الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل: عن ميمون بن أَبي شَيبة ـ رحمه الله ـ أنَّ عائشة ـ رَضي الله عنها ـ مَرَّ بِهَا سَائِلٌ، فَأعْطَتْهُ كِسْرَةً، وَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ عَلَيهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ، فَأقْعَدَتهُ، فَأكَلَ، فقِيلَ لَهَا في ذلِكَ رضي الله عنها؟ فقَالتْ: قَالَ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» رواه أبو داود (4842)
يقول الإمام النووي ـ رحمه الله ـ: لكن ميمون لم يدرك عائشة ـ رضي الله عنها ـ وقد ذكره مسلم في أول صحيحه فقال: وقد ذكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ننزل الناس منازلهم، وَذَكَرَهُ الحَاكِمُ أَبُو عبد الله في كتابه مَعرِفَة عُلُومِ الحَديث، وَقالَ: هُوَ حديث صحيح. شرح صحيح مسلم للنووي (1/19)
هذا الحديث الذي فيه هذا الخبر هو من نقل ميمون، ولم يكن قد أدرك عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ أي لم يلتقي بها، لم يسمع منها ـ رضي الله تعالى عنها ـ ولهذا ضعف جماعة من العلماء هذا الحديث. الأرناؤوط في تخريح سنن أبي داود (7/211) ، وقال آخرون: بل هو صحيح. شرح النووي على صحيح مسلم (1/19)، وعلى كل حال ما دلَّ عليه الحديث هو مما توافرت في الدلالة عليه نصوص كثيرة وأحاديث عديدة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو من العدل والقسط الذي أمر الله به.
يقول ـ رحمه الله ـ: أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ مرَّ بها سائل، هذا السائل قد يكون سائل حاجة من حوائج العلم أو الأمور، وقد يكون سائلًا أي فقيرًا يسأل مالًا أو يسأل عطاءً، مرَّ بها سائلًا فأعطته كسرةً أي أعطته شيئًا من الطعام، والكسرة شيءٌ قليل.
ثم مرَّ بها رجلٌ عليه ثيابٌ وهيئة يعني له من المظهر ما يدل على علو منزلته ورفعة مكانته فأقعدته أي أنها لم تكتفي بإعطائه شيئًا، إنما أقعدته، فقيل لها في ذلك؟ يعني سُئِلت لماذا فعلت مع السائل ما فعلتِ، ومع هذا الذي فعلتيه؟ فقالت ـ رضي الله تعالى عنها ـ: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» أي أعطوهم من الحقوق والتقدير والمعاملة ما يليق بهم وما يتناسب مع أقدارهم، والناس متفاوتون في أقدارهم ومنازلهم في العلم والدين والمنزلة عند الناس والجاه والقبول، وثمة معايير متعادلة ومختلفة في تفاوت الناس، وهذا لا يعني أن يبغي بعضهم على بعض، ولا أن يحتقر بعضهم بعضًا، ولكن ذلك تقدير الله ـ تعالى ـ الذي جعل الناس على منازل ودرجات يرفع من يشاء ويضع من يشاء جل في علاه.
وهذا التفاوت كما ذكرت لا يوجب بغيًا ولا علوًا على الخلق, كما أنه لا يوجب احتقارًا ولا استخفافًا بأحد، فلعل مدفوعًا بالأبواب إذا سأل لم يعطى، وإذا شفع لم يُشفع يكون كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لو أقسم على الله لأبره» صحيح البخاري (2703) فليس الشأن في ما يكون في نظر الناس؛ لكن الناس مأمورون بأن ينزلوا الناس منازلهم، وأهل الإيمان مأمورون بأن ينزلوا الناس منازلهم أي يعطوا الناس أقدارهم، وذاك أدعى للقبول والألفة بين الناس وأبعد عن البغي والظلم وهو من مقتضى العدل الذي دلت عليه الأدلة في الكتاب والسنة.
هذا الخبر فيه جملة من الفوائد:
من فوائده: أن لا يبخل الإنسان بالإحسان ولو كان شيئًا يسيرًا، فإن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ لما مرَّ بها السائل أعطته كسرةً ولم تستقل الكسرة مع قلتها، لكنهم ـ رضي الله تعالى عنهم ـ كانوا مبادرين إلى بذل كل ما يمكنهم بذله ولو كان قليلًا، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» كما في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.صحيح البخاري (1417) وصحيح مسلم (1016)
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ«يا نِساءَ المُسْلِماتِ، لا تَحْقِرَنَّ جارَةٌ لِجارَتِها، ولو فِرْسِنَ شاةٍ»صحيح البخاري (2566) وصحيح مسلم (1030)
يعني ولو كان اللحم الذي في ضلف الشاة، وهو شيءٌ يسير زهيد لا يغني في الغالب، لكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ندب إلى بذل كل إحسانٍ ممكن، وإلى قبول كل إحسانٍ مبذول ولو كان قليل، فلا يحقر الباذل شيء من الإحسان, كما أن الآخذ لا ينبغي له أن يحقر شيئًا من إحسان الخلق إليه، بل يجعل ذلك محل إجلالٍ وتقدير، فالإجلال والتقدير لا على قدر العطاء، إنما على بذل النفس وكرمها ومبادرتها إلى الإحسان.
وفيه أيضًا:أن من كان ظاهره شريفًا عاليًا رفيع المقام، فإنه يُعمل بما دلَّ عليه ظاهره، أما المخابر فإلى الله ـ تعالى ـ والبواطن إلى الله ـ عز وجل ـ فعائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ لما رأت من هذا الرجل الثياب والهيئة, أنزلته منزلته بناء على ما ظهر من حاله من أنه من ذوي الهيئات، فأقعدته أي أكرمته بالضيافة والإقعاد، وليس فقط بقضاء حاجته وانصرافه.
ثم من فوائده:أن الإنسان إذا استشكل من عمل العالم وصاحب الفضل شيئًا, فينبغي أن يسأل عنه بأدبٍ ولطف ليستبين سبب الفعل ويتبين الحكمة منه، فعائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قيل لها في ذلك, فأجابت وبينت بما استفادته من قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ» أي أنزلوهم المنازل التي تليق بهم.
وفيه من الفوائد:أن إنزال الناس منازلهم مما أمر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنزال الناس منازلهم أي معاملتهم بما يستحقونه من المعاملة، ولا شك أن الناس يتفاوتون كما تقدم فالقريب له منزلة، والجار له منزلة والغريب له منزلة والصاحب له منزلة، وأهل الإسلام عمومًا لهم منزلة، فينبغي أن ينزل الناس منازلهم، وهي كما ذكرت تتفاوت تفاوتًا باعتباراتٍ متعددة.
وفيه: أن تفاوت الناس في منازلهم ليس مما ينفي ما يكون من تساويهم في بعض الأمور، فإن إنزال الناس منازلهم لا يعني ذلك أن يُبخس أحدٌ أو يُظلم ففي الحدود على سبيل المثال ليس ثمة فرقٌ بين عليٍ وشريف، وبين وضيعٍ ومتدني، بل الجمع في إقامة الحدود على وجهٍ واحد ولذلك قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أتشفع في حدٍ من حدود الله والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» صحيح البخاري (4304) وصحيح مسلم (1688).
فدل ذلك على أن إنزال المنازل لا يلغي ما سوت الشريعة الناس فيه من إقامة الحقوق وسائر ما وقع الاستحقاق فيه بين الناس على درجةٍ واحدة، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتفطن إلى هذا المعنى، وأن إنزال الناس منازلهم لا يعني أن يأخذ الإنسان ما لا يستحق أو أن يُحابى فيما يجب تسويته بغيره، فإن ذلك من الظلم ومن إنزال الحديث في غير مواضعه، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.