، وبالتالي ينتظم كل ما جعله الله معظمًا: مكانًا كالبلد الحرام، زمانًا كالأشهر الحرم، شخصًا كنبي الله –عز وجل-، وأولياء الله –عز وجل-وعباده الصالحين، عملًا كالحج والصلاة والتقرب إلى الله بذبح الهدايا والأضاحي، كل هذا من شعائر الله –عز وجل-، فنسأل الله أن يرزقنا تعظيم شعائر الله.
المقدم:آمين، آمين، الصلاة أيضًا شيخ خالد هل تدخل في ذلك دخولًا أوليًّا لأنها ظاهرة؟
الشيخ:أكيد، هي ظاهرة وهي ثاني أركان الإسلام، هي أعظم من الحج، فإذا كان الحج من شعائر الله، فالصلاة أولى وأبدى؛ لأنها ثاني الأركان، وهي أعظم ما أمر الله تعالى به الصلاة من شعائر الله، صوم رمضان من شعائر الله، الزكاة من شعائر الله، الحج من شعائر الله، كل ما كان ظاهرًا من أوامر الله عامًّا شائعًا معروفًا بين الناس أنه مما يتقرب به إلى الله فهو من شعائر الله، الأذان من شعائر الله، صلاة الجمعة من شعائر الله، وهلمَّ جرًّا.
المقدم:إذًا هذا يدعونا أو يجرنا إلى سؤال آخر يقول: ما حقيقة تعظيم شعائر الله؟
الشيخ:تعظيم شعائر الله هو امتثال ما أمر الله تعالى في هذه الأمور التي عظمها، عظم مكة فجعلها محرمة، عظم الشهر الحرام فجعل له حرمة، عظم –جل وعلا-ما أمر به من العبادات في أركان الإسلام وما شرعه من الأعمال الصالحة، عظم أشخاصًا كالأنبياء والرسل ونبينا محمد –صلى الله عليه وسلم-وعباد الله الصالحين، وجعل للمسلم حرمةً وعظمة، فنهى عن قتله وأذاه، فتعظيم شعائر الله هو امتثال ما أمر الله تعالى به في كل ما عظمه، وفي كل ما جعل له حرمة ومنزلة ومكانة.
والتعبير بتعظيم شعائر الله أبلغ من امتثال أمر الله، يعني عندنا امتثال الأمر هو تنفيذ ما أمر الله تعالى به، هو فعل ما أمر الله تعالى به، لكن التعظيم أبلغ وأشمل من الفعل، وأرفع منزلة من الأداء؛ إذ إنه مقترن بمحبة الله، مقترن بالذل له، مقترن بالإخلاص له، مقترن بالإيمان والاحتساب اللذين هما شرط حصول الثواب والأجر «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»[صحيح البخاري:ح38، ومسلم:ح750/175]، وهذا ليس فقط في رمضان بل في كل الأعمال، من صلى إيمانًا واحتسابًا أدرك الأجر، من زكَّي إيمانًا واحتسابًا أدرك الأجر، من حجَّ إيمانًا واحتسابًا أدرك الأجر المرتَّب على حجِّه، من بر والديه إيمانًا واحتسابًا أدرك الأجر، من وصل أرحامه كذلك إيمانًا واحتسابًا أدرك الأجر وهلمَّ جرًّا.
فالتعظيم لشعائر الله أعلى منزلة من امتثال الأمر؛ إذ إنه امتثال مع احتساب وإخلاص ومحبة، فهو أداء الحق على وجه الكمال، مع الذل والخضوع للملك الديان –سبحانه وبحمده-.
المقدم: لا شك دكتور خالد أن كلَّ مسلم يودُّ بل يحب ويتمني أن يكون من أولئك الذين عظموا الله –عز وجل-؛ لأن المسلم بطبيعته -مادام مسلمًا- يدرك عظمة الله –عز وجل-، ولكن كيف يستطيع أن يصل إلى هذا التعظيم؟ يعني بمعنى آخر ما هي الطرق التي يحصل بها الإنسان تعظيم شعائر الله؟ وما هي الأعمال التي تساعد إلى الوصول إلى تعظيم الله –سبحانه وتعالى-؟
الشيخ: بين يدي الإجابة على هذا التساؤل، وهو كيف نبلغ درجةَ تعظيم الله –عز وجل-ينبغي أن نعرف منزلة تعظيم الله تعالى في العبادات.
تعظيم الله تعالى أصل في تحقيق العبودية لله –عز وجل-، بمعنى أنه قاعدة وأساس لا يصلح إيمان أحد ولا يستقيم دينه، ولا يقبل منه عمل إذا لم يحقِّق تعظيم الله –عز وجل-، ولذلك حقٌّ على كل مؤمن أن يعظم الله تعالى ليصلح إيمانه، ولتصلح أعماله، فتعظيم الله أجلُّ القربات وأرفع العبادات؛ فعنه تنشأ كلُّ أعمال الطاعة والعبادة.
ولذلك ابن القيم –رحمه الله-بيَّن منزلة التعظيم بقوله: "وعبادة الرحمن"، أي: حقيقة العبادة كيف يكون الإنسان عبدًا للرحمن؟ "
وعبادة الرحمن غاية حبِّه مع ذلِّ عابدِه هما قطبان[نونية ابن القيم:ص35]
فالعبادة لا تقوم إلا على هذين الأصلين، "لا إله إلا الله" لا تقوم إلا على كمال محبة الله، وتمام الذل له، والخضوع له الذي هو ثمرة التعظيم، فمن لم يحقق التعظيم في قلبه لم يكن في قلبه توحيد ولا إيمان.
ولذلك ينبغي أن يعظَّم قدر الله في قلوبنا، فإنه قد عاتب الله تعالى المشركين على ضعف قدر الله في قلوبهم حتى أشركوا به غيرَه، حتى سوَّوا به غيره؛ لأنه إذا ضعف تعظيم قدر الله –عز وجل-في قلب العبد، فإنه سيثمر الإخلال بما يجب لله –عز وجل-من الحقوق، أصل ذلك توحيده.
ولذلك قال الله تعالى فيما قصَّ عن نوح لما خاطب قومه داعيهم إلى عبادة الله وحده، قال: ﴿مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾[نوح: 13] يعني ما لكم لا تعظمونه حق تعظيمه.
قال ابن عباس ومجاهد: "لا ترجون لله عظمة"[تفسير الطبري:23/634] في معنى الآية يعني ليس ثمة في قلوبكم من قدر الله وتعظيمه ما يحملكم على عبادته وحده لا شريك له، وعلى الانقياد له جل في علاه.
كيف يبلغ الإنسان هذه المرتبة؟ هذه مرتبة عالية، مرتبة سامية، مرتبة رفيعة، مرتبة إذا بلغها الإنسان تلذذ بطاعة الله –عز وجل-، وجد طمأنينة وسكنًا، وجد كلَّ ما يتمناه من نعيم الدنيا، بتعظيم ربه -جل في علاه-، فبقدر ما يكون في قلب العبد من إجلال الله وتوقيره وتعظيمه ومحبته –سبحانه وبحمده-يكون حاله من السعادة والطمأنينة والسكن والراحة والنعيم المعجَّل الذي يدركه في الدنيا قبل الآخرة، والله تعالى لا يخلف الميعاد، وقد قال –سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾[الانفطار: 13]، يدركون النعيم بطاعة رب الأرض والسماوات –جل وعلا-.
كيف يدرك الإنسان تعظيم الله –عز وجل-؟ أخي الكريم عبد الله أخي والإخوة والأخوات! كلما ازداد الإنسان معرفة بالله ازداد تعظيمه له، وهذه قاعدة مطردة، إذا أردت أن تبلغ القدر العالي في تعظيم الله، فاجتهد في معرفة ربك –جل وعلا-، اجتهد في التعرف على الله، العلم بالله، ولذلك كان أشرف العلوم وأعلاها: العلم بالله؛ لما يثمره من المحبة له، والتعظيم له –جل وعلا-، فكلما ازداد الإنسان معرفة بالله ازداد له تعظيمًا.
ولهذا عظمة الله تعالى تُعرف بمعرفة أسمائه وصفاته، وقد ملأ الله كتابه بذكر ما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى التي إذا تدبر الإنسان معانيها، وقرأ ما تدلُّ عليه، واستحضر ما تضمنته من المعارف كان قدر الله في قلبه عظيمًا رفيعًا، يعني أنت إذا قرأت قول الله تعالى: ﴿وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[الجاثية: 37]، كيف يكون هذا أثره على قلبك في تعظيم الله أن الله الذي له الكبرياء في السماوات والأرض، وله العز المطلق والحكمة المطلقة.
عندما تقرأ قول الله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[الزمر: 67]، كيف يكون قدر الله تعالى في قلبك؟
لا شك أن المؤمن يعظُم قدر ربه في قلبه، ولذلك لما ذكر الله عظيم قدره، وأن الخلق ما قَدَروه حقَّ قَدْرِه ذكر سببًا من أسباب إدراك هذا المعنى، وهو تعظيم الله بذكر شيء من صفاته، قال: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾[الزمر: 67]، كيف لا يقدرون الله، وهذا شأنه جل في علاه؟ ﴿وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ﴾[الزمر: 67]، على عِظَمِها وسعتِها، وما فيها من الكواكب، وما فيها من الأفلاك ﴿وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[الزمر: 67].
ولهذا ينبغي للمؤمن أن يتعرف على الله تعالى بالنظر فيما له من الأسماء والصفات، وأن يعرف أيضًا عظيمَ قدر ربِّه بكبير افتقاره إليه، نحن لا شيء لولا نعمة الله، لولا رحمة الله، لولا فضل الله، فكلُّنا إليه فقير.
إذا أردت أن تعرف قدرَ ربك فاعلم أن السمع والبصر والفؤاد والقوى وما أعطاه، كله من الله –جل وعلا-، هو الذي أنعم عليه، فكل مفتقِر إليه لذاته –جل وعلا-، لا يخرج عن حُكْمِه ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ﴾[التوبة: 116]، ذلَّت لعظمته –جل وعلا- الخلائق في السماوات والأرض، ولهذا يذكر الله تعالى ذلك في كتابه ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾[مريم: 93]، فهذا يوجِّب التعظيم، يوجب تعظيم الله –عز وجل-.
مما يثمِر في قلب العبد تعظيمَ الله –عز وجل- أن يتفكر في هذه المخلوقات ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾[الذاريات: 21]، إذا نظرت إلى بديع صنع الله في خلقك أنت، كيف أعطاك الله السمع والبصر؟ كيف الله أحسن صورتَك؟ كيف كل عضو من أعضائك في الموضع الذي لا يمكن أن يكون غيرُه أفضلَ منه؟ من الذي صنع ذلك؟ إنه خالقك الله –عز وجل-.
فإذا تفكر الإنسان في خلق الله –عز وجل-انبعث في قلبه إجلال الله، نوح -عليه السلام- لما دعا قومه إلى عبادة الله وحده قال لهم: ﴿مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا﴾[نوح: 13]، أيُّ شيء حملكم على أن تنزلوا بقدر الله أن جعلتم غيرَه معبودًا معه –سبحانه وبحمده-، ثم بماذا ذكَّرهم؟ كيف أحيا في قلوبهم تعظيم الله وإجلاله؟
ذكَّرهم بأمور قال: ﴿مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾[نوح: 13-14]، هذا أول ما نبَّههم إليه، وهو سرُّ الله في خلق الإنسان، آيات الله في خلق الإنسان، هذه الأطوار التي مر بها: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم كسا العظام لحمًا، ثم كان جنينًا في بطن أمه إلى أجل، ثم خرج، ثم تطور به الخلق في الأطباق والأطوار التي خلقها الله تعالى وأدخله ذاك صنع الله –جل وعلا-ثم ذكرهم بما هو خارج عنهم ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾[نوح: 15-18]، هذا التذكير يدل على أن هذه الآيات التي في الآفاق وفي الأنفس تدلُّ على الله –عز وجل-، وتعرِّف به مما يوجب تعظيم الله –عز وجل-في قلوب العباد.
ويزيد عظمة الله تعالى في قلبك أن تعرف عظيم حكمة الله ورحمته فيما شرع لك.
يا أخي! عندما نتأمل بابَ الأحكام الشرعية نرى عظيمَ قدرِ الرب –جل وعلا-، وعظيم ما منَّ به علينا الله تعالى، يقول في مُحكَم كتابِه: ﴿أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾[النساء: 29]، ولعظيم حرمة الإنسان عند الله –عز وجل-، وعظيم تكريمه أن الله تعالى أباح للعبد أن يضيِّع بعض حق ربه في حالات الاضطرار حفاظًا على نفسه، قال الله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾[النحل: 106]، فقدم الله حرمةَ نفسِ الإنسان على حقِّه في توحيده حفاظًا عليه، وهذا يوجب محبةَ الله وتعظيمه.
ولهذا ينبغي أن تتأمَّل عظمة الله، فما شرعه لك –سبحانه وبحمده-فقد أحكم شَرعَه، وأتقن شرعه –جل وعلا-،نحا على نحو يلقي في النفوس ما يشرح الصدور، وقد عصم الله تعالى نفسك، وعصم عرضك بإيجاب الحد، وعصم مالك بما شرع من الحدود التي تحفظ الأموال، وخفف عنك الشرائع والأحكام مراعاة لحالك والظروف التي تمر بها، فشرع الله مُتقَن، وكلُّه رحمة بعباده.
مما يوجب تعظيم الله تعالى في قلب العبد، ويدرك به عظيمَ قدر ربِّه: أن يقرأ كلام الله –عز وجل-، تلاوة القرآن العظيم، سماه الله تعالى عظيمًا، فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾[الحجر: 87]، والقرآن العظيم فهو كلام رب العالمين، عظيم بما تضمَّنه من الدلالة والتعريف بعظمة العظيم جل في علاه –سبحانه وبحمده-، ولهذا من المهم أن يُكثِر الإنسان قراءة القرآن، وكلما ازداد قراءةً لكلام الله، وتلاوة له مع التدبر والتأمل في المعاني كان ذلك من أسباب صلاح قلبه، وتعظيم ربه، وملأ صدرَه إجلالًا لمولاه وربه –سبحانه وبحمده-.
مما يوجب تعظيم الله –عز وجل-: أن يعرف العبد ما جعله الله تعالى لرسوله –صلى الله عليه وسلم-من الحق.
وهذا يدخل في تعظيم شعائر الله، ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى.
المقدم: بإذن الله تعالى لعلنا نستكمل ما تبقي من موضوعنا دكتور خالد بعد هذا الفاصل.
نجدد التحية والترحيب بكم أيها الإخوة أينما كنتم، ونستكمل ما تبقى من موضوع حلقتنا هذه في برنامجكم الأسبوعي "الدين والحياة" مع ضيفنا الدائم سعادة الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم.
دكتور خالد! تحدثت قبل هذا الفاصل عن بعض الوسائل المُعِينة على وصول الإنسان إلى تعظيم الله –عز وجل-، وذكرتَ تلاوةَ القرآن الكريم وتدبرَه، فلا شك أن كلام الله –عز وجل-وما به من حكم وعظات، ووصف للجنة والنار، ووصف للسماوات والأرض وخلقِهِما إلى آخره، هذه كلها تدل الإنسان وتساعده على الوصول إلى تعظيم الله.
أيضًا تحدثت عن التفكر في خلق السماوات والأرض، لعلنا هنا نقف وقفة دكتور خالد مع أولئك الذين كانوا ربما بعيدين عن الدين وخاصة بزماننا هذا، ربما كانوا من الملحدين أو من الكفار وصلوا إلى عظمة الله –عز وجل-من خلال التفكر في مخلوقات الله –عز وجل-، وعندنا أمثلة كثيرة سواء كان في العالم الإسلامي أو في غير الإسلام، هناك من دخل في هذا الدين حينما وصل إلى عظمة الله –عز وجل-عن طريق التفكر فيما خلق الله –سبحانه وتعالى-لو تحدثنا في هذا الجانب شيئًا قليلًا.
الشيخ: لا شك أخي الكريم أن الله –جل وعلا-من رحمته بعباده أن نوَّع الطرق الموصلةَ إليه، والطرق التي يعرف بها جل في علاه، فليست ثمة طريق واحد فقط للإيمان بالله، بل الله تعالى في أول الأمر فطر قلوب العباد على محبته وتعظيمه، هذه فطرة في قلوب العباد تحملهم على طلب عبادة الله –عز وجل-والبحث عن إله يعبدونه.
ولذلك قال ابن القيم –رحمه الله-:
والقلب مضطر إلى محبوبه الأعلى فلا يغنيه عنه حب ثاني[نونية ابن القيم:ص358]
بمعنى أنه القلب مفطور على محبة الله تعالى، على الرغبة فيما عنده جل في علاه.
ولهذا من رحمة الله تعالى أن أقام الشواهد من الفطرة، ثم ثمة طرق أخرى تدل على الله –عز وجل-، وهو ما أوحى به إلى رسله، فالرسل جاءوا بالوحي المبين، والدلالة على رب العالمين جل في علاه، ومن ذلك ما أشار إليه ابن القيم –رحمه الله-في قوله في القصيدة الشهيرة
سافرت في طلب الإله فدلَّني الــ هادي عليه ومحكمُ القرآن[النونية:ص35]
دلَّني: أي عرفني به الهادي إليه وهو الرسول –صلى الله عليه وسلم-، "ومحكم القرآن" يعني ما جاء من الوحي، وهذا أوثق الطرق في معرفة الله –عز وجل-، وما يجب له
مع فطرة الرحمن جل جلاله(وهي التي أشرنا إليها) وصريح عقلي، أيضًا العقل يدل على الله، العقل في ماذا يتفكر؟ في آيات الله، وفي أسرار خلقه، وفي نشأة الإنسان وخلقه، يقود الإنسان إلى الإيمان بالله –عز وجل-، ولهذا ليس ثمة صاحب عقل سوي إلا ولابد ضرورةً أن يقوده عقله إلى الإيمان بالله، وطلب الطريق الموصل إليه –سبحانه وبحمده-.
والله تعالى أقام الآيات في الآفاق والأنفس، كما قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾[فصلت: 53]، وقال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾[يوسف: 105]، فمن لم يهتد أو لم يبلغه القرآن ابتداء، فإن في آيات الآفاق والأنفس ما يدعوه إلى عبادة الرحمن، فيبحث وسيجد الطريق الموصل إلى الله تعالى، بالتعرف على الطريق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[العنكبوت: 69].
فمن رام الهدى لابد أن يوفِّقَه الله تعالى إليه، ويدله عليه، نسأل الله أن يعيننا على ذلك.
ولهذا الذين جاء أن رأوا الأفلاك، طالعوا في البحار، وخاضوا في أسرار خلق الرحمن لم يملكوا إلا أن يقولوا: ثمة مدبرٌ خالق صانع لهذا الكون.
هذه المقدمة، لكن النتيجة التي لابد أن تتبع هذا الإقرار هو أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له.
المقدم: جميل، طيب إذا وصل الإنسان إلى هذا المعنى وهو تعظيم شعائر الله –عز وجل-واستطاع من خلال تلك الوسائل التي يعني سلكها من تلاوة للقرآن، وتفكُّر في خلق الله –عز وجل-هل هناك وسيلة أخرى كالدعاء يستطيع من خلاله الإنسان أن يصل إلى تعظيم الله –عز وجل-؟
الشيخ: نعم، الدعاء من أوسع الأبواب التي تصلح بها القلوب، ولذلك كل مؤمن يسأل الله في كل صلاة أن يهديه إلى الصراط المستقيم﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ﴾[الفاتحة:6]،والصراط المستقيم قوامه تحقيق العبودية لله –عز وجل-، ولا سبيل إلى تحقيق العبودية لله –عز وجل-إلا بمحبته -جل في علاه- وبتعظيمه، وهذا على وجه الإجمال.
وعلى وجه الخصوص كان من دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-«اللهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي، أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ».[مسند أحمد:ح18325، وصححه الحاكم:ح1923]
والخشية رمز التعظيم، الخشية هي خوف مقرون بتعظيم، ولا يمكن أن يبلغ الإنسان ذلك إلا بالعلم بالله –عز وجل-، وبالإلحاح في سؤال الله –عز وجل- أن يرزقه التعظيم، فبقدر ما يكون مع العبد من تعظيم الله تعالى يكون له نصيب من الخشية.
فالدعاء كما تفضلت هو من الطرق الوطيدة التي يدرك الإنسان بها تعظيم الله، فيسأل العبد ربه وهو ساجد، وفي أدبار الصلوات، وفي أوقات الأسحار، وبين الأذان والإقامة.
هذا الدعاء النبوي الذي كان يختم النبي –صلى الله عليه وسلم-به صلاته «أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ» يعني في الحضور وفي الانفراد، بين الملأ وعند الخلاء، فإنه من حقق ذلك لا يمكن أن يكون إلا معظمًا لله –عز وجل-، نسأل الله تعظيمه والقيامَ بحقِّه.
المقدم: أيضًا هناك أمر في تقديري دكتور خالد أنه مهمٌّ جدًّا وهو الإقلاع عن الذنوب والمعاصي التي قد تورِث الإنسانَ قسوةَ قلبه، فإذا أقلع الإنسان عن هذه الذنوب، واستشعر من خلال هذا الإقلاع عظمة الله –عز وجل-، فإنه يصل فعلا إلى تعظيم الله –عز وجل-.
الشيخ: بالتأكيد يا أخي الكريم، ولهذا قال ابن القيم –رحمه الله-: "وَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ: أَنَّهَا تُضْعِفُ فِي الْقَلْبِ تَعْظِيمَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ"[الداء والدواء:ص69] ، وهذه قاعدة مطردة أن كل معصية طبعا إن لم يتب فإنها ستورثه ضعفًا في تعظيم ربه –جل وعلا-.
والعيوب والمعاصي والأخطاء سلاسل يأخذ بعضها برقاب بعض، وهي خطوات كما وصفها الله –عز وجل-، فالشيطان لا يبدأ بالإنسان من النهاية، فيدعوه إلى الكفر أو الشرك، بل يبدأ به خطوة خطوة إلى أن يستحوذ عليه، كما قال الله تعالى: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ﴾[المجادلة: 19].
فينبغي للإنسان أن يكون على حذر، وجِبِلَّة الإنسان الخطأ، كلنا خطَّاء ما منا أحد يسلم من خطأ، كلنا ذو ذنب، ولو لم نذنب ونستغفر لذهب الله بنا وأتى بقوم يذنبون ويستغفرون، لكن هذا ليس دعوةً للعصيان ولا تبريرٌ للخطأ، إنما هو تنبيه إلى أنه من ضرورات النجاة من شؤم المعاصي والذنوب أن نبادر إلى التوبة والاستغفار.
قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «كلٌّ ابنِ آدم خطَّاءٌ»،يعني كثير الخطأ، خطَّاء صيغة مبالغة تدل على كثرة الخطأ وعِظَمه، لكن كيف نعالج هذه الجِبِلَّة وهذه الأمر الذي خلق الله تعالى عليه الناس أن نؤوب إليه، وأن نستغفر، ولذلك قال: «وخيرُ الخطَّائين التوَّابون»[سنن الترمذي:ح2499، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه(ح:7617)]، ونحن لو أراد الإنسان أن يحسب غلطه في كلامه، في مجلس من المجالس، أو في اجتماع من الاجتماعات لوجد شيئًا كبيرًا من الهفوات والأغلاط، فلنبادر إلى التوبة والاستغفار، ولنكثر من الاستغفار.
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي –صلى الله عليه وسلم-كان يحسب له في المجلس «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الغَفُورُ»[سنن الترمذي:ح3434، وقال:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ] يعني هو جالس بين أصحابه يستغفر مائة مرة ، وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما أحوجنا إلى أن نكثر من الاستقامة؛ لأن ذنوبنا كثيرة، وأحيانًا قد يقول الإنسان: أنا ما عندي ذنب، أنا ما وقعت في خطأ، أنا ما أخطأت.
يا أخي! نحن نحتاج الاستغفار حتى لو لم نخطئ؛ لأننا لا نبلغ حقَّ الله تعالى وإنعامه علينا، ولذلك نحن ماذا نقول إذا سلَّمنا من الصلاة؟ أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، لماذا؟ لأننا أن ما قمنا به من العبادات والطاعات مهما بلغ فإن حق الله علينا أعظم.
ولهذا قال النبي –صلى الله عليه وسلم-لأصحابه: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ» قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " لاَ، وَلاَ أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ»[صحيح البخاري:ح5673، ومسلم:ح2816/] هذا ليس إهمالًا للعمل، ولا نزولًا به، لكن تنبيه إلى أن أعمالنا مهما عظمت فهي تقصر عن أن تبلِّغنا ما نؤمّل من الفوز والنجاة لولا رحمة الله –عز وجل-، فنسأل الله من رحمته.
المقدم: آمين، لعلنا قبل أن نختم حديثنا في هذا الموضوع، موضوعنا مهم جدًّا حقيقة وهو تعظيم الله –سبحانه وتعالى-، تعظيمه من شعائر الله –سبحانه وتعالى-يقوده إلى تعظيم الله –عز وجل-، هناك من الوسائل التي ذكرتَها شيخ خالد التي توصل الإنسان بإذن الله تعالى إلى تعظيم شعائر الله لعلها -إن شاء الله- تكون واضحة، وربما الموضوع كبير جدًّا لا نستطيع أن نحيط به في هذه العجالة من هذا البرنامج، ولكن خذوا يعني ما تيسر منه وما وفقنا الله إليه.
هناك من الأشياء أو الأمور التي توصل إلى تعظيم شعائر الله، تلك الأشهر التي حرمها الله –عز وجل-الله –عز وجل-كما تعلم شيخ خالد أنه حرم أشهرًا معينة في العام، وجعل العبد فيها مقيدًا بأمور لا يستطيع أن يؤدِّيَها في هذه الأشهر الحرم، نود التحدث عن هذه الأشهر الحرم، ما هي خصائصها؟ وما هي أحكامها؟
الشيخ: فيما يتعلق بالأشهر الحرام هي شيء من شعائر الله –عز وجل-التي تندرج في قول الله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[الحج: 32]، فتعظيم شعائر الله هي ثمرة ما في القلوب من التقوى والإيمان، والله تعالى يخلق ما يشاء ويختار.
عظَّم الله تعالى أشخاصًا كالأنبياء وأولي العزم من الرسل والأنبياء وأهل الإيمان والولاية والصلاح والاستقامة، عظَّم الله تعالى أعمالًا يتقرب بها العباد إليه –جل وعلا-، عظم الله تعالى أحوالًا فكانت عظيمة عنده كحال افتقار العبد إلى ربه، فحال الضرورة والاضطرار إلى الله تعالى من الأحوال العظيمة عند الله، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ﴾[النمل: 62] لماذا؟ لأن حاله عظيمة عند الله –عز وجل-، فيجيب المضطر ولو كان كافرًا؛ لأنها حال يخرج فيها الإنسان عن كل حول وقوة، ولا يجد له ملجأ ولا منجا ولا مبلغًا لغايته ولا مدركًا لحاجته إلا بالله –عز وجل-.
عظم الله تعالى أزمنةً فجعلها محلًّا للتعظيم، والتقرب إليه –جل وعلا-، ومن ذلك الأشهر الحرم، عظم الله أماكن كمكة البلد الحرام وكالمساجد، فهي أحب البقاع إلى الله، وكالمدينة فجعلها حرمًا وحرمها رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، هذه كلها من أوجه اصطفاء الله تعالى لأشياء جعل لها حرمة وتعظيمًا.
الأشهر الحرم ذكرها الله تعالى في قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾[التوبة: 36]، معنى حُرُم أي: لها مكانة ومنزلة وتوجب صيانة وحفظًا، ولذلك قال بعدها: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾[التوبة: 36]، قوله: ﴿فِيهِنَّ﴾، جماعة من المفسرين قالوا: يعود على كل الأشهر[ممن قال بهذا القول ابن عباس رضي الله عنهما. انظر تفسير الطبري14/238]، وآخرون قالوا: بل يعود على أقرب مذكور وهي الأربعة أشهر[ممن قال بهذا القول قتادة. انظر تفسير الطبري14/238]، فحذر الله على وجه الخصوص من الظلم في هذه الأشهر، مع أن الظلم محرم في كل زمان وفي كل مكان، وفي كل حال ومع كل أحد، فإن الظلم محرم حرمه الله على نفسه وحرمه بين عباده، «يا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا»[صحيح مسلم:ح2577/55] إنما خص الله تعالى هذه الأشهر بتحريم الظلم فيها، وهو مخالفة أمره –جل وعلا- وترك ما أمر به، الوقوع فيما نهى عنه في هذه الأشهر هو مما اختص الله تعالى به هذه الأشهر الحرم، فجعلها معظمة.
قبل أن نخوض فيما تختص به هذه الأشهر الحرم، ما هي الأشهر الحرم؟
الأشهر الحرم ذكر الله أنها أربعة، هذا من حيث العدد، أما من حيث بيان هذه الأشهر الحرم، وما هي هذه الأشهر الحرم؟ فقد جاء بيانها في كلام النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-حيث قال –صلى الله عليه وسلم-كما في حديث أبي بكرة في الصحيحين «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا»،مراد النبي –صلى الله عليه وسلم-يعني أن الزمان رجع على نفس الهيئة التي كانت يوم خلق الله تعالى السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا ، كما قال: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾[التوبة: 36]، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-ثم بينها فقال: «ثلاثٌ مُتوالياتٌ»، يعني ثلاثة أشهر يأتي بعضها وراء بعض، وهي: ذو القعدة الذي نحن في أوله الآن، وذو الحجة الذي يليه، والمحرم وهو أول أشهر السنة الهلالية السنة الهجرية، هذه ثلاثة أشهر هي من الأشهر الحرم، بيَّنها النبي –صلى الله عليه وسلم- بقوله: «ثلاثٌ مُتوالياتٌ، ذو القعدةِ وذو الحجَّةِ والمحرَّمُ» فهذه الأشهر الثلاثة هي من الأشهر الحرم التي خصها الله تعالى بقوله: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾[التوبة: 36].
أما رابع الأشهر فهو رجب، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ»[صحيح البخاري:ح4662، وصحيح مسلم:ح1679/29] يعني بين الشهر السادس والشهر الثامن في ترتيب الأشهر الهجرية في السَّنَة الهجرية، رجب وهو الشهر السابع، هذا الشهر أيضًا من الأشهر الحرم، وأضافه النبي –صلى الله عليه وسلم-إلى مُضَر وهم بطن من بطون العرب، ويرجع إليه نسب النبي –صلى الله عليه وسلم-، السبب في ذكر مُضَر؛ لأنهم كانوا أعظم العرب تعظيمًا لرجب، فإنه لما كان شهرًا منفردًا ليس معه غيره ضَعُف قدره عند بعض الناس، فانتهك حرمته إلا هؤلاء فكانوا يعظمونه، فلذلك أُضِيفَ الشهر لهم.
هذه الأشهر الأربعة لها منزلة، أولًا: منزلتها أن الله تعالى وصفها بأنها حرم، ولا شك أن ما هو من الأمور التي جعل الله لها حرمة هو من شعائر الله، فكل شعائر الله لها حرمة، وقد قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾[الحج: 30] خير له في العاجل وخير له في الآجل.
فحق هذه الأشهر التي نحن في أولها أن تُعظَّم بتعظيمها، بكف النفس عن العصيان فيها، أن يستحضر الإنسان أن هناك أشياء حرامًا، وبالتالي لا تظلم أول من لا تظلمه لا تظلم نفسك بمعصية الله والشرك به جل في علاه، لا تظلم الخلق بالتعدي على حقوقهم والتجاوز على أعراضهم أو على أموالهم أو على دمائهم، سواء في حضورهم أو في غيبتهم.
فيجب على الإنسان أن يكفَّ نفسه عن الظلم، وهذه الأشهر من رحمة الله أنها لم تكن متتابعة حتى يمرِّن الناس أنفسهم ويدربوا أنفسهم على كف أنفسهم عن العصيان، فثلاث متواليات يعني أشبه ما يكون بدورة من ثلاثة أشهر تدرب فيها نفسك، وتوطِّن فيها نفسك على أن تكف نفسك عن العصيان، ثم إذا انقضت هذه الأشهر الثلاثة جاء الشهر السابع بعد خمسة أشهر من أشهر الهلالية فعاد التحريم حتى يذكِّرك بأنك محتاج إلى أن تمرِّن نفسك على حفظ شعائر الله –عز وجل-، والاستمرار في الطاعة في مثل المحطات التي يتزوَّد بها الإنسان في طريق سيره إلى الله –عز وجل-.
هذا من خصائص هذه الأشهر أنها أشهر حرم، وأن الله تعالى نهى عن الظلم فيها.
من أوجه الظلم هو عدم حفظ حق هذه الأشهر، ولهذا قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾[المائدة: 2]، أي لا تُذهِبوا حرمَتَها ولا تستبيحوا ما جعله الله تعالى معظمًا، له منزلة: من الأماكن، من الأعمال، من الأشخاص، من الأحوال، فعظِّموا ما عظمه الله ﴿لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾[المائدة: 2]، أي ولا تُحلِّوا الشهر الحرام، والمقصود بالشهر الحرام هي الأشهر الحرم الأربعة، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب.
فنهى الله تعالى عن إحلالها، أي: لا تمتهنوها، ولا ترفعوا عنها ما جعله الله تعالى لها من الحرمة والمنزلة، وهذا يشمل كلَّ ما أمر الله تعالى تعظيمه في هذه الأشهر.
ولهذا العلماء رحمهم الله في قوله: ﴿وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ﴾[المائدة:2]،ذكروا في معناها أن المراد بالشهر الحرام هنا شهر رجب، والصواب أنه يشمل كلَّ الأشهر الحرم، وليس فقط خاصًّا برجب.[تفسير السمعاني:2/7]
هذا ما يتعلق بما يكون من حرمة هذه الأشهر الحرم، ومن رحمة الله تعالى أن جعل في هذه الأشهر مواسم برٍّ وطاعة، ففي هذه الأشهر أشهر الحج، بعض أشهر الحج، وهي الأشهر التي يَفِد الناس فيها إلى البيت الحرام معظِّمين، وأشهر الحج ثلاثة؛ شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، فهما من الأشهر الحرم، وهما من أشهر الحج.
وفيها أيضًا عشر ذي الحجة التي هي خير أيام الزمان، فهذا مما اختص الله تعالى به الأشهر الحرم، وقال فيها النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيها أحبُّ إلى اللَّهِ، من هذِهِ الأيَّامِ»[سنن الترمذي:ح757، وقال:حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ] يعني العشر من ذي الحجة، فيها يوم عرفه الذي هو من خير أيام الزمان، يحط الله تعالى فيه الخطايا والمعاصي والسيئات، وقد قال: «مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ»[صحيح مسلم:ح1348/436]، فيه يوم النحر، فيه أيام التشريق، فيه مناسك الحج التي فيها من أعظم الأعمال التي تقرب إلى الله تعالى، فيه ذبح الأضاحي والهدايا التي يتقرب بها إلى الله –جل وعلا-، فيه عاشوراء وهذا في شهر الله المحرم، وفيه أيضًا شهر الله المحرم الذي قال فيه النبي –صلى الله عليه وسلم-لما سئل أفضل الصيام بعد رمضان قال: «شهر الله المُحرَّم».[صحيح مسلم:ح1163/202]
أما رجب فإنه شهر أيضًا له منزلة ومكانة وحرمة، وإن لم يكن قد ثبت فيه الندب إلى عمل صالح فيه على وجه الخصوص حديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم-.
وبهذا يتبين لنا أن هذه الأشهر الحرم هي محلٌّ لتعظيم الله –عز وجل-بما عظمه الله من الأعمال، وقد ذكر جملة منها: من حج، من صيام، من كثرة عمل صالح في العشر الأول من ذي الحجة، من صيام عاشوراء، من كثرة الصيام في محرم، أيضًا في الجملة العمل الصالح لهذا الزمان له منزلة؛ لأن هذا الزمان مبارك، والقاعدة أن الزمان المبارك الأعمال الصالحة فيه يزيد أجرها، ويعظم ثوابها.
أيضًا من جانب آخر هذه الأشهر الحرم ينبغي أن يكفَّ الإنسان فيها نفسه عن المحرمات، وهذه تدريب لنا يا إخوان أن نكفَّ أنفسنا عن كل خطأ؛ غيبة، نميمة، نظر محرم، سماع محرم من قول أو عمل وهلمّ جرًّا، أكل الأموال بالباطل، نكف أنفسنا في هذه الأشهر الحرم تعظيمًا لله –عز وجل-، وتعظيمًا لما عظمه –سبحانه وبحمده-، فإن ذلك مما تعظم به هذه الأشهر الحرم.
نسأل الله أن يرزقنا تعظيم شعائره والقيام بحقه.
المقدم: بارك الله فيك شيخنا العزيز، وأحسن إليك، ذلك مما وفقك الله إليه في خدمة هذا الموضوع المهم جدًّا الذي هو تعظيم شعائر الله ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾[الحج: 32] أن الإنسان إذا وصل إلى تعظيم كل شعائر الله الظاهرة منها وغير الظاهرة فإن ذلك يؤدي به إلى التقوى، والتقوى تقوده بإذن الله تعالى إلى مرضات الله –عز وجل-، وإلى جنته جنة النعيم.
دكتور خالد! سعدنا بالحديث إليك في هذا الموضوع، لعلنا -إن شاء الله تعالى- يكون لنا لقاء آخر في برنامجنا هذا في حلقة قادمة وموضوع آخر، نسأل الله –سبحانه وتعالى-أن يجزيك خير الجزاء، وأن يجعل ما تقدمه في ميزان حسناتكم، وأن نلتقي بك في حلقة الأسبوع القادم، وأنت بخير وعافية.
الشيخ: آمين، وإياك، وأسأل الله تعالى لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا من عباده المتقين، وأن يملأ قلوبنا محبة وتعظيمًا، وأن يصلح لنا السر والعلن، وأن يوفقنا في كل خير، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء وشر، وأن يوفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين إلى ما فيه خير العباد والبلاد، وأن يدفع عن بلادنا كل سوء وشر، وأن ينصر جنودنا المرابطين، وأن يحفظنا من كل نائبة حاضرة أو غائبة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.