الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل: عن عبد الله عمر ـ رضي الله عنهما ـ: أن النَّبيّ ـ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«أرَانِي فِي المَنَامِ أتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَاءنِي رَجُلانِ، أحَدُهُما أكبر مِنَ الآخرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ، فَقِيلَ لِي: كَبِّرْ، فَدَفَعْتهُ إِلَى الأكْبَرِ مِنْهُمَا» رواه مسلم مسنداً (2271), والبخاري تعليقًا (246).
هذا الحديث الشريف فيه إخبار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن رؤيا رآها في المنام، ورؤيا الأنبياء وحيٌ كما هو متفقٌ عليه وكما دلَّ عليه قول الله ـ تعالى ـ في ما قصه عن إبراهيم: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾[الصافات:102] فكان ما كان من خبرهما الذي قصه الله تعالى.
فرؤيا الأنبياء حق، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخبر عن رؤيا رآها في المنام قال: :«أرَانِي فِي المَنَامِ أتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ» يعني أستعمل سواكًا في تطهير فمي، «فَجَاءنِي رَجُلانِ» ولم يذكر من هما؟ «أحَدُهُما أكبر مِنَ الآخرِ» وذكر وصفهما وهو أنهما متفاوتان في العمر «أحَدُهُما أكبر مِنَ الآخرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ» أي أعطى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السواك الذي كان يستاك به الأصغر من هذين الرجلين اللذين أتياه في المنام فقيل له: كبِّر ولم يذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من القائل، وإنما أخبر بالمقول، فكان منه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن امتثل، قال: «فَدَفَعْتهُ إِلَى الأكْبَرِ مِنْهُمَا»أي فأعطيت السواك الأكبر خلاف ما كان قد بدأ به من دفعه إلى الأصغر.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:-
من فوائده:إخبار الإنسان بما يراه في المنام إن كان في ذلك نفعٌ لا سيما إذا كان المنام له معنى، وأما فيما يتصل بحق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن رؤياه حق، وكذلك أهل الإيمان فإن رؤياهم في آخر الزمان لا تكاد تكذب كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «إذا اقتربَ الزَّمانُ لم تَكَدْ رؤيا المؤمنِ تَكْذبُ»، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وَرُؤْيَا المُؤْمِنِ جُزْءٌ منْ ستَّةٍ وَأرْبَعيَنَ جُزْءًا مِنَ النُبُوةِ»صحيح البخاري (7017) «وأصْدَقُكُم رُؤْيَا: أصْدُقكُم حَديثًا»سنن أبي داود (5019).
فالرؤيا إذا كان تضمنت نفعًا عامًا أو خاصًا لأحد، فإنه يخبر بها الإنسان وينتفع مما فيها من المعنى، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أرَانِي فِي المَنَامِ أتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ» أي استعمل سواكًا والسواك مما بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه الفضل والمنزلة العالية حيث أكثر على أصحابه في الأمر به.
ففيه من الفوائد:الحث على السواك فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يستاك ويكثر من الأمر به حتى قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «قدأَكْثَرْتُ علَيْكُم في السِّوَاكِ»صحيح البخاري (888) ، «لَوْلاَ أنْ أشُقَّ عَلَى أمتي لأمَرْتُهُمْ بِالسَّوَاكِ مَعَ كُلِّ وُضوءٍ عِنْدَ كُل صَلاةٍ»صحيح البخاري (7240) وهذا يدل على تأكد هذه الفضيلة.
وفيه من الفوائد: أن الإنسان يجوز له أن يعطي سواكه غيره ليستعمله، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دفع سواكه لغيره ليستعمله، فيجوز استعمال السواك من أكثر من شخص لا سيما إذا كانوا ممن لا يأنف بعضهم من بعض، وأما سواك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه غنيمة لمن فاز به ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو أطيب الناس ريقًا وأكرمهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ريقًا فهنيئًا لمن فاز بشيءٍ من ريقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ولذلك كانت عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ كما جاء عنها إذا دفع إليها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سواكه لتطيبه استاكت به قبل أن تطيبه اغتنامًا لبركة ريقه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وأما غيره فإنه يجوز للإنسان أن يستعمل سواك غيره إذا كان لا يزعجه ذلك، وإذا كانت تطيب نفسه به، فأما إذا كان صاحب السواك لا يرضى أو كان الشخص لا تطيب نفسه بذلك، فإن الأولى ترك ذلك؛ لأن الحق لصاحب السواك إذا لم يكن راضيًا، وكذلك إذا لم تطب نفس الإنسان فإنه لا يلزمه أن يفعل ذلك.
والشاهد أنه يجوز دفع السواك لمن ينتفع به ويستاك به، وقد يكون الاستياك من الطرف الآخر, فلا يلزم أن يكون الاستياك من موضع استياك الذي قبله، وإنما فيه الحث على السواك، ولذلك ندب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السواك بدفعه إلى هذين الرجلين وهذا فيه الحث على السواك كما دلت عليه الأدلة.
وفيه من الفوائد:أيضًا تقديم الأكبر فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما دفعه إلى الأصغر قيل له كبِّر فدفعه إلى الأكبر منهما، وهذا فيه تقديم الإنسان بكبر سنه في ما إذا استوى مع غيره في المنزلة أو في موجبات الاستحقاق، أما إذا كان هناك ما يوجب تقديم كأن يكون عن يمينه الأصغر وعن يساره الأكبر ففي هذه الحال يجوز أن يُخِل بالترتيب في السن تقديمًا للأيمن لشرف منزلته كما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع بعض أصحابه حيث قدم من على يمينه على غيره ممن هو أكبر منه سنًا ومقامًا.
فالمقصود أن تقديم الأكبر إذا لم يكن ثمة معيارٌ آخر للتقديم، أما إذا كان هناك ما يوجب التقديم من كونه على يمين المعطي, فإنه يقدم الأيمن كما دلت على ذلك السنة.
وفيه من الفوائد أيضًا:بيان سرعة امتثال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما يوحى إليه فإنه لما قيل له كبِّر دفعه مباشرة إلى الأكبر، وهنا ينبغي للإنسان إذا نبه إلى صواب ونبه على خطأ أن لا تأخذه العزة بالإثم بل يبادر إلى امتثال الصواب وإلى الأخذ بما ينبغي أن يكون دون استكبار, فإن ذلك من أسباب علوه ورفعته ومن موجبات تميزه وانقياده للحق، فلا تأخذه العزة بالإثم، بل يبادر إلى امتثال ما هو الحق.
وفي هذا الحديث بيان أن المقصود بالرؤى ينبغي أن يخبر دون التعيين، فإن النبي لم يعين الرجين قد يكون لا يعرفهما وقد يكون يعرفهما ولم يذكر اسمهما، وكذلك لم يذكر من القائل لكن واضح أن القائل هو ممن يطاع، ولذلك قال بعض أهل العلمفتح الباري (1/255): إن القائل هو كبِّر هو جبريل ـ عليه السلام ـ وما يقوله وحيٌ ولذلك اتبعه النبي صلى الله عليه وسلم والتزمه.
هذا بعض ما في هذا الحديث من الفوائد، أسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.