الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل: عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بنُ حِصْن وهو ممن أسلم على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان له مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جملة من المواقف، وحصل منه ردة بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم إنه عاد إلى الإسلام, فعاد إلى ما كان عليه من المنزلة والمكانة.
"قَدِمَ عُيَيْنَةُ بنُ حِصْن فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أخِيهِ الحُرِّ بنِ قَيسٍ،" بن حصن أي نزل على قريبٍ له وهو ابن أخيه الحر.
"وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمرُ رضي الله عنه " يعني الحر كان صاحب منزلة عند عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ وكان يدنيه، قال في بيان سبب القرب والإدناء هل هو النسب أو ما إلى ذلك.
قال: "وَكَانَ القُرَّاءُ أصْحَاب مَجْلِس عُمَرَ" كان القراء أي العلماء.
"أصْحَاب مَجْلِس عُمَرَ وَمُشاوَرَتِهِ" وهذا بيان لسبب تقريبه الحر وإدنائه من عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ فهو من أصحاب العلم.
قال ـ رضي الله تعالى عنه ـ: " كُهُولًا كاَنُوا أَوْ شُبَّانًا" أي كانوا على القرب من عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ على هاتين الحالين، فلا نظر في ذلك إلى السن، إنما إلى ما يحمله أولئك من العلم ولذلك قال: "كُهُولًا" وهم من تقدم في العمر قيل من الثلاثين إلى الأربعين، وقيل من ثلاثٍ وثلاثين إلى خمسين، وشبابًا أي ومن كان دون ذلك.
فَقَالَ عُيَيْنَةُ بن حصن لابْنِ أخيهِ الحر: "يَا ابْنَ أخِي، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأمِيرِ" يعني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
"فَاسْتَأذِنْ لِي عَلَيهِ" أي اطلب الإذن لي عليه أي أدخل عليه، فاستأذن له الحر فدخل عيينة على عمر.
"فاسْتَأذَن له، فَإذِنَ لَهُ عُمَرُ ـ رضي الله عنه ـ فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: هِي يَا ابنَ الخَطَّابِ" وهذا استفتاح لكلام سيقوله، وفيه نوع من المقدمة لكلامٍ قد يكرهه السامع.
"فَواللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلا تَحْكُمُ فِينَا بالعَدْلِ" وهذا من سوء الحديث مع عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ وهو خلفية المسلمين وأمير المؤمنين، فاتهمه بأمرين:-
1- أنه يمسك العطاء فلا يعطي ما يكون من بيت المال الذي يغني به أهل الإسلام.
2- ولا يحكم بالعدل أي أنه يظلم في الحكومة، وهذه تهمة كبيرة، فكان أن غضب عمر رضي الله تعالى عنه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: "فَغَضِبَ عُمَرُ رضي الله عنه حَتَّى هَمَّ أنْ يُوقِعَ بِهِ" أي أن يعاقبه على هذا الكلام الذي قاله من غير بينةٍ ولا برهان، وقد تجاوز فيه الحد والأدب الذي ينبغي أن يكون عليه الإنسان مع ولي الأمر، ومن له الولاية على أهل الإسلام.
"فَقَالَ لَهُ الحُرُّ" أي قال الحر لما رأى غضب عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ، قال: "يَا أميرَ المُؤْمِنينَ" وهذا من الأدب في الخطاب فخاطبه بوصفه يا أمير المؤمنين، "إنَّ الله ـ تَعَالَى ـ قَالَ لِنَبيِّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾الأعراف آية (199)" فذكره بهذه الآية التي تضمنت جوامع الأدب في معاملة الخلق، فإن أجمع آية في خصال البر وحسن الخلق وكريم السجايا هذه الآية الكريمة ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾.
﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ يعني لا تكلف الناس أكثر مما تسمح به نفوسهم في معاملتك فلا تطالب الناس بأن يوفوك كامل ما لك من الحق والمنزلة.
﴿وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ أي وأمر بما يكون صلاحًا مما أمرت به الشريعة.
﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ أي ولا تمضي في النظر ومقابلة الجهل بالجهل، بل أعرض عن الجاهلين، والجاهلون هم كل من لا يُحسن في معاملته سواءً كان ذلك بتجاوزٍ بلفظٍ أو عمل، هذا معنى قوله: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾.
قال الحر ـ رضي الله تعالى عنه ـ بعد أن ذكَّر عمر بهذه الآية قال: "وَإنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ" يعني هذا الذي تكلم بهذا الكلام من الجاهلين الذين يدخلون في قوله تعالى: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾، ومقتضى الاعتراض عنهم عدم الاكتراث بما يقولون، وعدم الانفعال لما يصدر عنهم، وعدم مؤاخذتهم على ما يقول وما يتكلمون به.
"واللهِ مَا جَاوَزَهاَ عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عليه" يقول ابن عباس: والله، يقسم أن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ ما جاوزها، لم يتجاوز هذه الآية بل وقف عندها وعمل بمقتضاها.
"وكَانَ وَقَّافاً عِنْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى" كان وقَّافًا هذا من مزاياه ـ رضي الله تعالى عنه ـ يشهد له بذلك عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن يشهد لعمر بن الخطاب يقول: "وكَانَ وَقَّافاً عِنْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى" يعني إذا ذُكِّر بأمرٍ من كلام الله وكلام رسوله لم يتجاوز ذلك فهو منقادٌ لأمر الله فيكظم غيظه ويمنع نفسه عن معاقبة هذا في هذا الموقف طاعةً لله ـ عز وجل ـ وعملًا بما ذكر به من قوله ـ تعالى ـ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾.
وليس هذا في هذا الموقف بل في كل المواقف "وكَانَ وَقَّافاً عِنْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى" رواه البخاري.صحيح البخاري (4642)
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:-
من فوائده:أن الجفاء والغلظة مما يدعو إلى النفرة ويبعد الإنسان عن مواقع الهدى والخير.
وفيه من الفوائد:الشفاعة للناس في تحصيل مقاصدهم، وفيه قبول شفاعة الشافع فيما لا ضرر فيه، فإن عمر قبل شفاعة الحر في إدخال عيينة عليه.
وفيه:أن الإنسان ينبغي له أن يكون وقَّافًا عند كتاب الله عز وجل، وإذا ذُكِّر تذكر قال الله تعالى في وصف عباد الرحمن قال:﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾[الفرقان:73] ، بخلاف أولئك الذين إذا ذكروا بآيات الله أخذتهم العزةبالإثم كما قال تعالى:﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ﴾ [البقرة:206].
فينبغي للإنسان أن يكون رجَّاعًا يحبس نفسه ويمنعها، ينبغي أن يكون رجَّاعًا ويحبس نفسه ويمنعها من أن تنفعل على نحوٍ يخرجها عن حدود الشريعة.
وفيه: علو مقام أهل العلم ولو صغرت أسنانهم فإن عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ كان يقربهم ويدنيهم، فأهل العلم مجالستهم والقرب منهم فيها من خيري الدنيا والآخرة ما ينبغي أن يحرص عليه الإنسان وأن لا يكون بعيدًا عن أهل الفضل والعلم، فإنهم يفيدونهم في علمهم وفي حكمتهم وفي تنبيههم، وهذا حتى لو كان الإنسان عالي المقام بعلمه، فعمر من أعلم الناس في زمانه، بل هو أعلم الناس في زمانه ـ رضي الله تعالى عنه ـ ومع ذلك كان يحتاج إلى مشورة أهل العلم وأهل الفضل، وكان يدنيهم فيجلس معهم وينتفع بهم.
وفيه: أن الإنسان وإن صغر سنه، فإنه إذا اقتضى أن ينبه من هو أكبر منه سنًا ومقامًا وعلمًا فإنه ينبهه، لكن ينبغي أن يكون برفق وبما يكون موجبًا للقبول.
وفيه: شهادة ابن عباس لعمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ بهذه الميزة العظيمة أنه كان وقَّافًا عند كتاب الله ـ عز وجل ـ ويا لها من خصلةٍ جليلة فإن المؤمن لا يتجاوز قضاء الله وقضاء رسوله، والشاهد من هذا الحديث بيان توقير أهل العلم بتقريبهم وأهل الفضل بإدنائهم والانتفاع بما يكون من كلامهم وتوجيههم، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.