×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / برامج المصلح / الدين والحياة / الحلقة (235) سرعة الزمان وتقضي الأعوام

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:2213

المقدم:بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

أيها الأحبة! أهلا ومرحبًا بكم أينما كنتم معنا في هذا اللقاء الذي يسعدنا من خلاله أن نستضيف ضيف هذا البرنامج الذي نحن بصدده الآن برنامج "الدين والحياة" هذا البرنامج الأسبوعي الذي يسعد بصحبتكم وصحبة ضيفنا العزيز لهذا البرنامج ضيفنا الدائم الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، والذي يصحبنا في هذه اللحظات.

 دكتور خالد! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياك الله.

الشيخ:وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبا بك، حياك الله أخي عبد الله، وحيا الله الإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.

المقدم: أهلا ومرحبا بك دكتور خالد، وحياكم الله أنتم أيها الإخوة والأخوات أينما كنتم، وأسعد بصحبتكم أنا عبد الله سعد بن عزة، ويشاركني في هذا البرنامج من التنفيذ والإخراج الزميل لؤي الحلبي.

أيها الأحبة! برنامجنا هذا كما قلنا برنامج أسبوعي، نطرح من خلاله قضايا وموضوعات تهم الإنسان المسلم في حياته في هذا اليوم.

 أيها الأحبة! وفي هذه الحلقة نتعرض إلى موضوع مهم جدًّا ربما يهتم به كثير من الناس، أو ربما لا يلتفتون إليه كثيرًا، هذا الموضوع هو التسارع العجيب في أيامنا وشهورنا، بل وفي أعوامنا ما نستيقظ أيها الأحبة من نومنا في أول النهار حتى نقوم في معترك المعاش، وتدور بنا دورة الحياة، وفجأة إذا نحن على فروشنا وقد أنهكنا التعب، قد انتهى هذا اليوم ونبحث عن الراحة لنبدأ يومًا جديدًا بنشاط جديد، فكيف بدأ هذا اليوم، وكيف انتهى، وماذا قدمنا فيه؟ هل سيعود بعد ذلك؟ أسئلة كثيرة أيها الأحبة نفرُّ منها ونصدُّ عنها، وربما يعني تمر علينا مرور الكرام، وأحيانًا نتذكرها فإلى متى هذا الغرور؟ وإلى متى هذا التناسي وعدم النظر إلى هذا الأمر بجدية بالغة؟ أليست هذه الأيام من أعمارنا؟ بلى إنها من أعمارنا وأصحاب العقول والأحلام دائمًا أيها الأحبة يتفكرون في مرور الأيام، ويعلمون أنها تقربهم من الختام، فيملؤونها بخير، وبأعمال صالحة.

دكتور خالد! لو تُحدِّثنا عن هذا التسارع العجيب في الزمن، في هذا الزمن خاصة، ونحن في آخر الزمان كما تعلم، ما هي العبر والعظات التي يمكن أن نستخلصها من هذا التسارع في الأيام والسنين بشكل عام؟

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية طيبة لك أخي عبد الله ولكل من يستمع إلينا عبر هذه الإذاعة المباركة، أسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يوفَّق للقول السديد والعمل الصالح الرشيد.

فيما يتصل بما أشرت إليه من سرعة تقضي الزمان، وتقارب الأوان، وتتابع الأيام لا شك أن تعاقب الليل والنهار في الجملة هو من مواضع الافتكار والادكار، وهو من آيات العزيز الغفار جل في علاه، وقد أخبر الله تعالى في كتابه الحكيم عن هذه الآية، وذكر أن المنتفع بها هم أصحاب العقول والبصائر وأصحاب الأفكار الحاضرة والعقول الراشدة، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ[آل عمران: 190]، ويقول تعالى: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ[يونس: 6]، ويقول -جل في علاه-: ﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ[النور: 44]، وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً[الفرقان: 62]، ليل يعقبه نهار، نهار يعقبه ليل ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان: 62]، هذا تنبيه إلهي للبشرية منذ خلقها الله –عز وجل-إلى هذه الآية التي هي مرافقة لحياتهم، فأعمارهم هي ليل ونهار، وأوقاتهم يجري على هذا التعاقب بين هذين الجديدين اللذين يُفنيان أعمارَ الناس، وتنقضي فيهما آجالهم، والعاقل البصير هو من افتكر وادَّكر واعتبر بهذا التعاقب.

الله –سبحانه وتعالى-جعل لنا من الآيات في الآفاق وفي الأنفس ما تستيقظ به القلوب وتعتبر وتتفطن وتتذكر وترجع وتدرك الغاية من وجودها، وتسعى لتحقيق هذه الغاية، فهذا التعاقب لليل والنهار على تقاربه هو محل الادكار والاعتبار، فالله تعالى لم يطل الأمد، بل جعل العبرة قائمة خلال أربع وعشرين ساعة في هذا الليل الذي يعقبه نهار، ومضي الوقت هو من محالِّ التفكر والاعتبار؛ ذلك أن الله تعالى خلقنا لعبادته وجعل محلَّ العبادة هو لحظات العمر ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[الملك: 2]، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملًا.

فهذا الزمان الذي هو دائر بين ليل ونهار يتعاقب على الناس، ويتكرر عليهم مدة أعمارهم، وتنقضي بها آجالهم هو محلُّ العمل، هو مستودع ما يكون مما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل.

ولهذا لفت الله النظر إلى هذا التعاقب الدالِّ على قدرة الله وعظمته، والدال على أن هذه الدنيا لا تدوم على حال، بل هي سريعة الزوال والتغير والتحول، فدوامها محال، فليل يعقبه نهار، وفي الليل من الأحوال ما يختلف عن أحوال النهار.

وفي كليهما ربٌّ عزيز غفار، يبسط يديه بالليل ليتوب مسيء بالنهار، ويبسط يديه بالنهار ليتوب مسيء الليل، فكلا الوقتين هو محلٌّ لشغل يقرِّب العبدَ من ربه، ويكتسب به صالحًا، يفوز به عند لقاء ربه ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ[الانشقاق: 6].

الملحظ الذي أشرتَ إليه أخي الكريم فيما يتعلق بسرعة تقضي الزمان وسرعة تعاقب الليالي والأيام هو مما يلاحظه الإنسان في زماننا هذا وقد أخبر به سيد الأنام صلوات الله وسلامه عليه.

ففي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال –صلى الله عليه وسلم-:«لا تَقومُ السَّاعةُ حتى يُقبَضَ العِلْمُ»يعني يُرفَع ويقلُّ، «حتى يُقبَض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن...»[صحيح البخاري:ح1036] إلى آخر ما ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم-.

تقارب الزمان للعلماء في معناه أقوال:

 فمنهم من قال: إن تقارب الزمان المقصود به سرعة تقضيه وسرعة زواله، فالسرعة في زوال الأيام وتقاربها هو من تقارب الزمان الذي أشار إليه النبي –صلى الله عليه وسلم-، فيقصر الزمان، وتقل مساحته حتى لا يفيق الإنسان إلا وقد انقضت الأعمار، وتعاقبت الأعوام، وفنيت الليالي والأيام، وهو يظن أنه لم يدرك شيئًا، ولم يحصل شيئًا.

أشار إلى هذا المعنى ما جاء في المسند من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ الْخُوصَةُ »[مسند أحمد:ح10943، وصححه ابن حبان: ح6842]، وهي: الخوص، واحتراقها سريع وشديد الفناء في وقت وجيز، فهذا التفسير النبوي لتقارب الزمان بكون السنة كالشهر، وكون الشهر كالجمعة، وكون الأسبوع كاليوم، وكون اليوم كالساعة يحس به الناس اليوم في هذا التعاقب للأعوام، فما أن يدخل عام إلا وينقضي سريعًا، ثم إذا تأمَّل الإنسان هذه السرعة وجد أنها مضت تلك الأيام وانقضت تلك الليالي والإنسان في غفلة، وفي عدم إدراكه لهذا التقارب السريع وهذا الانقضاء المتتابع الذي يقضي به الإنسان عمره، فإذا تأمل والحصيلة قليلة والإنجازات زهيدة مع تعاقب الأيام والأشهر أو الأسابيع والأشهر والأعوام.

وهذا من تقارب الزمان فمن تقارب الزمان قِصَرُه وسرعة تقضيه مع قلة البركة فيه، فإن قلة البركة مما فسر به قول النبي –صلى الله عليه وسلم-في قوله: «لا تقومُ الساعةُ حتى يتقاربَ الزمانُ» أي يكون الإنجاز فيه ضئيلًا وجيزًا لا يوازي ما كان الناس ينجزونه في سالف زمانهم، وهذا من التقارب المعنوي وذهاب البركة من الوقت.

إذًا ما أشرت إليه هو مما يندرج في هذا المعنى الذي ذكره النبي –صلى الله عليه وسلم-في قوله: «لا تقومُ الساعةُ حتى يتقاربَ الزمانُ»، ومن المهم في معالجة هذا الأمر بحيث يسلم الإنسان من عواقب هذا التسارع وهذا التعاقب أن يفتح الإنسان عين قلبه بالاعتبار والادكار في تعاقب الليالي والأيام، فإن الأيام تمضي والليالي والأيام تنقضي، ولابد للإنسان من زاد يتزود به إلى لقاء ربه.

كلنا سنلقى الله ما منا إلا وسيلقى الله –عز وجل-بنص القرآن ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ[الانشقاق: 6]، هذه مما قضاه الله تعالى وقدره على بني آدم أنهم في هذا المعاش في هذه الدار يكدحون، وكل يكدح في باب من أبواب حياته، ومجال من مجالات عمله كلٌّ ميسَّر لما خُلق له، ثم المآل والمنتهى أن يلقى الله –عز وجل-.

فالسعيد من لقي الله –عز وجل-بزاد يسرُّه، وبعمل صالح يفرح به عند لقاء ربه جل في علاه، والخاسر هو من أضاع أيام عمره في لهو وفي غفلة عما هو متوجه إليه، أما السائر إليه الذي يظن أن الأيام والليالي إنما هي محالٌّ للهو وعبث، فتمضي أيامه، وتنقضي لياليه، ويفنى عمره وهو في غفلة لا يبصر ولا يدرك ولا يتزود للقاء ربه كما أمره الله تعالى بقوله: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[البقرة: 197].

من المهم أن يكون عندنا حضور ذهن في مضي الوقت، فالوقت مُضيُّه هو مضيُّ الأعمار، انقضاؤه هو زوال الأنفاس، الليالي والأيام كلما مضت فإنما تدنو بك إلى أجلك، لذلك كل يوم يمضي إنما هو يدني من الأجل كما قيل، فاستشعار الإنسان هذا المعنى واستحضاره هذه الحقيقة مما يوقظه ويحثه على أن يبادر إلى الاغتنام، وإلى أن يعمر أيام عمره بسعادة، ويعمر أيام عمره بما يُسرُّ به عند لقاء ربه جل في علاه.

هذا أمر لابد من استحضاره، ولابد من التنبه إليه، وهو مفتاح الانتفاع بالليالي والأيام أن يكون الإنسان حاضر القلب معتبرًا في هذا التعاقب الذي تجري عليه الأيام.

أخي عبد الله أيها الإخوة والأخوات! من الناس من تمشي السنوات وهو لا يدَّكر ولا يعتبر في حين أن الله –عز وجل-ندبنا إلى الاعتبار والادكار بمضي الليل والنهار ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان: 62]، فجعل الله الاختيار بأن تتذكر بهذا التعاقب، ونحن في نهار ثم يعقبه ليل هذا التحول ما يوقظ النفوس؟ ما ينتبه به الإنسان إلى أين هو صائر؟ ما منتهى هذا التعاقب؟ كل هذه مذكِّرات وعِبر يعيها أصحاب القلوب وأصحاب البصائر، ومن رحمة الله أن الله جعلنا محطات يومية تذكرنا ما نحن فيه، تذكرنا ما نحن صائرون إليه.

هذه المحطات اليومية لو لاحظت أنها في تحولات الزمان في تنقلات في اليوم، فالفجر انتقاله من ليل إلى نهار الظهر وسط النهار، العصر قريب من انقضاء النهار، المغرب به ينقضي الزمان، العشاء به ينتصف الليل وتشتد ظلمته، وكل هذا مما يدعو إلى التذكر والاعتبار.

هذه المحطات في الصلوات الخمس التي فرضها الله تعالى على عباده، على كل مؤمن ومؤمنة، ذكر أو أنثي، صغير أو كبير من أهل الإسلام هي مما ينبغي للإنسان أن ينتفع به في إيقاظ نفسه وتنشيط ذهنه في الاعتبار وهذا التعاقب للزمان الذي يعيشه، فيزداد قربًا من الله –عز وجل، -ويوقن أن العمر لا يبقى مع الأيام والأعوام وتعاقبها.

المقدم: دكتور خالد! الحقيقة يعني كلام مؤثر جدًّا حقيقة ، كثير من الناس يجهل هذا الأمر جهلًا كبيرًا ،أو ربما يتجاهله، يتجاهل قيمة الوقت والعمر، نفرح شيخ خالد بمغيب شمس كل يوم، ربما كثير من الناس يفرحون بمغيب شمس كل يوم وقد انقضي وأدوا فيه أعمالًا، وهم لا يدركون أن هذا نهاية لآجالهم لن تعود أبدًا، صحائف تُطوى، وأعمال تحصى، وأنفاس تقربنا إلى الأجل وتبعدنا عن الأمل، قصر الأمل دكتور خالد لابد أنه يُثمِر المبادرة إلى حسن العمل، كيف يستفيد الإنسان إذا نظر إلى هذا الأمر من هذه الزاوية؟ من أن الأمل قصير، والعمر قصير، والدنيا زائلة، وتسير بتسارع ربما لا نهتم أو ندرك ولكن ربما لا ننتبه له إلا في نهاية المطاف، أو قبل نهايتهن كيف يتذكر الإنسان، أو كيف يستطيع الإنسان أن يستثمر ذلك القصر في هذا الأمل إلى المبادرة إلى حسن العمل؟

الشيخ: أخي الكريم! هو فيما يتصل بالزمان الله تعالى من رحمته قسم الزمان فلم يجعله على حال واحدة، وجعل تقسيمه في اليوم الواحد على أحوال، فجعل ليلًا ونهارًا ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ[القصص: 71-72] فالله –عز وجل-من رحمته أن قسم الزمان في اليوم الواحد إلى أحوال توجب الادكار والاتعاظ والاعتبار، وتنقضي هذه الأحوال، فالنهار ينقضي، والليل ينقضي وهلمَّ جرًّا في سائر التقسيم للزمان، أعوام وشهور وأسابيع وأيام وكلها تنقضي، ويحسبها الإنسان ويحصيها سيعرف العام والشهر والأسبوع واليوم ويدرك ذلك وبه تقوم مصالحه.

ومن عظيم شأن الزمان أن الله تعالى لفت الأنظار إلى تقسيم الزمان، فأقسم به –جل وعلا-في كتابه في مواضع عديدة، أقسم الله بالعصر الذي هو الزمان قال: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ[العصر: 1-2]، أقسم الله بالزمان.

﴿وَالْعَصْرِ﴾هنا للعلماء فيه قولان:

 منهم من قال: العصر هو الزمان، يعني مدة حياة الإنسان، المدة التي يعيشها الإنسان ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[العصر:2-3]، أقسم الله تعالى بالليل والنهار وهما القسمة التي ينتهي إليها العصر، العصر إما ليل وإما نهار.

الزمان هو ليل ونهار، أقسم الله تعالى بالفجر قال: ﴿وَالْفَجْرِ *وَلَيَالٍ عَشْرٍ[1-2]، أقسم الله تعالى بالضحى وهو جزء من اليوم ﴿وَالضُّحَى *وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى[الضحى: 1-2]، أقسم الله تعالى بالعصر الذي هو آخر النهار، فقال: ﴿وَالْعَصْرِ﴾ على التفسير الثاني في معنى قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ[العصر: 1-2].

هذا الإقسام كله للتنبيه إلى شرف الزمان، وعظيم خطره في تحقيق الغاية من خلق الإنسان، فإن الغاية من خلق الإنسان الطاعة والعبادة، والعبادة تستوعب كل زمن الإنسان بلا استثناء، قال الله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99]، أليس ثمة أجل ومنتهى لتحقيق العبودية لله –عز وجل-، بل هي في كل أحوال الإنسان، وفي كل مراحل معاشه.

ولهذا كان من الراشد الذي يدرك به الإنسان الرشد والخير أن يستشعر هذا التقسيم الإلهي للزمان، فيبادر لاغتنامه، ويبادر إلى عمارته بما يفيده وتصلح به حاله، والله –جل وعلا-في محكم كتابه ندبنا إلى عمارة أعمارنا وأوقاتنا بطاعته ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[الحج: 77]، ويقول: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[البقرة: 197]، والآيات الآمرة بالرشد والخير وعمارة الأوقات بالصالح والدوام على ذلك كثيرة، كما قال تعالى في الآية: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99]، وفي الآية الأخرى: ﴿وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102]، وهذا لا يمكن أن يتحقق هذا إلا بدوام العبادة والطاعة لله –عز وجل-.

مما يعيق الإنسان عن تحقيق هذه الغاية هو طول أمله، ومعنى طول الأمل أي مدُّ حبال الطمع في دوام الحال، فإن الإنسان كلما مدَّ حبال الأمل وطول الحياة واستجاب لهذا الذي يسكن قلبه بأنه لن يرحل، يرى الراحلين ويظن أنه من الباقين المخلَّدين، فيظن أنه مهما رأى من أحوال الموتى والمفارِقين من الأحباب والإخوان، ويظن أن هذا جرى على غيره، وينسي ويغفل أنه سيجري عليه.

ولهذا يخبر النبي –صلى الله عليه وسلم-في الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة قال: «لا يَزَالُ قلبُ الكبيرِ شابًّا في اثنتينِ» يعني لا يصيبه هرم ولا كِبَر في خصلتين؛ «في حبِّ الدنيا، وطولِ الأَمَل»[صحيح البخاري:ح6420]، فلا يزال قلب الكبير قويًّا نشيطًا في هاتين الخصلتين: في حب الدنيا، وذلك بكراهية الارتحال عنها والتعلق بها، وطول الأمل الذي يقتضي تأخيرَ العمل وتأجيلَه وعدم المبادرة إليه.

ولذلك كان ذلك من دواعي التعثُّر في السير لله –عز وجل-، ومن أسباب الشر الذي يقع فيه الإنسان، ولهذا قيل: مفتاح كل شرٍّ حبُّ الدنيا وطول الأمل، مفتاح كل شر يتورط فيه الإنسان هو طول أمله، واعتقاده أنه باق، وأن الموت ليس عليه جار، وأنه طويل البقاء في هذه الدنيا، فهو لا يستحضر قرب الرحيم ولا الاعتبار بالراحلين، بل هو في مضيٍّ فيما هو فيه من رغبة في البقاء واستمرار المعاش إلى ما لا نهاية.

ليس ثمة منتهى لهذه الرغبة، بل هي رغبة مستديمة، ولهذا يذكر عن بعض من طال عمره حتى بلغ ما يزيد على المائة أنه قال: وَهَنَ مني كلُّ شيء، أي ضعف مني كل شيء إلا طول الأمل، يعني مد الحبال العريضة في التعلق بالدنيا والاستمساك بها في حين أن الإنسان طول عمره موجب، طول العمر الذي يتجاوز الحد الغالب في حياة الناس لا يكون إلا مقارنًا لعافية يشق بها المعاش، ويضيق بها الإنسان على الحال سائمًا ضعيفًا، قد اعتراه من الوهن والمرض ما يجعله في المتبادر راغبًا في الرحيل، قليل أو ضعيف التمسك بهذه الدنيا، لكن طول الأمل ينسيه هذا.

ولهذا من أنفع ما يسلم به الإنسان من شرور الدنيا وآفاتها ويخرج به من أكدراها وضيقها أن يستحضر قصر العمل، أن يستحضر أن بقاءه في الدنيا قليل.

ولهذا النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم يذكِّر المؤمن بهذا المعنى في بيان الحال التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان في معاشه فيقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «كن في الدنيا كأنك غريبٌ، أو عابرُ سبيلٍ»[صحيح البخاري:ح6416] .

هذا التوجيه النبوي الذي ذكر فيه –صلى الله عليه وسلم-ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من الاستعداد والتهيؤ وعدم التعلق بالدنيا على نحو يعثر سيره إلى ربه، ويعيقه عن اكتساب والتزود بما ينفعه عند لقاء الله –عز وجل-فقال: «كن في الدنيا كأنك غريبٌ» يعني على هذه الحال وعلى هذا الوصف أن تكون كالغريب، ومعلوم أن الغريب في بلد لا يهتم ولا يسكن إلا لقضاء حاجة، فتجده سريع الارتحال، قليل الزاد، خفيف الحمل لأنه قريب الانتقال، وبالتالي لا تجده يعني يشتغل بتملك وتنفيذ وبسائر ما يكون من أحوال المقيمين؛ لأنه غريب قريب الارتحال عن هذا المكان، وأعلى منه منزلة هو عابر السبيل، وهو المارُّ الذي لا ينزل ولا يقرُّ، بل هو في سير وانتقال ولا يأخذ معه ولا يشتغل إلا بما يبلغه غايته وهدفه، فكان على هذه الحال، وقد ترجم النبي –صلى الله عليه وسلم-ذلك هو وأصحابه ترجمة عملية.

لذلك ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- راوي الحديث قال في ترجمة هذا كيف يحقق الإنسان أن يكون غريبًا أو عابر سبيل في معاشه قال: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح" وهذا قِصر العمل "وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء" وهذا قصر الأمل "وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"[صحيح البخاري:ح6416]، وهذا بيان أن قصر الأمل لا يتنافى مع صالح العمل، ولا يعني القعود وانتظار الأجل، بل يعني أن يسابق الإنسان لاغتنام الصالح، وذلك لأنه لا يدري متى يقوم؟ متى يرتحل؟ ومتى يموت؟ فهذا أمر مغيب ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ[لقمان: 34] فلا يدري الإنسان متى يرتحل وهو الرحيل لابد منه ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ[الزمر: 30]، فالموت قضاء الله المبرَم على بني آدم جميعًا، لكن ينبغي ألا نمدَّ حبالًا طوالًا وإنما نكون على تهيؤ واستعداد.

ومن كانت هذه حاله إذا أمسى لم ينتظر الصباح، وإذا أصبح لم ينتظر المساء، فإنه سيكون في غاية الجد في اغتنام أوقاته فيما يصلح دينه وفيما يصلح دنياه، وإليك هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهم بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «اضطَجَع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على حصيرٍ»والحصير هو المشغول من عسف النخل، «فأثَّر الحصيرُ بجِلْدِه» يعني كان للحصير أثر على جلد النبي –صلى الله عليه وسلم-فقال عبد الله بن مسعود: «بأبي وأمي يا رسول الله ألَا آذَنْتَني قبْلَ أنْ تنامَ على هذا الحصيرِ فأبسُطَ لكَ عليه شيئًا يَقِيكَ منه» يعني لو أخبرتنا وأعلمتنا أنك يعني نازل وجالس لوضعنا على هذا الحصير ما يقيك أثر خشونته التي أثرت على جلده «فقال: ما لي وللدُّنيا ما أنا والدنياإلا كراكبٍ استظلَّ تحتَ شجرةٍ ثم راح وتركها»[سنن الترمذي:ح2377، وقال:«هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» ]، هذا بيان التهيؤ والاستعداد، ولا يعني هذا تعطيل الدنيا، فإن الله خلقنا لعمارتها والاشتغال بما يصلح الإنسان فيها دينه ودنياه، والنبي –صلى الله عليه وسلم-يقول لسعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- وهو أحد العشرة المبشرين في الجنة، وهو في سياق الموت يقول: «إنَّكَ أنْ تَذَرَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»[صحيح البخاري:ح1295، ومسلم:1628/5]، فليس معنى قصر الأمل التعطيل للدنيا وعدم القيام بمشاغلها، وإنما المقصود تفريغ القلب من التعلق بها، ألا يكون قلبك متعلقًا بها، وألا تؤجل شيئًا من الصالح إلى الغد، وألا تشتغل بما يلهيك عن هدفك وغايتك من الوجود.

المقدم: وبنص الآية الكريمة يقول الله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا[القصص: 77]، لعلنا ننتقل إلى محور آخر دكتور خالد هذا كل حديثك يعني يدعونا إلى أمر لابد أن ننتبه إليه وهو محاسبة النفس.

الإنسان دكتور خالد خلال أيام حياته يمارس العديد من الأنشطة، ويتفوه بالعديد من الكلمات، ويتعامل مع الآخرين، قد تكون هذه الكلمات ربما فيها من الإيجاب للآخرين، وفيها من السلب يعني ما يعود عليه لا سمح الله بالضرر والإثم، كل هذه المواقف تتراكم داخل النفس الإنسانية وتترك آثارًا ربما سلبية، ما هو المخرج من مثل هذه الأمور التي قد يقع فيها الإنسان في ليله ونهاره، وعند تعامله وعند ذهابه ومجيئه حتى يستطيع أن يصفِّي نفسه مما هو سلبي منها كيف يحاسب الإنسان نفسه ويذرها سليمة بعيدة عن كل ما قد يعيق وصولها إلى مرضات الله –سبحانه وتعالى-؟

الشيخ: أخي الكريم! الله –عز وجل-أمرنا بأن نتفقد أعمالنا، وأن ننظر فيما نحن فيه من عمل وشغل، ويكون هذا سببًا ووسيلة للاستعداد لما سنستقبله في قابل أيامنا ومراحل أعمارنا، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ[الحشر: 18]، وتقوى الله هي فعل ما يرضيه واجتناب ما يغضبه ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ[الحشر: 18]، أمر الله تعالى كل نفس من ذكر أو أنثي، من شاب وشيخ وعجوز وشابة أن يتأملوا أعمالهم وما قدموا لأنفسهم ﴿مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ[الحشر: 18]، ما قدمته لغد، وغد هنا يشمل مستقبل أيام عمرك، ويشمل ما يكون بعد موتك، فإن الصالح يدرك ثمرة صلاحه في معاشه، ويدرك بعضَ نعيم ما يكون من ثواب العمل الصالح في الدنيا قبل الآخرة، وكذلك ما يكون بعد الموت، فإنه يوم الارتهان بالأعمال وحصر ما قدم من زرع في حياته ومعاشه.

الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18]، كرر التقوى في هذه الآية في أولها قبل الأمر بالمحاسبة، وفي آخرها بعد المحاسبة حتى يكون الإنسان على استحضار أن مما يتحقق به التقوى أن يكون رقيبًا عن نفسه.

ولهذا جاء عن عمر في الأثر المشهور: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا "[أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه:ح34459، وقال الألباني في الضعيفة: إسناده جيد]فإنه أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وهذا ما فيه شك أنه من حاسب نفسه حتى في أمور دنياه قبل لقاء من يحاسبه كان ذلك أدعى لنجاحه وتجاوزه، وتقويم ما يمكن أن يكون من خلل، فالمحاسبة ينتفع بها الإنسان تسديدًا للخل، وجبرًا للكسر، وتكميلًا للنقص، وزيادة للخير، فإن من حاسب نفسه يقف على نوع من الخلل في عمله، ونوع من النقص، ونوع من العثرات التي تورط فيها، يسدد ذلك ويجبر الكسر، ويكمل النقص ويستعتب فيما كان من هفوات وتقصير، وبالتأكيد إن محاسبته ستوقفه على شيء من الخير قدمه فيفرح به، وينشط للاستزادة منه؛ لعلمه بأنه إنما يفلح وينجح بتحقيق ما يرضي ربه جل في علاه.

ولهذا المؤمن قوَّام على نفسه، يحاسب نفسه، ويراجع ما يكون من نيته وقصده ومن عمله وقوله، فيكون رقيبًا على نفسه فيما صدر منه؛ لأنه يدرك أنه ما من شيء قام به إلا وقد أحصاه الله –عز وجل-، من قوله وفعله، من ظاهرة وباطنه، يقول الله –جل وعلا-في هذه الآية التي أمرنا بالمحاسبة فيها، قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَوَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ[الحشر: 18]، تتأمل النفس كل نفس ما الذي قدمت، ولا تغترُّ بالظواهر، فإن الله يعلم البواطن، ولذلك قال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ[الحشر: 18]، ما قال عليم قال: ﴿خَبِيرٌ﴾ والخبير هو العليم ببواطن الأمور وخفايا الأحوال، وما تكنُّه الضمائر وتخفيه الصدور ﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18]، وهذا حثٌّ على دقة المحاسبة، فإنه ما من شيء يكون من الإنسان إلا وقد حفظ ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ[الطارق: 4].

لذلك حاسب نفسك حتى تقوِّم مسيرتك، والله أذن لك بالرجوع والأوبة، وفتح لك باب الاستغفار والتوبة، فإنه لا يغلق حتى تبلغ الروح الحلقوم، وبالتالي ينبغي للإنسان أن يراجع نفسه، وألا يغترَّ بصالح عمله، وأنه يعني في ظاهرة عند الناس سليم، الأمور يعني لا تقتصر على صلاح الظواهر، لابد من العناية بالبواطن؛ فإنه قد يكون الإنسان في مظهره على حال مرضية عند الناس، لكن باطنه خرب، وهنا تكون الطامة الكبرى، فإنه لن يغنيك عند الله –عز وجل-يوم تبلى السرائر أنه قد قيل فيك كذا وكذا، فإن أول من تسعر بهم الناس أنواع ثلاثة؛ قارئ القرآن، ومتصدق، وعالم هؤلاء أول من سُعِّرت بهم النار، كانوا في الغاية، والغرض من هذه الأعمال كسب رضا الناس، ثناء الناس، صلاح الظواهر مع خراب البواطن، فعقبوا بنقيض قصدهم، وأظهر الله حقائقَ ما في بواطنهم من عدم الإخلاص والقصد له –جل وعلا-، فلم ينالوا في الآخرة إلا الخسار، أعاذنا الله من سوء المنقلب.

 فينبغي للإنسان أن يكون دقيقًا رقيبًا على نفسه، وأن يستحضر أن كل ما يكون من سره وعلنه الله به عليم، فليكن على نفسه رقيب، فهو على كل شيء شهيد، وبكل شيء محيط، أحصاه الله ونسوه، فينبغي أنا نبادر إلى التوبة والاستغفار والمحاسبة.

والمحاسبة ليست فقط على العظائم، بل حتى على الدقائق، حتى على النوايا والمقاصد، تحاسب نفسك وبقدر دقة المحاسبة تكون صلاح النتيجة والعاقبة.

المقدم: دكتور خالد! نحن يعني الإنسان لا يستطيع أن يرتب للناس أماكن في قلبه، ويرتبهم من حيث الأفضل إلى الأسوأ أفعالهم وممارستهم وسجاياهم هي التي تتولي ذلك، فأفعالنا أيها الإخوة وتصرفاتنا هي المسئولة عن ترتيب أماكن لنا في قلوب الناس وقلوب من حولنا، أفعالنا وممارستنا بل أفكارنا المعلنة بل حتى كلمتنا التي نتلفظ بها أو التي نكتبها هي الأثر التي يدل علينا، هي أيضًا المسوغات التي تشمل أو تشتمل عليها أوراق اعتمادنا لدى الآخرين من حولنا، بل لدى الحياة بكل تفاصيلها.

دكتور خالد! كيف يترك الإنسان لنفسه أثرًا طيبًا في الحياة بشكل عام وفي قولب الناس سواء كان في حياته أو بعد مماته؟

الشيخ: أعظم ما يكون من أثر الطيب للإنسان في معاشه وبعد رحيله هو أن يحسن صلته بالله –عز وجل-، وأن يكون الله –عز وجل-بين عينيه في كل ما يأتي ويذر، فإن ذلك مما يوجب قبول الله تعالى للعبد، وإذا قبِل الله تعالى العبد فتح له قلوب الناس، وجعل له من الأثر الطيب في نفوسهم ما ينجذبون إليه، الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا[مريم: 96]، أي محبة في قلوب الخلق لا سبب لها، بمعنى لا مصلحة بين المحب والمحبوب، هذا الذي يترك الأثر الصالح، ويترك الأثر الباقي بعد رحيل الإنسان، والأثر الصالح سواء في المعاش بالذكر الطيب الذي يناله من الناس، فقد تلتقي بشخص مرة واحدة في العمر ويبقى مثنيًا عليك، ذاكرًا لك، داعيًا لك بخير طيلة حياته، بل حتى بعد موتك يذكرك بخير؛ هذا بسبب ما يكون من الإحسان ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[البقرة: 195].

فينبغي للإنسان أن يعامل غيره بالإحسان، وأن يرقب الأجر والثواب في إحسانه من الله، لا ينتظر من الناس مقابلا على ما يكون من إحسانه، وبهذا يرتاح ويريح ويحفظ الودَّ ويحفظ الإحسان، فإن أكبر ما يحفظ به الإنسان إحسانه للخلق ألا يكون بين عينيه، بل أحسن وارقب الأجر من الله –عز وجل-، لا تنتظر من الناس ثوابًا، ولهذا في وصف الأبرار ماذا يقول العزيز الغفار؟ يقول –جل وعلا-: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ[الإنسان: 8]، يعني على شدة رغبتهم فيه ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا[الإنسان: 8]، هذا الفعل الصالح يعني إيثار مع بذل، ثم بعد ذلك قال: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ[الإنسان: 9]، جميل القصد، وحسن النية، والرغبة فيما عند الله ﴿لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا[الإنسان: 9]، قطع النظر عن المقابل والمكافأة من الخلق.

وهذا معنى ما ذكره ابن تيمية –رحمه الله- في طريق السعادة في معاملة الناس لتترك أثرًا طيبًا في قلوب الناس، أثرًا تذكر فيه بخير في دنياك وبعد رحيلك، عامل الله –عز وجل- في الخلق، ولا تعامل الخلق في الله، بمعنى معيار السعادة أن تطلب من الله ثواب إحسانك إلى غيرك، ولا تطلب من أحد مقابلًا لإحسانك إليه، عند ذلك تبلغ السعادة، وينشرح صدرك، وينفتح لك باب العطاء من الله –عز وجل-، ويُقبِل الله –عز وجل-بقلوب الخلق عليك.

أما إذا كنت كلما تقدمت بإحسان رقبته من فلان وفلان كان ذلك من أسباب الشقاء؛ لأن الإنسان مجبول على الجحود، وعلى الإمساك، وعدم مقابلة الإحسان بمثله، هذه مما جُبِل عليها كثير من الناس، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ[العاديات: 6]، إذا كان هذا في معاملة الله فكيف بمعاملة الخلق!

لهذا ترك الإحسان في نفوس الناس بطلب ثوابه وأجره من الله –عز وجل-، أيضًا كون الإنسان يحرص على أن يشتغل بالأعمال الصالحة التي يدوم نفعها بعد موته هو من ترك الخير والإحسان، تعليم العلوم، السعي في نفع الخلق، الصدقة الجارية، حسن التربية للأولاد والقيام عليهم بما فرض الله –عز وجل-فإنه «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ »[صحيح مسلم:ح1631/14]، كل هذه من أسباب ترك الأثر الطيب الذي يسعد به الإنسان.

وفي النهاية يا إخواني أذكِّر نفسي وإياكم بالأمنية التي يتمناها كلُّ مغادر وراحل عن هذه الدنيا ما هي أمنية الناس عند مفارقة الحياة؟

أنهم يطلبون البقاء والتأخير في الأجل لأجل التزود بصالح العمل، ليس لشيء آخر، قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ[المؤمنون: 99] لماذا؟ ﴿لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ[المؤمنون: 100]، وفي الآية الأخرى قال: ﴿رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ[المنافقون: 10]، أصَّدَّق بالتطوع والبذل، وأَكُن من الصالحين بالعمل الصالح، هذه أمنية الراحلين المغادرين.

فينبغي لنا ونحن في صحة وعافية وسعة وأمن أن نغتنم هذه النعم، وأن نسخرها بطاعة الله –عز وجل-، وأن نحذر الاغترار بالدنيا، ونظن أننا باقون فيها، فالله –عز وجل-يقول: ﴿فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ[لقمان: 33]، فالدنيا مهما طابت وزانت فهي للاختبار، «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ»[صحيح مسلم2742/99]

فينبغي لنا أن نحرص على عمارة أوقاتنا بطاعة الله ونفع الخلق بالراشد من القول والعمل فيما يصلح به معاشنا ومعادنا، ولنسأل الله الإعانة والتوفيق في صالح العمل وحسن الختام، أعاننا الله وإياكم على الرشد في السر والعلن.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

المقدم: شيخ خالد! بارك الله فيك سئل أحد الحكماء أيها الإخوة والأخوات لماذا تحسن إلى من أساء إليك؟ وتصل من يقاطعك؟ فقال: لأني بالإحسان أجعل حياتهم أفضل، وأجعل يومي أنا أجمل، ومبادئي تكون أقوى، وروحي أنقى، ونفسي أصفي، وأترك أثرًا طيبًا لمن بعدي، إنها خلاصة الإحسان  والمحبة، وخلاصة الحكمة كلها، ولو أضفنا إليها الغاية من الإيمان بالله –عز وجل-هي أكبر دافع إلى الإحسان إلى الآخرين، والحصول على رضا الله –عز وجل-، لتكتمل هذه الخلاصة، وتغطي حياة الإنسان كلها وآخرته، هذه الحياة كلها وأيضًا ما تبقى له بعد موته.

دكتور خالد سعدنا بصحبتك خلال الدقائق الماضية، استمعنا إلى حديثك الشيق وكان موضوع حلقتنا أيها الإخوة والأخوات مؤثرًا جدًّا، فكلنا يحتاج إلى أن يراجع نفسه، وأن ينتبه لهذه الدنيا القصيرة التي ربما يغترُّ الإنسان فيها بطول الأمل، وينسي نفسه، ولا يتذكر إلا في نهاية المطاف، نسأل الله –سبحانه وتعالى- أن يوفقنا إلى حسن العمل الصالح، وأن يجعلنا من الذين يغتنمون أوقاتهم فيما يعود عليهم بالنفع والفائدة، نشكرك دكتور خالد، شكرًا جزيلًا، ونسأل الله –سبحانه وتعالى- أن يجزيك خير الجزاء وأن يجعلك دائمًا وأبدًا في صحة وعافية، ونرجوه –عز وجل-أن نلتقي بك في حلقة الأسبوع القادم وأنت بخير وصحة وعافية.

الشيخ: آمين، بارك الله فيكم، وأسأل الله التوفيق والسداد لي ولكم والعبرة والاتعاظ، وأن يجعل مستقبل أيامنا خيرًا، وأن يغفر لنا ما كان من خطأ وزلل، وأن يمنَّ علينا بشكر نعمه، وأن يوفق ولاة أمرنا لما يحب ويرضى، وأن يديم علينا فضله بالاجتماع والأمن والسلامة والإسلام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

 

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات94001 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات89900 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف