الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
فقد نقل النووي ـ رحمه الله ـ في باب توقير العلماء والكبار وأهل الفضل: عن أَبي سعيد سَمُرة بنِ جُندب ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: لقد كنت عَلَى عَهْدِ رَسُول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غُلامًا، فَكُنْتُ أحْفَظُ عَنْهُ، فَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ القَوْلِ إلاَّ أنَّ هاهُنَا رِجَالاً هُمْ أسَنُّ مِنِّي. صحيح مسلم (964)
هذا الخبر عن سمرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ يخبر فيه عن أدبٍ ينبغي أن يراعى يقول ـ رحمه الله ورضي عنه ـ: " لقد كنت عَلَى عَهْدِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم غُلامًا" يعني صغيرًا في السن وهذا الخبر لبيان سبقه إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ نعومة أظفاره، منذ صغره وهو مقدمة للخبر الذي يليه وهو قوله: " فَكُنْتُ أحْفَظُ عَنْهُ" يعني لصغر سني وصفاء ذهني كنت أحفظ عنه وأضبط عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أقواله وأعماله وما يكون منه شيئًا كثيرًا.
ولذلك قال ـ رضي الله تعالى عنه ـ "فَمَا يَمْنَعُنِي مِنَ القَوْلِ" يعني بيان ما كنت قد تلقيته عنه وحفظته عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إلاَّ أنَّ هاهُنَا" يعني في المكان الذي هو فيه ـ رضي الله عنه ـ وقد نزل البصرة، "رِجَالاً هُمْ أسَنُّ مِنِّي" يعني أقدم سنًا، أكبر سنًا مني، فكان ـ رضي الله تعالى عنه ـ قد امتنع عن الإخبار ببعض ما كان يحفظه لوجود من هو أسن منه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، متفقٌ عليه.
هذا الحديث فيه جملة من الفوائد:-
من فوائده: توقير الكبير المتقدم في السن والعلم ولو كان الإنسان عنده من المعرفة ما عند الأكبر منه فإنه يقدمه لأجل سنه.
وفيه: أدب سمرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ فإنه لم يكن يتقدم على من هو أسن منه مراعاةً للسن، وفي هذا عملٌ بهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفيه أن تعلم العلم في الصغر مما يكون عونًا للإنسان على الحفظ والضبط والفهم وكثرة المعرفة والعلم ولذلك قال: كنت غلامًا فأحفظ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعني من العلم ما أحفظه بسبب صغر سني.
وفيه من الفوائد:أن الإنسان قد يمتنع عن بيان العلم اكتفاءً ببيان غيره، فبذل العلم فرض كفاية, فإذا كان ثمة من يكفي في بذله وبيانه فإنه يحصل بذلك المقصود، ولا يجب على الإنسان أن يبين في مثل هذه الحالة، فبيان العلم الذي لا يعذر به الإنسان هو مما كان يتوقف على بيانه كما قال الله ـ تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران:187]، هذا في كل علمٍ يجب بيانه ويتعين على الإنسان أن يظهره، فأما إن كان ثمة من يبينه أو يظهره فإنه في هذه الحال يكون بيانه فرض كفاية وليس فرض عين، فإذا قام به من يكفي سقط الطلب عن الباقين.
وفيه: أن الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ لم يكونوا يقصدون بما علموه العلو على الخلق بل قصدوا بذلك أن ينفعوا أنفسهم وأن يبينوا للناس ما يمكن أن يحتاج إليه من بيان، فإذا كانت الحاجة غير داعية, فإن الإنسان يمتنع عن الكلام اكتفاءً بغيره، بخلاف الذي يريد بعلمه صرف أوجه الناس إليه، فإنه يتكلم ويتسابق مع غيره إلى الكلام في ما يكفيه أن يبينه غيره ولهذا ينبغي للإنسان أن يلاحظ نيته، وأن يكون غرضه من كل ما يقوله ومن كل ما يتكلم به هو إبانة الحق وتبليغ الشرع وهداية الخلق لا أن يصرف وجوه الناس إليه، فإن ذلك مما ينزع البركة ويخشى أن يكون مما يقال فيه للإنسان يوم القيامة تعلمت وقرأت القرآن ليقال قارئ وقد قيل أجارنا الله ـ تعالى ـ وإياكم من هذا المآل, وذلك المصير والله ـ تعالى ـ أعلم, وصلى الله وسلم على نبينا محمد.